يتطرق الدكتور محمد بن صديق إلى نهضة سنغافورة، مستعرضا مسارها من أجل شق طريقها نحو الصعود حتى أصبحت مضرب المثل في التقدم والتنمية.
وفي مقال له، توصلت به هسبريس، أبرز محمد بن صديق الأسباب التي ساهمت في نهضة هذا البلد الآسيوي، وكيف تصدر مؤشرات التنمية، وصار أحد أهم المراكز التجارية والمالية في العالم، ومن أكثر الدول خبرة في مجال إدارة الموانئ.
مقال الدكتور محمد بن صديق كما توصلت به هسبريس:
مثيرة للإعجاب، تجربتها شغلت الألباب، وأسالت الكثير من المداد. انطلقت من الصفر تقريبا، ثم شقت طريقها نحو الصعود حتى أصبحت مضرب المثل في التقدم والتنمية. إنها سنغافورة، الدولة (المدينة-الجزيرة) الواقعة في منطقة جنوب شرق آسيا، صغيرةٌ مساحةً (نحو 700 كلم مربع)، وقليلة سكانا (نحو 5.5 ملايين نسمة)، لكنها كبيرةٌ ثراءً (بناتج محلي إجمالي يبلغ نحو 315 مليار دولار)، ومتقدمةٌ علميا (اثنتان من جامعاتها ضمن أفضل جامعات العالم). فكيف استطاعت سنغافورة أن تتحول من حالة الركود إلى قوة اقتصادية بازغة؟ وما هي أبرز خصائص تجربتها التنموية؟
بداية تجدر الإشارة إلى أن سنغافورة عانت من تعاقب الاستعمار عليها، من الصيني إلى البريطاني فالياباني. كما عانت بعد استقلالها، في ستينيات القرن الماضي، من تفشي الفساد والأمية وانعدام المساواة، إلى حد أن البعض اعتبر أنها لن تقدر على الاستمرار والبقاء كدولة، ولكنها استطاعت بكفاءة عالية النهوض والتطور، بالاعتماد على العلم، والاستثمار في مواردها البشرية وموقعها الاستراتيجي.
ويعتبر لي كوان يو، أول رئيس وزراء سنغافورة بعد استقلالها، الأب الروحي والمهندس الفعلي لنهضتها، ويحكى أنه عندما تولى السلطة خطب في شعبه باكيا لأن بلاده لا تتوفر على موارد مائية ولا تستطيع توفير مياه الشرب لشعبها، إلا بشرائها من الخارج، لكنه مع ذلك آمن بقراره بإمكانية حدوث التغيير الشامل في البلاد، ووثق في أسلوبه في الإدارة، واستثمر بكفاءة كبيرة في أهم موردين لبلاده، ألا وهما الرأسمال البشري والموقع الاستراتيجي.
أولا: الاستثمار في الرأسمال البشري، من خلال إيلاء أولوية قصوى للتعليم، واعتماد اللغة الإنجليزية، والتركيز، على غرار النظام التعليمي الياباني، على العلوم التطبيقية بدلا من الفنون والعلوم الإنسانية، إلى حد أن هناك مقولة تنسب إلى مؤسس سنغافورة يقول فيها إن “الشعر ترف لا نستطيع تحمله”. وقد أصبح النظام التعليمي في سنغافورة يصنف من بين أفضل النظم التعليمية في العالم، ومكن من تزويد البلاد بأفضل الكفاءات والخبرات لتحقيق الإقلاع الاقتصادي، حتى أن البعض وصفه بأنه يفوق النظام التعليمي الأمريكي، واعتبره القاطرة الأساسية للقفزة الاقتصادية التي حققتها البلاد وللمحافظة عليها.
ووفقا لبعض التقارير، يصل الإنفاق على التعليم إلى 20 بالمائة من الإنفاق الحكومي في سنغافورة بنسبة تبلغ نحو 3 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، ونسبة الأمية في البلاد شبه منعدمة. أما نسبة الإنفاق على الصحة فتبلغ 4.5 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما أدى إلى رفع متوسط العمر لدى سكان البلاد إلى 80 سنة. كما انعكس ذلك بشكل إيجابي على مستوى الذكاء لدى الساكنة، حيث تتمتع سنغافورة، وفقا لتلك التقارير، بأعلى معدلات الذكاء في العالم لانخفاض معدلات الأمراض بها، حيث تربط بعض الدراسات بين الذكاء والصحة.
ثانيا: الموقع الاستراتيجي. فعلى الرغم من افتقارها إلى الموارد الطبيعية، فإن سنغافورة تحتل موقعا جغرافيا استراتيجيا وحيويا كان له دور مهم في ما حققته البلاد من نجاح اقتصادي، حيث تتحكم في واحد من أهم المضايق في العالم، ألا وهو مضيق “مَلَقا”، الذي يعتبر الشريان التجاري الحيوي الرابط بين شرق العالم وغربه، إذ يمر عبره أكثر من 9.5 ملايين برميل من النفط يوميا، ونحو 40 بالمائة من حركة التجارة العالمية. وقد استطاعت سنغافورة أن تصبح، بفضل استثمارها في هذا المضيق، أحد أهم المراكز التجارية والمالية في العالم، ومن أكثر الدول خبرة في مجال إدارة الموانئ، حيث يعد ميناؤها من أضخم الموانئ على مستوى العالم، إذ يخدم حوالي نصف مليار طن من البضائع سنويا، ويمكّن من رسو السفن التجارية العملاقة، وحتى حاملات الطائرات، ويحتوي على مستودعات ضخمة ومصانع، الأمر الذي حوله إلى مركز لوجيستي عالمي.
ويدر هذا الميناء على البلاد نحو تريليون دولار سنويا. ووعيا بأهمية هذا الميناء في نهضة البلاد، قال عنه رئيس الوزراء المؤسس لسنغافورة إن دولته من دون الميناء ما كانت لتصل إلى نصف ما هي عليه.
اليوم تحتل سنغافورة مراكز متقدمة في جميع مؤشرات التنمية البشرية، إذ تنخفض نسبة البطالة بها إلى حدود 2 بالمائة، ويرتفع متوسط دخل الفرد إلى أكثر من 32000 دولار، كما يتجاوز إجمالي احتياطي البلاد 285 مليار دولار. وقد استغلت كفاءة مواردها البشرية وحيوية موقعها الاستراتيجي لجذب الاستثمارات الأجنبية، إذ تشير تقارير إلى أن أكثر من 700 شركة أمريكية تعمل في البلاد في مجالات مختلفة، مالية وعلمية ولوجستية وغيرها.
كما تجدر الإشارة إلى أن سنغافورة نجحت في التغلب على الفقر المائي الحاد الذي عانت منه بعد استقلالها، من خلال الاعتماد على تقنية تحلية مياه البحر في كل شيء، سواء في توفير مياه الشرب أو في الصناعة أو غيرها. وقد أصبحت من أكثر الدول تقدما في هذا الشأن، وتمكنت بفضل تلك التقنية من توفير مصادر مائية مستقلة، بل استطاعت تصدير تقنياتها ونقل خبراتها في هذا المجال إلى دول أخرى، حيث تقوم ببناء محطات لتحلية المياه في الصين وفي عدد من الدول العربية.
تبدو تجربة سنغافورة التنموية ملهمة وجديرة بالبحث وسبر أغوارها من قبل الباحثين والقائمين على شؤون التنمية في البلدان النامية، إذ يمكن اعتبارها نموذجا يحتذى به، لا سيما لجهة إيلاء الأولوية للعلوم التطبيقية وللبحث العلمي باللغة الإنجليزية، باعتبارها لغة العلوم والتكنولوجيا في عصرنا، ثم من خلال التركيز على مكامن القوة لدى الدولة، سواء تعلق الأمر بالموارد الطبيعية أو البشرية أو الموقع الجغرافي، بالإضافة إلى الإصلاح الإداري، ومكافحة الفساد، وتعزيز مبدأ تكافؤ الفرص، وتوطين العلوم والتكنولوجيا في البلاد، من أجل التوصل إلى صياغة نموذج تنموي يتماشى مع إمكانيات الدولة، ويتواءم مع ظروفها الخاصة في كل مرحلة من المراحل، ويحفز قدرات شعبها على العطاء، ويشجع لديه الابتكار الذي يعتبر محركا أساسيا للنمو الاقتصادي، وتحقيق النهضة المنشودة.
لقد لخص لي كوان يو سر نجاح بلاده بالقول: “نحن نعلم أننا لو سرنا على نهج الدول المجاورة سنموت، فنحن لا نملك شيئا بالمقارنة مع ما يمتلكونه من موارد. ولهذا ركزنا على إنتاج شيء مميز وأفضل مما لديهم، هو القضاء تماما على الفساد، والكفاءة، واختيار أصحاب المناصب والنفوذ بناء على الجدارة والاستحقاق.. وقد نجحنا”.