لعل المتأمل للسياسة الخارجية التي يتبعها الرئيس الأمريكي جو بايدن قبل متم مئة يوم حكمه الأولى يرصد تراجعاً ملحوظا لقيادة أمريكا العالم وهيمنتها وهيبتها على عدة مستويات. ويزداد الوضع دراميةً عندما يصب هذا التراجع في مصلحة قوى عالمية عظمى أخرى مثل الصين وروسيا. فالصين صارت بعبعا يقض مضجع أمريكا في كل وقت وحين. إذ لم يعد أي تقرير يتحدث عن التهديدات الخارجية لأمريكا يخلو من وصف الصين باعتبارها العدو والتهديد الوجودي الأكبر لأمريكا، سواءً صدر من الوكالات الاستخبارية أو وزارة الخارجية أو الدفاع أو الأمن القومي.
في الوقت الذي يمضي فيه بلد المليار ونصف المليار نسمة بثبات ليخلف العم سام في قيادة العالم بطريق الحرير ودبلوماسية اللقاحات وتقنية الجيل الخامس وبنمو سنوي في الناتج المحلي الإجمالي هو الأعلى عالمياً (9,3٪) وتفوق تكنولوجي برا وبحرا وجوا. فهل يكون جو بايدن غورباتشوف أمريكا الحالية ويفاقم تخبطها في انقسامها الداخلي وسوء إدارة نزاعاتها الخارجية، ويدفعها إلى تسليم دفة قيادة العالم إلى طرف آخر أجدر كما فعل غورباتشوف عندما كان رئيساً للاتحاد السوفييتي؟!
فضلت الصين منذ حقبة الحرب الباردة النأي بنفسها عن الصراعات الدولية وركزت على قضاياها الداخلية، وهي الآن تجلب الثمار تلو الأخرى بعد عقود من الكد والكدح دون كلل أو ملل، مستفيدة من عوامل عدة أبرزها مركزية صنع القرار لديها الذي أثبت نجاعته أكثر من لامركزية قرار النظام الرأسمالي الذي جعل الدول الغربية تبطئ وتيرة تقدمها بسبب إغراقها في البيروقراطية. تمكنت الصين من هزم شبح الفقر المدقع الذي كان يتربص بالملايين من شعبها الملياري، وأدارت مكافحتها جائحة كورونا أفضل من معظم الدول الغربية، بما في ذلك أمريكا التي تكبدت خسائر بشرية تفوق مجموع ضحاياها في الحرب العالمية الثانية وحرب فيتنام والحرب الكورية وتكاد تعادل عدد من قضوا في حربها الأهلية.
أعلن جو بايدن انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان بدءا من الشهر المقبل إلى شتنبر، وأعلن حلف شمال الأطلسي (الناتو) الحذو حذوه وسحب كل القوات من أفغانستان، تاركين هذا البلد الذي تناوبت القوى العالمية الكبرى شن حروب فيه وعليه، لجيرانه الذين يشترك معظمهم في معاداة أمريكا: الصين وإيران وباكستان وروسيا! هذا الانسحاب المشترك الذي أعلنه بايدن أولا ثم عقبه الأمين العام للناتو ينس ستولتنبرغ، يظهر مدى التبعية المطلقة لدول الناتو لأمريكا في كل ما تراه وتتخذه من قرارات إلى الآن حتى لو كانت تؤدي إلى حافة الهاوية. وإذا كانت أمريكا وأعضاء الناتو أكبر المتضررين في هيبتهم العسكرية ومكانتهم العالمية بهذا الانسحاب بسبب حدوثه دون تحقيق النصر على طالبان، فإن أكبر المستفيدين منه هم الروس والصينيون. فروسيا التي كانت قد رصدت مكافآت مالية لكل من يقتل جنودا أمريكيين في أفغانستان حسب تقرير استخباري صدر في عهد ترامب ستكون أول الشامتين في عدوها اللدود الناتو وزعيمته أمريكا.
والحال نفسه ينطبق على الصين التي تربطها بأفغانستان حدود شاسعة، إذ تلقف إعلامهما نبأ الانسحاب بفرح واعتبره انهزاما وفضيحة وفشلا ذريعا في هزم طالبان والإرهاب في أفغانستان رغم مرور 20 عاما! ومن المؤكد والحال هذه أن روسيا والصين ستستغلان الفراغ الذي ستتركه أمريكا وحلفاؤها بعد انسحابهم لملئه وتعويضه بنفوذ شيوعي واستثمار اقتصادي وحضور تكنولوجي تكون فيه الصين تحديداً أكبر الرابحين. مما سيجعل الصين تواصل شق طريقها الصاعد بقوة نحو اعتلاء عرش قيادة العالم وريادته في كل المجالات الحيوية.
زف بايدن بشرى الانسحاب للعالم ومقاتلي طالبان، ولا شك أنهم يرقصون فرحا بهذا النبأ، الذي سيرفع أسهمهم الجهادية لا محالة في صفوف مقاتليهم ومجنديهم ويجعلهم يواصلون ترويج رواية دحر “الغزاة الأمريكان” بعد نجاحهم سابقاً في طرد “الغزاة السوفييت”، علما أن دحرهم السوفييت كان بسلاح أمريكي. اعترف بايدن خلال خطاب الانسحاب بعدم جدوى البقاء في أفغانستان بعد سقوط نحو 2500 جندي أمريكي وجرح أكثر من 20 ألفا وخسارة ألفي مليار دولار. كما أقر بأن الظروف المثالية للانسحاب لن تتوفر أبدا، ولا مفر بالتالي من انسحاب أمريكا من أطول حرب خاضتها. حاول بايدن إظهار الواقعية السياسية في خطابه وترجيح المصلحة الوطنية، لكن خطابه كان انهزاميا وانكفائيا بشكل فاق التوقعات.
صحيح أن حرب فيتنام حصدت أضعاف هذا العدد من القتلى والجرحى الأمريكيين (أكثر من 58 ألف قتيل و304 آلاف جريح) خلال 19 عاما من القتال، لكن إعلان انسحاب أمريكا من أفغانستان دون تحقيق النصر على العدو (طالبان) على يد جو بايدن ذكَّر العالم بانسحاب أمريكا المهين من فيتنام على يد ريتشارد نيكسون، الذي ستطيح به فضيحة “ووتر جيت” وتجبره على الاستقالة في ما بعد. فهل يكون هذا الإعلان على لسان بايدن نذير شؤم له على غرار سلفه نيكسون!؟
يسجل راصدون أن سقطات جو بايدن المادية والمعنوية تعددت منذ أن أصبح رئيسا. إذ سقط في سلم الطائرة أكثر من ثلاث مرات متتالية في طلعة واحدة وسقط مرة رابعة في طلعة منفردة. وكما زلت قدماه عن سلم الطائرة أكثر من مرة، زل لسانه أيضا أكثر من مرة ونادى نائبته كمالا هاريس “السيدة الرئيسة” بدلا من “السيدة نائبة الرئيس”! كما زل لسانه خلال مقابلة تلفزيونية ووصف الرئيس الروسي بوتين بالقاتل وخلق أزمة مع روسيا بسبب زلته تلك التي عكست خروجا عن الأعراف الدبلوماسية بين قادة الدول، ليضطر قبل يومين إلى الاتصال ببوتين واقتراح قمة ثنائية في بلد ثالث. تحدث هذه السقطات والزلات والعثرات لجو بايدن البالغ 78 سنة وهو لم يتجاوز بعد مئة يوم الأولى في البيت الأبيض! فهل يا ترى سيكمل أيامه المئة الأولى وما يليها بسلام أم أن نبوءات بعض من تكهن بأن نائبته كمالا هاريس قد تخلفه كأول رئيسة امرأة للولايات المتحدة ستتحقق في حال تكاثرت سقطاته، وترث بذلك رئاسة قوة عظمى في طور الأفول!