للتكنولوجيا الحديثة منافع لا تُحصى؛ ولكن هذه التكنولوجيا تنطوي أيضا على خطر كبير يهدد الأمن البيئي وصحة الإنسان والموارد الطبيعية، بفعل المكونات الكيميائية السامة التي تحتوي عليها مختلف الأجهزة الإلكترونية والكهربائية من هواتف ذكية وحواسيب وأجهزة التلفزيون والطابعات ومكيّفات الهواء وغيرها… إذا لم تتم معالجتها بطريقة سليمة عند انتهاء مدة صلاحية استعمالها.
ومع تنامي الإقبال على استعمال الأجهزة الإلكترونية والكهربائية التي تمخضت عن الثورة الصناعية الرابعة، ازدادت المخاطر المحدقة بالبيئة ولم تعد تقتصر فقط على مصادر التلوث التقليدية، مثل مخلفات المصانع والنفايات المنزلية؛ بل إن منبع خطر التلوث أصبح موجودا في جيوب أغلب الناس، متمثلا في الهواتف المحمولة، فضلا عن باقي الأجهزة التي تصنف مخلفاتها ضمن النفايات الخطرة.
فهل يَعي المغاربة خطورة النفايات الإلكترونية والكهربائية؟ وكيف يتعاملون معها؟ وما هي السياسة الحكومية للتعاطي مع هذا الخطر المهدد للبيئة والإنسان؟ في هذا الاستطلاع، نبحث عن أجوبة للأسئلة المطروحة من خلال متابعة المصير الذي تنتهي إليه النفايات الإلكترونية والكهربائية ببلادنا، والاستماع إلى آراء فاعلين وخبراء في هذا المجال، ورصْد ما أنجزته الوزارة الوصية على قطاع البيئة وما تُخطط لإنجازه مستقبلا.
تدبير عشوائي
تُعرِّف منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية النفايات الإلكترونية والكهربائية، المعرّفة اختصارا DEEE “Déchets d’équipement électrique et électronique”، بأنها “أي جهاز يعمل بالطاقة الكهربائية وصَل إلى نهاية عمره التشغيلي”. وتُعدّ هذه النفايات واحدا من أهم التحديات البيئية في القرن الحادي والعشرين، كما صنّفها برنامج الأمم المتحدة للبيئة؛ ذلك أنها تُدرج في خانة النفايات الخطرة، غير أن كثيرا من المغاربة ما زالوا يتعاملون مع خطر النفايات الإلكترونية والكهربائية بنوع من التساهل، حسب ما عاينّاه خلال إعداد هذا الاستطلاع.
في سوق درب غلف الشهير بمدينة الدار البيضاء، وهو أكبر سوق لبيع وإصلاح الهواتف المحمولة والحواسيب وغيرها مع الأجهزة الإلكترونية والكهربائية الجديدة والمُستعملة، توجد أكوام من قطع الأجهزة المفككة في كل مكان داخل الورشات الصغيرة وفوق طاولات العرض في الممرات الضيقة. ويتعامل التقنيون المتخصصون في إصلاح هذه الأجهزة مع أجزائها بدون أية وسائل وقائية لحماية أنفسهم من التعرض لجُسيْمات المواد ذات الطبيعة السامة التي تشكل خطرا على صحة الإنسان.
إن أضرار النفايات الإلكترونية لا تتوقف عند محيط الأسواق التي ترُوّج فيها الأجهزة الإلكترونية والكهربائية التي انتهت دورة تشغيلها؛ بل تمتد تلك الأضرار إلى البيئة، حيث يُتخلّص من الأجزاء غير الصالحة من الأجهزة التي يتم تفكيكها في حاويات الأزبال بشكل عشوائي وتُرمى في المطارح لتلوّث البيئة والموارد الطبيعية، ومنها تنتقل أضرارها مرة أخرى إلى الإنسان، إما عن طريق الهواء أو الماء أو المواد الغذائية المتأتية من الطبيعة مباشرة، مثل الخضر والفواكه واللحوم والأسماك.
توضح فرح الحسني، الخبيرة في علوم البيئة والتنمية المستدامة، أستاذة بالجامعة الأورو متوسطية بفاس، أن النفايات الإلكترونية تشكّل خطرا كبيرا جدا على البيئة وعلى صحة الإنسان، نظرا للمعادن الثقيلة التي تحتوي عليها؛ مثل “الكادميوم”، الذي تتركّز نسبة عالية منه في بطاريات الحواسيب المحمولة.
ويعتبر “الكادميوم” عنصرا خطيرا يخلّف آثارا سامة على الكِلية والهيكل العظمي والجهاز التنفسي، ويصنف على أنه مسرطن بشري، ويمكن أن ينتقل لمسافات بعيدة عن مصدر الانبعاث عن طريق الانتقال الجوي. ومن بين الأسباب التي تؤدي إلى التعرض البشري لـ”الكادميوم” استهلاك الأغذية الملوثة به، حسب منظمة الصحة العالمية.
ولا تحتوي الأجهزة الإلكترونية على “الكادميوم” فقط؛ بل تحتوي أيضا على معادن أخرى ثقيلة تشكل خطرا على البيئة وعلى صحة الإنسان، مثل الرصاص والزئبق. وعموما، فإن الإلكترونيات يمكن أن تحتوي على 60 عنصرا كيميائيا مختلفا، بعضُها يُعتبر خطِرا، وفق برنامج الأمم المتحدة للبيئة.
وتشرح فرح الحسني، في تصريح لهسبريس، أن السموم التي تحتوي عليها النفايات الإلكترونية لا تُلحق الضرر فقط بمكونات الطبيعة الموجودة على سطح الأرض؛ بل إنّ ضررها يصل أيضا إلى الموارد الطبيعية الباطنية، عن طريق مياه الأمطار التي تحمل هذه السموم لتتسرّب إلى المياه الجوفية، ومنها تعود إلى جسم الإنسان، إما عن طريق مياه الشرب الملوثة أو الريّ الزراعي.
وتضيف الخبيرة في علوم البيئة والتنمية المستدامة أن عدم معالجة النفايات الإلكترونية بطريقة سليمة يجعل جُسيْماتها المعدنية تتسرب إلى المواد الغذائية ذات الأصل النباتي أو الحيواني التي يتناولها الإنسان. ولا تظهر أعراض التعرّض لخطرها، مثل السرطان وتلف الكبد والتشوهات الخلقية وغيرها من الأخطار التي يمكن أن تُلحقها بالكائن البشري، إلا على المدى البعيد.
ضعف الوعي
بالرغم من الخطر الكبير الذي تشكله النفايات الإلكترونية والكهربائية على البيئة والإنسان، فإن 17 في المائة منها فقط يتم إعادة تدويره رسميا، على الصعيد العالمي، حسب بيانات منظمة العمل الدولية؛ بينما تبلغ النسبة في المغرب 15 في المائة، وفق المعطيات الرسمية التي حصلت عليها هسبريس من وزارة الطاقة والمعادن والبيئة – قطاع البيئة.
واستنادا إلى المصدر نفسه فإن كميات نفايات الأجهزة الإلكترونية والكهربائية المتولّدة سنويا بالمغرب تقدر بحوالي 127 ألف طن، 40 في المائة منها تتمركز بجهتي الدار البيضاء سطات والرباط سلا القنيطرة.
وإذا كانت نسبة النفايات الإلكترونية والكهربائية التي تتم إعادة تدويرها في المغرب في حدود 15 في المائة، فإن باقي النفايات ينتهي مصيرها إما في القطاع غير المهيكل، حيث تتم معالجتها بشكل عشوائي، أو يُتخلص منها عن طريق الحرق أو الطمر في مطارح النفايات؛ فيما تُصدّر الأجزاء التي تحتوي على معادن نفيسة مثل الذهب إلى الخارج.
في الجناح المخصص لإصلاح الهواتف والحواسيب المعطلة بسوق باب الحد بالرباط، صادفنا مصطفى، رجل يشتغل في جمع أجزاء الأجهزة الإلكترونية التي تحتوي على معادن وإعادة بيعها. يقول، حين سألناه عما يفعل بأجزاء الهواتف التي يشتريها من أصحاب محلّات إصلاح الأجهزة الإلكترونية: “كتمشي للروسيكلاج. هادشي كامْل كيدوب، الحديد والألومينيوم، وكيصنعو منو شي حاجة أخرى”.
يضيف مصطفى، بعد أن اتفق مع صاحب محلّ إصلاح الهواتف المحمولة حول سعر الشراء، أنه يشتري أجزاء الهواتف المحمولة والحواسيب والألواح الإلكترونية غير القابلة لإعادة الاستعمال، بسعر يتراوح بين 150 درهما و200 درهم للكيلوغرام الواحد، مشيرا إلى أنه يعيد بيعها إلى شركات مختصة في الدار البيضاء، والتي تعمل بدورها على تصديرها إلى الخارج لتُستخرج منها المعادن النفيسة مثل الذهب والبلاتين.
وإذا كانت أجزاء الأجهزة الإلكترونية التي تحتوي على معادن نفيسة تصدّر إلى الخارج، فإن الحصة الكبيرة من النفايات الإلكترونية والكهربائية تجد طريقها إلى المعالجة في القطاع غير المهيكل بطرق عشوائية تؤدي إلى إلحاق أضرار كبيرة بالبيئة، حيث يتم تفكيكها لتُستخرج منها المعادن السهلة مثل الألومنيوم، أو يُعاد بيعها، وما تبقى منها يُرمى في مطارح النفايات، لتتواصل تأثيراته على البيئة وعلى الإنسان.
هذا المُعطى يؤكده يوسف، مقاول ذاتي في مجال الإلكترونيات بمدينة سلا، بقوله: “عندما يتعطل الهاتف أو الحاسوب، فهذا لا يعني أنه لم يعد صالحا للاستعمال؛ بل يحتاج فقط إلى تغيير قطعة معينة بقطعة صالحة ننزعها من جهاز آخر. وعندما نفقد الأمل في إصلاح أي جهاز ننزع منه القطع الصالحة لإعادة استعمالها، وننزع منه أيضا المعادن؛ ولكن هذا يتطلب وقتا طويلا لكي تتمكن من جمع بضعة غرامات، وباقي الأجزاء يتم التخلص منها مثل النفايات العادية”.
وأفاد حسن بدوره، وهو تقني متخصص في إصلاح الهواتف بالدار البيضاء، بأن التقنيين العاملين في هذا الميدان يأخذون الأجزاء القابلة لإعادة الاستعمال أو البيع، ويرمون الباقي، مضيفا: “هذه هي الطريقة التي يتعامل بها الجميع”.
وبدوره، يؤكد الحسين كلام زميله السابق بقوله: “أجزاء الهواتف غير الصالحة نرميها في صندوق القمامة وتخلط مع النفايات العادية”.
ويتضح من خلال الشهادات التي استقيناها خلال إعداد هذا الاستطلاع أن أغلب النفايات الإلكترونية التي يتم التخلص منها تذهب إما إلى المطارح أو إلى القطاع غير المهيكل، وهو ما أكده نور الدين يحياوي، مدير شركة “لوجيبرو”، إحدى الشركات القليلة التي تشتغل في مجال إعادة تدوير النفايات الإلكترونية بمدينة الدار البيضاء، بقوله إن تدوير هذا النوع من النفايات في المغرب ما زال محدودا جدا.
وقال يحياوي إن النسبة التي تخضع لإعادة التدوير، على قلّتها، تأتي من الشركات؛ بينما تذهب أغلب النفايات الإلكترونية والكهربائية ذات الاستعمال الفردي إما إلى القطاع غير المهيكل، أو إلى مطارح النفايات.
ويشير مدير شركة “لوجيبرو” إلى أن ضعف الوعي بخطورة النفايات الإلكترونية موجود أيضا لدى المؤسسات، قائلا: “بعض المؤسسات والمجالس المنتخبة تقدم طلبات عروض لبيع المتلاشيات الإلكترونية دون وضع دفتر تحملات ينص على ضرورة أن تتوفر الجهة التي ستشتري تلك المتلاشيات على ترخيص من طرف الوزارة الوصية على قطاع البيئة، وتحديد طريقة معالجتها”، متسائلا: “فكيف نريد من مقاولة أو مواطن عادي أن يتخلص من هذه النفايات بطريقة آمنة وقانونية؟”.
من جهته، قال محمد توفيق الملوكي، باحث في قضايا البيئة عضو المكتب التنفيذي للعصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان، إن النصوص التشريعية المتعلقة بتدبير النفايات لم تتضمن بنودا محدِّدة لكيفية معالجة النفايات الإلكترونية؛ ما يجعل التخلص منها يتم بشكل عادي، إما ببيعها إلى العاملين في القطاع غير المهيكل، وإما عن طريق شركات التدبير المفوض المكلفة بالنظافة، والتي لا يتوفر مستخدَموها على تكوين خاص للتعامل مع النفايات الإلكترونية، على حد تعبيره.
في هذا الإطار، حاولنا معرفة الكيفية التي تتعامل بها شركات التدبير المفوض مع النفايات الإلكترونية، وتواصلنا مع شركتين تعملان في هذا المجال، إحداهما قال المسؤول المكلف بالتواصل الذي تحدّث إلينا إن الشركة لا تتوفر على مركز خاص بمعالجة النفايات الإلكترونية؛ بينما طلب مسؤول بالشركة الثانية مهلة لأخذ موافقة رؤسائه للحديث في الموضوع، ولم نحصل منه على جواب بعد ذلك.
وفي المقابل، تشير المعطيات الرسمية التي مدّتنا بها وزارة الطاقة والمعادين والبيئة – قطاع البيئة إلى أنّ الوزارة عززت الترسانة التشريعية بنصوص تؤطّر تدبير النفايات الإلكترونية، التي تصنَّف، حسب المرسوم 2-07-253 المتعلق بتصنيف النفايات، بمثابة نفايات خطرة، وبالتالي فهي تخضع لمقتضيات المرسوم رقم 2-14-85 المتعلق بتدبير النفايات الخطرة.
وينص المرسوم الأخير على مجموعة من المقتضيات؛ أهمها إخضاع عمليات حيازة وجمع ومعالجة النفايات الخطرة، بما فيها نفايات الأجهزة الإلكترونية والكهربائية، لرخصة تُسلم من طرف السلطة الحكومية المكلفة بالبيئة. كما يتوجب، وفق مقتضيات المرسوم سالف الذكر، على كل حائز أو جامع أو معالج لهذه النفايات “إمساك سجل تدوَّن فيه كميات ونوع وطبيعة ومصدر ومصير النفايات الخطرة”.
ومن بين المقتضيات التي ينص عليها المرسوم رقم 2-14-85 إرفاق نقل النفايات الخطرة بورقة تتبُّع تتضمن معلومات تتعلق بالمرسِل والناقل والمرسل إليه، وكذا طبيعة وكمية النفايات وطريقة نقلها وكيفيات التخلص منها، إضافة إلى ضرورة توفر كل منتج حائز أو جامع أو معالج للنفايات الخطرة على مخطط داخلي لتدبير هذه النفايات. كما يحدد المرسوم التدابير الوقائية التي يجب اتخاذها لضمان نقل ومعالجة سليمة للنفايات الخطرة بشكل يحد من آثارها السلبية على البيئة والصحة.
ثروة ضائعة
إذا كانت النفايات الإلكترونية والكهربائية تشكل خطرا كبيرا على سلامة البيئة وصحة الإنسان، فإنها في المقابل يمكن أن تكون رافعة للتنمية، ومصدرا لعائدات مالية مهمة، إضافة إلى توفير فرص الشغل، نظرا لما تحتوي عليه من معادن نفيسة ومواد أخرى تساوي قيمتها المالية عشرات الملايير من الدولارات، يمكن إعادة استعمالها، بعد تدويرها، في صناعات مختلفة.
ويشير برنامج الأمم المتحدة للبيئة، في نشرة بعنوان “تحويل النفايات الإلكترونية إلى ذهب.. الإمكانيات غير المستغلَّة للمخلفات الإفريقية”، إلى أن كل هاتف محمول يحتوي على الذهب، إضافة إلى موادَّ قيّمة مثل البلاستيك والزجاج والسيراميك، معتبرا أن استغلال هذه المواد من خلال إعادة تدويرها يعدّ فرصة كبيرة للابتكار وزيادة الإنتاجية والنمو الاقتصادي.
وتُقدر القيمة المالية للمعادن الثمينة التي تحتوي عليها النفايات الإلكترونية المولَّدة سنويا على الصعيد العالمي بـ14 مليار دولار. أما القيمة الإجمالية لمكونات النفايات الإلكترونية القابلة لإعادة الاستعمال بعد تدويرها فتُقدر بـ57 مليار دولار، حسب تقرير مراقبة النفايات الإلكترونية العالمي الصادر عن الأمم المتحدة سنة 2020.
وانطلاقا من هذه الأرقام، بحثنا في حجم الاستثمار في النفايات الإلكترونية والكهربائية بالمغرب، فاتّضح أن هذا القطاع لا يزال في بداياته، ويعاني من إكراهات وتحديات كبيرة تجعل النسبة الكبرى من هذه النفايات يُعاد تدويرها بشكل عشوائي في القطاع غير المهيكل. أما الشركات المتخصصة في هذا المجال، فلا يتعدى عددها أصابع اليد الواحدة.
يُرجع نور الدين يحياوي، مدير شركة “لوجيبرو” المتخصصة في إعادة تدوير النفايات الصناعية والإلكترونية بمدينة الدار البيضاء، ضعف الاستثمار في إعادة تدوير النفايات الإلكترونية بالمغرب إلى مجموعة من الأسباب؛ منها أن الشركات والمقاولات تفضّل بيْع متلاشياتها من الأجهزة الإلكترونية والكهربائية، بعد استنفاد صلاحيتها، إلى القطاع غير المهيكل، عوض أن تسلّمها إلى الشركات المتخصصة في إعادة التدوير.
وأوضح: “نحن نقدم ثمنا رمزيا، ولا نستطيع أن ندفع ثمنا مثل الذي يشتري به العاملون في القطاع غير المهكيل؛ لأن إعادة تدوير النفايات الإلكترونية مكلّف جدا، نظرا لأن العملية تتطلب الاستعانة بآليات خاصة، وتمرّ عبر مراحل عديدة، من أجل التخلص نهائيا من خطرها على البيئة، بينما في القطاع غير المهيكل تتم معالجتها بشكل عشوائي بهدف استخراج المعادن منها فقط، ويُحرق الباقي في الهواء الطلق أو يُرمى في مطارح الأزبال”.
في ظل هذا الوضع، يضيف يحياوي، فإن المستثمرين في قطاع إعادة تدوير النفايات “لا يمكن أن يستقدموا آليات تساوي ملايين الدراهم، في الوقت الذي لا نتوصل فيه بالكميات الكافية لاستغلال هذه الآلات؛ لأن القطاع غير المهيكل يسيطر على السوق حاليا”.
ويعزو حسن مسلك، مدير مركز لتثمين النفايات الصناعية أُحدث في إطار مشاريع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في حي سيدي البرنوصي بمدينة الدار البيضاء، سبب ضعف إقبال الشركات على تسليم متلاشياتها من الأجهزة الإلكترونية والكهربائية إلى الشركات أو المراكز المتخصصة في إعادة تدوير هذا النوع من النفايات إلى قلة الوعي بخطورتها على البيئة.
ويضيف موضحا: “أغلب الشركات لا تفكر في التخلص حتى من النفايات العادية بطريقة صحيحة، لضعف وعي أصحابها بمسؤوليتهم إزاء تطوير منظومة حماية البيئة”، مشيرا إلى أن عدد الشركات الموجودة في محيط مركز الفرز الذي يديره يصل إلى 670 شركة؛ لكن عدد الشركات التي تسلم متلاشياتها للمركز لا يتعدى 52 شركة.
ويرى محمد توفيق الملوكي، عضو المكتب التنفيذي للعصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان، أن هناك عوائق أخرى تجعل الشركات تتحفظ على تسليم الأجهزة الإلكترونية المعطلة إلى المراكز المتخصصة في إعادة تدويرها، خاصة الحواسيب، لكونها تحتوي على قاعدة معطيات تتخوف الشركات من أن يتمّ إعادة استعمالها وعدم التخلص منها بشكل آمن، معتبرا أن هذا الإشكال يعد واحدا من العراقيل التي تحد من إعادة تدوير النفايات الإلكترونية في المغرب.
ومن خلال المقابلات التي أجريناها مع عدد من الفاعلين في قطاع إعادة تدوير النفايات الإلكترونية، اتّضح أن أغلبهم يتعاملون، إلى حد الآن، مع الشركات، على الرغم من أن نسبة النفايات المدوَّرة ضعيفة جدا؛ ما يعني، عمليا، أن النفايات الإلكترونية التي يتخلص منها المواطنون تذهب، في الغالب، إما إلى القطاع غير المهيكل أو إلى مطارح النفايات.
ويشتغل حسن مسلك وزملاؤه العاملون معه في مركز لتثمين النفايات الصناعية بسيدي البرنوصي على مشروع يرمي إلى تحفيز المواطنين على التخلص من نفاياتهم الإلكترونية بشكل سليم؛ وذلك بإنشاء أكشاك مخصصة لهذا الغرض وسط الأحياء السكنية، تُجمع فيها النفايات الإلكترونية لتُنقل بعد ذلك إلى مركز الفرز والتفكيك، مع القيام بحملات تحسيسية للتوعية بخطورة هذه النفايات.
غير أن نور الدين يحياوي يرى أن إقناع المواطنين بتسليم متلاشياتهم من الأجهزة الإلكترونية، ولو بثمن رمزي، يكتنفه كثير من الصعوبات؛ لأن كثيرا منهم يفضلون بيع ما لديهم للعاملين في القطاع غير المهيكل، مقابل مبالغ مالية أعلى من التي تعْرضها الشركات، قبل أن يستدرك بأن تجاوز هذا العائق رهين برفع وعي المواطنين بخطورة النفايات الإلكترونية على البيئة والإنسان.
وأنشأت شركة “لوجيبرو” تطبيقا على الهواتف الذكية باسم E-recyclage هو الأول من نوعه في المغرب، يهدف إلى تشجيع المواطنين على عدم رمي النفايات الإلكترونية في صناديق القمامة، حيث يمكن لمستعمل التطبيق إرسال صورة الجهاز الإلكتروني الذي يريد التخلص منه إلى الشركة، ويتكلف أعوانها بتسلّم الجهاز مقابل مبلغ مالي رمزي، “فقط من أجل التحفيز على هذه الالتفاتة البيئية “Geste écologique””، يقول يحياوي.
من جهته قال عبد الرحيم لخويط، أستاذ جامعي مقيم في كندا متخصص في الهندسة المدنية وتدبير النفايات، إن الحلّ لتقليص التخلص من النفايات الإلكترونية والكهربائية في القطاع غير المهيكل أو مطارح النفايات يقتضي اللجوء إلى حلول مبتكرة مثل الضريبة الخضراء، من أجل تشجيع المستهلكين على إرجاع الأجهزة التي لم تعد قابلة للاستعمال إلى الشركات المصنّعة من أجل إعادة تدويرها.
وأوضح لخويط، في تصريح لهسبريس، أن الضريبة الخضراء هي عبارة عن رسم في حدود نسبة مئوية معيّنة من قيمة المنتج الإلكتروني، يُؤديه الزبون عند شرائه للمنتَج وتُردّ إليه تلك الضريبة عند نهاية دورة ذلك المنتوج وتسليمه إلى صاحب المتجر الذي اشتراه منه أو الشركة المصنّعة، لافتا إلى أن الغاية من الضريبة الخضراء هي تحفيز المستهلكين على إرجاع المنتجات الإلكترونية إلى البائعين أو المصنّعين حتى يتم التخلص منها بطريقة علمية وهندسية عبر إعادة تدويرها.
تحديات الرقمنة
موازاة مع تسريع المغرب لانخراطه في عصر الرقمنة، فإن هذا الانخراط يطرح جملة من التحديات على مستوى الحفاظ على البيئة والتنمية المستدامة؛ ذلك أن الرقمنة تعني استعمال مزيد من الأجهزة الإلكترونية، من حواسيب وهواتف وشاشات وغيرها، يضاف إلى هذا التحدي أن الأنشطة الاقتصادية بالمغرب يستحوذ عليها قطاع الخدمات، الذي يمثل 55.8 في المائة من الناتج الداخلي الخام. ويعتمد هذا القطاع، بدوره، بشكل كبير على الأجهزة الإلكترونية.
وأجمع الفاعلون الذين تحدثت إليهم هسبريس على أن مخطط “المغرب الرقمي” ينبغي أن يواكبه رفع مستوى الاهتمام بتدبير النفايات الإلكترونية، والتحسيس بخطورتها وبضرورة التخلص منها بطريقة سليمة، من أجل تفادي تداعياتها على البيئة والإنسان وتجنب الكلفة الباهظة لأضرارها.
في هذا الإطار، قال محمد توفيق الملوكي إن الدولة، من خلال الوزارة الوصية على قطاع البيئة، عليها أن توجِد إطارا تشريعيا يواكب المستجدات العالمية في مجال إعادة تدوير النفايات الإلكترونية والكهربائية نظرا للضرر الكبير الذي تُلحقه بالبيئة وبصحة الإنسان، وأن تحذو حذو الدول التي لها تجارب فضلى في مجال تدبير النفايات الإلكترونية والكهربائية، مثل دول شرق آسيا، مبرزا أن استفادة المغرب من هذه التجارب “ليست مسألة ترف فكري بل أصبحت ضرورة”.
وتفيد المعطيات الرسمية التي حصلت عليها هسبريس بأن قطاع البيئة قام بإنجاز دراسة لوضع منظومة خاصة بجمع وتثمين نفايات الأجهزة الإلكترونية والكهربائية. وخُصص الجزء الأول من هذه الدراسة لتقدير كميات النفايات الإلكترونية والكهربائية المنتجة على الصعيد الوطني، وكذا جرد أهم التجارب الدولية في مجال التدبير العقلاني لهذه النفايات، واقتراح حلول ووضع سيناريوهات لمعالجتها في المغرب.
واستنادا إلى المعطيات نفسها، فإن الجزء الثاني من الدراسة تضمّن وضع مخطط عمل ومخطط مالي “Business plan”، خاص بالأجهزة المعلوماتية وأجهزة الاتصالات المستعملة، والتي تُعتبر من أهم أصناف تدبير نفايات الأجهزة الإلكترونية والكهربائية؛ وذلك في ضوء سيناريو تم اختياره بتشاور مع مختلف الفاعلين المعنيين بهذا النوع من النفايات.
ويطمح المغرب إلى رفع نسبة تدوير النفايات الإلكترونية والكهربائية إلى 40 في المائة في أفق سنة 2030، كما هو محدد في الإستراتيجية الوطنية لتثمين وتقليص النفايات.
تجربة رائدة
خلْف الصورة القاتمة للنفايات الإلكترونية، هناك مبادرات رائدة استطاعت أن تحوّل هذه النفايات الخطرة إلى مصدر للأمل. في قلب مدينة الدار البيضاء يوجد مركز “Greenchip” لفرز وتفكيك النفايات الإلكترونية تابع لجمعية “الجسر”، يشتغل داخله شباب انقطعوا عن الدراسة لأسباب مختلفة؛ لكن الجمعية المذكورة استطاعت أنْ تمنح لهم فرصة أمل في حاضر ومستقبل أفضل، حيث يخضعون لتكوين مكثّف في إصلاح الأجهزة الإلكترونية المعطلة ومعالجة نفاياتها، ويستفيدون من تدريب داخل الشركات، ما يمهّد لهم الطريق للولوج إلى سوق الشغل بعد إنهاء التكوين.
داخل ورشة فرز وتفكيك وإعادة تركيب الأجهزة الإلكترونية بمركز “Greenchip”، يوجد ما يُعدّ ولا يُحصى من الحواسيب والهواتف والشاشات “وكل ما يمكن أن يخطر لك على بال من الأجهزة الإلكترونية منتهية الصلاحية”، يقول أمين خيري، المسؤول عن الورشة، موضحا أن التكوين الذي يخضع له الشبان الذين يشتغلون داخل المركز 80 في المائة منه تطبيقي، و20 في المائة نظري، ويحصلون على دبلوم معترف به من طرف الدولة ممثلة في مكتب التكوين المهني، بعد عام من التدريب.
بعد وصول الأجهزة الإلكترونية التي يتم استقدامها من الشركات التي تجمعها شَراكة مع جمعية “الجسر”، يتم فحصها وفرزها، حيث تُعزل الأجهزة القابلة للإصلاح، وبعد إصلاحها يتم تسليمها، كهِبة، إلى المدارس العمومية وإلى الجمعيات؛ بينما يتم تفكيك الأجهزة غير القابلة للإصلاح، ويُفرَز كل مكوّن من مكوّناتها، مثل البلاستيك والحديد والألومينيوم، على حدة، وتُسلَّم بعد ذلك إلى شركة “مناجم”، من أجل إعادة تدويرها للتخلص نهائيا من خطرها.
بفخر كبير، تقول وفاء برني مزوار، رئيسة جمعية “الجسر”، في تصريح لهسبريس، إن “الشباب الذين يتكوَّنون في هذا المركز يأتون إلى هنا وهم لا يعرفون شيئا لأنهم من المنقطعين عن الدراسة؛ لكنهم بعد سنة واحدة فقط من التكوين المكثف الذي يستفيدون منه يصيرون قادرين على الاندماج في سوق الشغل بسهولة”، مضيفة: “ما يؤكد هذا هو أن أغلب الشباب الذين نرسلهم إلى الشركات للتدريب لمدة ثلاثة أشهر يتم إدماجهم في تلك الشركات؛ لأنهم يتركون صورة إيجابية لدى مشغّليهم خلال فترة التدريب”.
يصل عدد المتدرّبين الذين تسهر على تكوينهم جمعية “الجسر” في مجال إصلاح وتفكيك الأجهزة الإلكترونية بمركز “Greenchip”إلى 130 متدربا في مركزيْ الدار البيضاء ووجدة. ويؤكد أمين خيري أن النتائج المحقّقة من خلال هذا الورش إيجابية؛ “لأنّ هؤلاء الشبان يخرجون من هنا بعد استكمال مدة التكوين وفي أيديهم مهنة، فضلا عن اكتساب الثقة في أنفسهم بفضل ما يراكمونه من مؤهلات وكفاءات”، مضيفا: “غايتنا لا تنحصر فقط في تيسير ولوج هؤلاء الشباب إلى سوق الشغل، بل نهدف كذلك إلى إدماجهم في المجتمع. وهكذا، نساهم في خدمة المدرسة العمومية، وخدمة البيئة في آن واحد”.
وحسب الإفادات التي قدّمتها وفاء برني مزوار، فإن نحو 70 في المائة من المتدربين المتخرجين من مركز “Greenchip”يجدون فرص عمل مباشرة بعد التخرج، ومنهم من ينشئ مقاولة ذاتية أو تعاونية، مبرزة أن ما يعطي قيمة مضافة لعملية إعادة تدوير النفايات الإلكترونية في المركز هو أن هذا المشروع هو مشروع بيئي واقتصادي واجتماعي في الآن نفسه؛ ففضلا عن حماية البيئة من مخاطر نفايات الأجهزة الإلكترونية والكهربائية التي يتم التوصل بها من حوالي 100 شركة، وتوفير التدريب والإدماج المهني لـ130 شابا كل سنة في المهن الخضراء، فإن الحواسيب التي يتم إصلاحها تُمنح للمؤسسات التعليمية والجمعيات مجانا.
وأضافت برني: “لدينا لائحة من المدارس التي تطلب الحصول على حواسيب تتضمن مئات المؤسسات التعليمية. وقد قمنا، قبل أسابيع فقط، بتجهيز ثانوية بـ75 حاسوبا. هذه الحواسيب كانت ربما ستجد طريقها إلى مطرح النفايات، أو إلى القطاع غير المهيكل في أحسن الأحوال”.