يشتهر إقليم اشتوكة آيت باها بواحات شاسعة تعرف محليا بـ”تاركا”، أي واحة تشكل فضاء إيكولوجيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا مهما، نظرا للأدوار التي اضطلعت بها في السابق، ولازال بعضها يصارع من أجل أداء الأدوار ذاتها، رغم ما نزل بها من اندثار قسري، بفعل عوامل طبيعية وأخرى بشرية، أبعدتها عن مواصلة تأدية تلك الأدوار، وسط تحديات كبيرة تعصف في كثير من هذه الواحات بمنظومتها الإيكولوجية والثقافية.
منطقة “ماست” تعرف بواحتها الممتدة على طول وادي ماسة. كما أن جماعة تاركا نتوشكا بالدائرة الجبلية تؤثثها واحة واسعة، إذ تزرع بها أصناف وأشكال من المزروعات والمغروسات. وبمنطقة أوكنز وتنالت، هناك واحة تاكوشت وتالما وغيرها، وكلها لازالت قائمة، غير أنها تشهد بعضا من التراجع والاندثار، سواء من حيث المساحات المزروعة أو تقلص عدد الأشجار والمحاصيل، لاسيما النخيل والزيتون، مع تسجيل تراجع أيضا في أعداد المستغلين.
هسبريس زارت واحة “تالما” في جماعة أوكنز، والتقت بعض المزارعين الذين أبرزوا أن هذه الواحة، أي “تاركا”، كانت تشكل عماد الأمن الغذائي في سنوات الجوع، إذ “تعد طوق نجاة الساكنة المحيطة بها من خطر الجوع، فالاهتمام، حينها، كان منصبا على هذه الواحة، فلا مأكل إن لم يأتِ منها، حيث إن الحبوب والخضر والتمر والزيت، أي المواد الغذائية الأساسية، إلى جانب الكلأ، مصدرها الوحيد “تاركا””.
الإفادات ذاتها كشفت عن طرق تدبير العملية الزراعية بالواحات عموما، إذ تتميز هذه المنطقة بمنابع الماء، التي تستغل في سقي “تيغولا”، أي القطع الأرضية المزروعة، وذلك وفق نظام عرفي متعارف عليه محليا، يعتمد “تاوالا”، أي النوبة، والأمر ذاته مع أنواع المزروعات، التي لها مواقيت محددة، مفصلة في العرف المحلي، كل حسب الفصل ووفرة الماء والظروف المناخية، ولا يجوز لأي مزارع مخالفة ذلك، تحت طائلة عقوبات مالية تؤدى لـ”لامين ن تاركا”، وهو المختار لمراقبة وتنفيذ تلك الأعراف.
الزائر لهذا الموروث الإيكولوجي سيلحظ، دون عناء، تقلصا في المساحات المزروعة، وتدهورا لمختلف أنواع الأشجار والمحاصيل، بسبب عوامل عديدة، حدد المزارعون، الذين التقيناهم في المكان، بعضا منها في العامل البشري، إذ إن “الهجرة استفحلت ولم تعد الواحة تلعب ذلك الدور في الأمن الغذائي المحلي. كما أن الحرائق ساهمت في ذلك، إلى جانب الجفاف والتغيرات المناخية، وغياب العناية اللازمة من طرف المزارعين أنفسهم، ولا الجهات المعنية، فضلا عن تغير في منطق الإنتاج والاستهلاك”.
عابد إعلون، الرئيس السابق لجمعية واحة “تالما”، قال في تصريح لهسبريس: “الساكنة واعية بحجم الاندثار والهشاشة التي تضرب هذه الواحة، وربما واحات مجاورة، وذلك يتطلب التفكير الجماعي، بمعية كافة الشركاء، في صيغ إعادة الاعتبار لهذا الموروث الطبيعي، وفق خطة إقليمية تأخذ بعين الاعتبار خصوصيات كل واحة، حتى تسترجع جزءا من بريقها، وتعود الحياة إليها من جديد، من خلال الأخذ بعين الاعتبار طرق الإنتاج الجديدة دون التفريط في الأنماط الواحية”.
المتحدث ذاته أضاف أن “الواحات فعلا لعبت من الأدوار أبرزها، وهو الأمن الغذائي المحلي، ولم تعد اليوم كذلك، لكن تنبغي مضاعفة الجهود من أجل استغلالها في جوانب أخرى، كالسياحة والزراعة البيولوجية عبر صيغ متعددة، منها مشاريع مدرة للدخل، تشجع على استقرار الساكنة في هذه المناطق النائية، عبر إحداث تعاونيات لإنتاج الحليب ومشتقاته ‘البلدي’، أو تسيير المآوي السياحية وغير ذلك، وقبل ذلك، إرجاع الروح إلى الواحات بإنشاء سد أيت العباس كمصدر ضامن للموارد المائية، ثم تجميع الأراضي والتشجيع على الزراعة”.
“كغيرها من الواحات في المغرب، نحن اليوم في حاجة إلى بدائل أخرى إضافية لخلق انتعاش اقتصادي يساهم في التنمية، لاسيما السياحة المستدامة المسؤولة، التي تحافظ على ثقافة هذه المناطق الواحية أو المجاورة للواحات، وقيمها وتقاليدها وهويتها وبيئتها، إذ ستكون رافعة للتنمية أكيد، لكن لا بد من حمايتها من الزوال، وهو التهديد الذي سبق وأن أطلقه العديد من المهتمين والمنظمات المختصة، التي دعت إلى حماية هذه الثروات المهددة بالاختفاء والاندثار، ما سيؤدي إلى استمرارها وقدرتها على التكيف مع مختلف المتغيرات”، يقول عابد إعلون.