يرى الكاتب المغربي عبد الحميد البجوقي أن حزب بوديموس الإسباني، في مجمل سياسته الآن، “لا يختلف عن الحزب الاشتراكي الموحد، أو حزب الاتحاد الاشتراكي قبل وبعد تجربة التناوب، وحساباته لن تخرج عن منطق البراغماتية السياسية، وتحقيق أهداف يقايضها كغيره من الأحزاب الإسبانية وغيرها في الدول الديمقراطية بالأصوات والمكاسب السياسية”.

كما يتساءل المتخصص في العلاقات المغربية الإسبانية، في مقال له عن كون حزب بوديموس معاديا للمغرب أولا، إن كانت الدولة تعمل عبر قنواتها للتواصل مع هذا الحزب في ملفات يشرف عليها وزراء منه، واستغلال هذا التواصل لفتح قنوات أكثر فاعلية من الحوار حول المواضيع الشائكة؟ وهل تعمل دبلوماسية اليسار المغربي، وبالخصوص الحزب الاشتراكي الموحد، على فتح قنوات للحوار الصريح والمستمر مع هذا الحزب؟

وبمزيد من التمحيص في مقاله يحاول البجوقي الجواب عن سؤال: “هل بوديموس حزب معادٍ للمغرب؟”.

وهذا نص المقال:

السؤال يطرح بالضرورة سؤالا آخر عن مفهوم العداء في السياسة، بمعنى “هل هناك عداء دائم أو محبة دائمة في السياسة”، وتليه لائحة طويلة من الأسئلة عن التقلبات التي عرفتها مواقف سياسية من التطرف إلى الاعتدال، أو من الاعتدال إلى التطرف، بفعل تراكم العمل السياسي في الميدان، أو الانتقال من المعارضة إلى الحكم وتدبير تعقيدات الشأن العام.

ارتبط ميلاد حزب بوديموس بالأزمة الاقتصادية الخانقة التي عرفتها إسبانيا سنة 2009، إذ بلغت البطالة 25 في المائة، ما يزيد عن 40 في المائة منهم شباب، وتنامت ظاهرة هجرة الأطر والكفاءات صوب عدة دول أوروبية، وانخفضت حينها القدرة الشرائية بنسبة 17 في المائة، وتضرّرت الطبقة المتوسطة والبرجوازية الصغيرة بشكل كبير، وفي ظرف سنوات قليلة تغيرت تماما الحياة بإسبانيا، وانتقلت من نموذج للانتقال الديمقراطي والنمو الاقتصادي السريع، إلى نموذج للدولة الفاشلة على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي بأوروبا.

الجذور اليسارية لحزب بوديموس لم تعن منذ انطلاق تأسيس الحزب ببيان المثقفين في 12 و13 يناير 2014، والمشاركة في الانتخابات الأوروبية، ثم تأسيس الحزب في مؤتمر فيستا أليغري 1 ما بين 10 و14 نونبر 2014، أن الدعم الشعبي للحزب الجديد اقتصر على قاعدة اليسار المتطرف. منذ البداية التحقت بالحزب قيادات يسارية معتدلة، واستقطب الحزب الجديد قاعدة واسعة لم تعد تجد نفسها ومصالحها في الحزب الاشتراكي العمالي، وأخرى لم تعد تجد نفسها في المواقف الكلاسيكية المتطرفة لحزب اليسار الموحد. والتحق بلائحة الحزب للبرلمان الأوروبي، وبعدها في الانتخابات التشريعية سنة 2015، المرشح اليساري المعتدل الذي خبر شؤون الدولة ـ نموذج القائد الأعلى السابق للقوات المسلحة الإسبانية، الجنرال خوصي لويس رودريغيز ـ إلى جانب الشباب المنتفض الغاضب على الأحزاب التقليدية ـ نموذج الشاب اليساري ألبرطو رودريغيز سكرتير التنظيم حاليا.

عرف حزب بوديموس بعد التجربة الانتخابية الأولى مخاضا انتهى بغربلة قياداته التاريخية المُؤسِّسة في مؤتمره الثاني، وباعتدال واضح في مواقفه وبرنامجه السياسي، وتطور موقفه من طرح نفسه كبديل يساري للحزب الاشتراكي العمالي، والحلم بزعامة اليسار وتغيير المشهد السياسي، إلى طرح نفسه كمساهمة في إصلاح المشهد السياسي القائم، ومحاربة الفساد وتأسيس جبهة يسارية مع الحزب الاشتراكي العمالي لمواجهة تغوُّل اليمين، وتطهير السياسة من الفساد. كلها تحولات طبيعية لمشروع سياسي خرج من مدرجات الجامعة وركب على موجة الغضب الشعبي بذكاء، واستطاع أن يملأ الفراغ الذي تركه الحزب الاشتراكي العمالي على يساره، وحزب اليسار الموحد على يمينه، ببراغماتية أهلته في نهاية المطاف للمشاركة في أول حكومة يسارية ائتلافية في تاريخ إسبانيا الديمقراطية.

ماذا تغير في مشروع بوديموس منذ انطلاقه إلى غاية مشاركته في الحكومة؟

باستثناء الشعارات الرنانة التي لا زالت بعض قيادات الحزب تُلوِّحُ بها للحفاظ على تواصلها مع الناخبين الشباب من اليسار، لم تعد أغلب الأهداف الرئيسة التي سطرها الحزب سنة 2014 في بيانه التأسيسي قائمة، ونذكر على سبيل المثال:

ـ التراجع عن مطلب تأميم بعض البنوك التي تورطت في فضائح الفساد المالي، وكانت على وشك الانهيار لولا تدخل الدولة لإنقاذها (نموذج بنكيا).

ـ التراجع عن مطلب تأميم شركات الماء والكهرباء، التي كان يتهمها بوديموس بالاستغلال والمضاربة في فواتير الماء والكهرباء الباهظة.

ـ التعديل بدل إلغاء قانون الإفراغ من السكن بسبب عدم أداء الكراء، أو في حالات احتلال البنايات الشاغرة المملوكة للشركات الكبرى المضاربة في العقار.

ـ تراجع هجوم الحزب على اللوبيات المالية والاقتصادية المعروفة بـIBEX35.

ـ تراجع دعم بوديموس للجمهوريات “اليسارية” الشعبوية في أمريكا اللاتينية، وفي مقدمتها فنزويلا، والتنديد بخروقات حقوق الإنسان في بعضها.

ـ الاعتدال في موضوع الهجرة وقانون الأجانب فيما يتعلق بالطرد وتنظيم الهجرة مع الحفاظ على بعض المطالب التي تحظى بدعم حتى بعض الأحزاب اللبرالية الأوروبية، من قبيل عدم طرد القاصرين واللاجئين. بعض المواقف الحالية لا تختلف عن التي دافعت عنها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.

ـ تعديل مواقف الحزب السابقة فيما يتعلق بالملكية، والتي لم يعُد يُناقش شرعيتها بقدر ما يطرح النقاش حول إصدار قانون ينظم دورها، ويقلص من بعض صلاحياتها، وإخضاعها للمتابعة في حالات الفساد والجرائم الكبرى.

ـ تراجع الحزب في الدفاع عن حق كاطالونيا في الانفصال، واستبداله تدريجيا بالحق في تقرير المصير، ثم إلى دعم مفاوضات تنتهي بنموذج حكم ذاتي متقدم، واستعادة النقاش عن الدولة الكنفدرالية.

ـ لم يعد بوديموس يطرح الخروج من الحلف الأطلسي، كما تراجعت مطالبته بتقليص ميزانية الدفاع، وإيقاف تصدير الأسلحة لأنظمة لا تحترم حقوق الإنسان، أو المنخرطة في الحروب، كالسعودية مثلا.

لائحة التحولات التي عرفتها مواقف بوديموس طويلة، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي لا يسع هذا المقال للإحاطة بها كاملة، لكن خطاب الحزب وبعض شعاراته لم تفقد حتى الآن بريقها وتأثيرها في سقفها الانتخابي، وهي لا تختلف في هذا التحول عن تجارب أخرى سبقتها في أوروبا، بعد أن انتقلت إلى موقع الحكم وتدبير تعقيدات الشأن العام، نذكر منها على سبيل المثال حزب سيريزا في اليونان، كما أن التجارب التي ظلت متصلبة في مواقفها انتهت بالانكماش وفي بعض الأحيان إلى الاندثار.

الحزب الاشتراكي العمالي نفسه خضع لهذا التحول بعد عودة الديمقراطية، مرورا بمؤتمر 1979 الذي أعلن فيه الحزب القطيعة الرسمية مع الماركسية، والالتحاق بنادي الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية، واستمرت هذه التحولات بشكل سريع بعد فوزه في الانتخابات التشريعية سنة 1982، وانتقاله من المعارضة إلى تدبير الحكم، وتبديد مخاوف رجال الأعمال وقيادات في الجيش الاسباني، وأخرى لدى جيرانه وحلفائه من الحلف الأطلسي، الذي انتهت أمانته العامة في التسعينيات من القرن الماضي إلى أحد القياديين البارزين في الحزب الاشتراكي خافيير صولانا.

الخلاصة أننا أمام حزب يساري يشارك في حكومة ائتلافية، يتعرض كغيره من الأحزاب الحاكمة لأعراض التعرية الناتجة عن التدبير الحكومي، والنخبة التي تقود الحزب والمشاركة في الحكومة تنتمي إلى طبقة متوسطة، ومن مستوى علمي ومعرفي لا يمكن إلا أن يجعلها أكثر واقعية وبراغماتية من النماذج التي نعرفها في أمريكا اللاتينية، ومهما كانت مساحات الحذر التي تُميز علاقة هذا الحزب بالمغرب، والتي هي نفسها التي تُميز غالبية قواعد كل الأحزاب الإسبانية، لكنها حتما لن تكون علاقة عداء للمغرب والمغاربة، وموقفها في ملف الصحراء محكوم بقواعدها وبـ83 في المائة من الإسبان الذين يؤيدون البوليساريو حسب آخر استطلاع رأي نشرته جريدة الإسبانيول.

قد يلتقي حزب بوديموس في بعض المواقف مع أحزاب مغربية متطرفة، وبعض الجمعيات، لكنه في مجمل سياسته الآن لا يختلف عن الحزب الاشتراكي الموحد، أو حزب الاتحاد الاشتراكي قبل وبعد تجربة التناوب. وحساباته لن تخرج عن منطق البراغماتية السياسية، وتحقيق أهداف يقايضها كغيره من الأحزاب الإسبانية وغيرها في الدول الديمقراطية بالأصوات والمكاسب السياسية.

السؤال، هل تعمل الدولة المغربية عبر قنواتها للتواصل مع هذا الحزب في ملفات يشرف عليها وزراء من بوديموس، واستغلال هذا التواصل لفتح قنوات أكثر فاعلية من الحوار حول المواضيع الشائكة؟ وهل تعمل دبلوماسية اليسار المغربي، وبالخصوص الحزب الاشتراكي الموحد، على فتح قنوات للحوار الصريح والمستمر مع هذا الحزب.

مفارقات كثيرة عرفتها السياسة في العديد من الدول، بعضها كان بمثابة الزلزال، ولا ألغي من لائحة هذه المفارقات أن يصبح بوديموس من الداعمين لمقترح الحكم الذاتي في الصحراء كحل واقعي يخدم مصالح المغرب وإسبانيا وشعوب المنطقة، فقط نحتاج إلى المزيد من السياسة الفاعلة والدبلوماسية الذكية.

hespress.com