وصل السيل الزبى، ولم يعد مقبولاً بالمرة أن تصمت الحكومة، وبالأحرى الدولة، عما يعيق حقيقة مآل قطاعين استراتيجيين حاسمين بالنسبة لتطلعات المغرب وآماله.

قطاعا التعليم والصحة يحدثان قطيعة اجتماعية واقتصادية خطيرة، ويعريان معا عن هاجس مروع استطاعت جائحة كورونا، خلال سنة فقط، أن تكشف عن آثاره العميقة في مساحة شاسعة من مردودية جهود كبيرة طيلة سنوات من التخطيط.

خلال العشر سنوات الأخيرة، عرف قِطاَعَا التعليم والصحة تفاوتات بنيوية واختلالات شديدة الوقع في المجتمع، ومعهما تصدعت جسور الثقة بين المواطنين ومن يدبر أمر القطاعين. وصار من الصعب استيعاب نظرية التوجيه التنموي والتعزيز المخططاتي، في مراحل شهد فيها نمو طفرات الفشل، يراكم حالات العوز البنيوي، وامتدادات تأثير ذلك على أجيال ممن عقدوا العزم على استشراف أفق جديد للحسم في الأولويات الوطنية المطروحة للنقاش.

بين من يعزز طبيعة المشاكل التي تعانيها الصحة والتعليم، باعتبار ذلك يمثل حالة عضوية يصعب التماس إصلاحها وتأسيسها في ظرفية معينة، وبين من يرى الأمر مرهونا بالإرادة السياسية، وبالمسؤولية السياسية، واقترانهما بالمساءلة وتقديم الحساب.

ولتأطير هذه البديهية، لا بد أولا من التحديد الموضوعي والمنطقي لحالة الأزمة المركبة التي تنهش السيرورة التنموية لبنية التعليم المهترئة.

ولعل ذلك من أخطر العوائق التي تحول دون اكتمال نظرة التأطير لإمكانيات العمل داخل منطقة محفوفة بالمخاطر والامتدادات اللاطبيعية، والاختبارات المخيبة للآمال.

فقد شكل الاختراق التهميشي للتربية والتكوين منذ بداية الاستقلال وإلى الآن، مجالا لإنعاش شكوك متزايدة حول مستقبل الكفاءات الوطنية وسبل تعزيز الرهان عليها في بناء لبنات النهضة والعمران.

وسرعان ما امتدت الشكوك لتتعالى وتتسع حول أسئلة المناهج والتوجهات البيداغوجية والهوية الثقافية واللغوية.

ولم يكن محض خيال أن تتفرع عن مجموع هذه الأقفال المسكوكة بوجع الزمن ومحدودية الانتقال، سيول من المراهنات المعوقة، والانكسارات المريبة، لتنزع كل التصورات التي شكلت حاجزا ضد المسارات المتخذة، إلى تقسيم المبادئ الكبرى التي تقوم عليها نظرية الإصلاحات المنتظرة.

وأرخت عمليات الترنح تلك، في القابلية على فك طلاسم الفشل الذريع الذي شهدته المدرسة المغربية، (أرخت) بظلالها على كل مجالات الحياة ببلادنا، مما يتفرغ من ماكينتها، حيث يتخرج الآلاف من التلاميذ والطلبة الذين يرتقون مهام تدبير السير العادي للمؤسسات، في الصحة والقضاء والهندسة والميكانيكا والطب والعلوم والفكر والأدب … الخ.

ولن يكون للصحة استثناء. فقد كانت ولا تزال القطاع الـكثر تضررا، والأخطر امتدادا على جوانب ترتبط بمصير الفكر والوجود والانتماء.

هل تتقدم أمة بلا جسد سليم؟ هل تنجو من آفات وملمات دون أن تحدث الصناعات والأساسات التطويرية لمجالات التدبير العلمي؟

هل تستطيع ملاءمة تحولاتها وارتداداتها في خضم الصراعات العالمية في منظومة الأعمال والأموال والعولميات والمحدثات المعلوماتية والتكنولوجية؟

كيف نروم إذن تحصين ذواتنا من آفات وملمات النظام العولمي الجديد ونحن نختزل أفقا علائقيا مفلسا لا يلائم البتة الأشكال المحدثة في سياق البشائر المعلوماتية الخارقة ومثيلاتها في السيبرانيات والنظم الرقمية الصاروخية وعلوم الفضاءات والنجوم؟

إن التوقفات الراهقة للزمن، ونظرتنا المُجزَّأَة للتحولات الصناعية الكبرى، وانصرافنا للهوامش والتحيزات عديمة الجدوى، يباعد بين جوهر سلوكياتنا وامتناعنا عن تدبير مراحل الانتقال، وتوجسنا من انفراط البديل الذي ننتظره، لكنه لا يأتي…؟!

بيد أن قراءة المآلات الناظمة لهذا التحول الفارق لا بد وأنه يدفعنا دفعا إلى إعادة صياغة رؤى قابلة للتجديد، موائمة لتموقعات مبنية على حسابات علمية دقيقة، موثقة بإرادة سياسية دالة.

فليس عجيبا أن نقف جميعا بإزاء هذه المواجهة على نقيض ما نحلم به، وما نطمح إليه، معززا بوجاهة التخطيط والتنفيذ، لكن العجيب أن نصل إلى الفكرة التي نحتاجها لنفرد الوجه الحقيقي للمراد تحقيقه ثم تلتبس علينا المواطن والاختيارات ونتداعى على هلاك التجارب التي خسفت بأحلامنا، ثم نعود القهقرى.

إننا اليوم نحصد ما زرعته سياسات تدبير مرفقين، الصحة والتعليم، هما الطريق الوحيد لنجاتنا من غرق لا فكاك منه!

hespress.com