نزَل الخبر على أهل مدينة فجيج كالصاعقة، ولم يصدّق الفلاحون أنهم فعلا سيُمنعون من ولوج واحة العرْجة إلى الأبد، بعدما قررت السلطات الجزائرية طردهم منها، يوم 18 مارس 2021، نكاية في المغرب وثأرا منه بعد الانتصارات الدبلوماسية المتوالية التي حققها في نزاع الصحراء الذي تلعب فيه الجارة الشرقية للمملكة دورا رئيسيا.
سمّى أهل مدينة فجيج (فگـيگ) المُتاخمة للحدود مع الجزائر اليومَ الذي فُصلوا فيه عن أرضهم ونخيلهم بواحة العرْجة بـ”الخميس الأسود”؛ ولا يخجل رجال المدينة من الاعتراف بأنهم بكوْا، مثلما بكت النساء، حين سمعوا تأكيد قرار الطرد من أفواه مسؤولي العسكر الجزائري، ثم لاحقا من المسؤولين المغاربة، دون أن يصدّقوا إلى حد الآن أن واقعة الطرد حدثت فعلا.
وموازاة مع ألَم “الخذلان الجزائري”، يتجرّع الفلاحون المطرودون من واحة العرجة مرارة “الصمت الرسمي المغربي غير المفهوم”؛ ذلك أن السلطات المغربية لمْ تُحِطْهم علما بقرار الطرد، على الرغم من علمها بما تخطط له السلطات الجزائرية. وبعدما طُردوا لم تحفّْهم بما يستحقون من اهتمام لتضميد جراحهم، عَدا لقاء يتيم مع عامل الإقليم خرجوا منه كما دخلوه خاويي الوفاض مجروحي الصدور.
خَبا الاهتمام بقضية طرد الفلاحين المغاربة من العرْجة وتُركوا يواجهون مصيرهم لوحدهم، دون أي دعم من الدولة؛ لكنَّ المطرودين ما زالوا ينتظرون من “الرباط” أن تتحرّك لـ”تطييب خواطرهم المكسورة”، ويؤكدون أنهم لن يتنازلوا عن حقوقهم، كما يؤكدون تشبثهم بأن الأرض التي طُردوا منها “ستبقى مغربيّة إلى الأبد”، وإن كانت ترفرف فوقها، حاليا، ثلاثة أعلام جزائرية نُصبت عند أقدامها ثلاث خيام يعمّرها جنود مدجّجون بالذخيرة الحية.
الفاجعة
يضع عبد المالك بوبكري، الرجل السبعيني، كفّه اليُمنى على صحْن من تمر “أزيزا” الشهير ويقول بتأثر: “هذا هو الخير الذي سنُحرم منه إلى الأبد”، ثم يختنق صوته وهو يتذكر بدقة تفاصيل ذلك اليوم الذي قَدِم فيه وفْد من العسكر الجزائري إلى واحة العرجة، وصكّوا سمْعه بالخبر الصاعق: “لا نريد أن نراكُم هنا ابتداء من 18 مارس”.
دأبَ عبد المالك، البالغ من العمر واحدا وسبعين خريفا، على العمل في واحة العرجة منذ عقود من الزمن؛ فمنذ صبَاه كان يرافق والده في مهمة الاعتناء بنخيلهم داخل الواحة، إلى أن صار واحدا من كبار المستثمرين في قطاع إنتاج التمور بالمنطقة، ما جعل وقْع طرده وزملائه الفلاحين المغاربة الفجيجيّين من الأرض التي حفُّوها بالعناية لعشرات السنين قاسيا، ولا يجد تعبيرا أنسب لوصْف وقْع ذلك القرار المباغث غير كلمة “الفاجعة”.
وعلى الرغم من أن فصْل الفلاحين الفجيجيين من ضيعاتهم التي توارثوها أبا عن جد أصبح واقعا، فإنهم متشبثون بأنّ تلك الأرض التي طُردوا منها واستولت عليها الجزائر مغربية، ويستشهدون بمجموعة من الوثائق التي تؤكد ذلك، ومنها منشور بالجريدة الرسمية بتاريخ 24 يونيو 1992.
حسب ما هو مدوَّن في الوثيقة المذكورة، فإن الحدود المغربية الجزائرية عند فجيج “تسير عبر خطّ القمم المرقومة 1544. 1026 (جبل ملياس)، وتمر بعد ذلك بخط القمم على المرتفعات التي تفصل واحات بني ونيف وفجيج، مجتنبة منطقة الكثبان الرملية شرق هذه القرية مارة بالواد غير المسمى حتى التقائها بواد حلوف، تابعة هذا الواد شمالا حتى رأس بني سمير”.
يضغط عبد المالك بطرَف سبّابته على كلمة “الواد غير المسمى”، ويقول بيقين إنّ الجزائر تحايلت على القانون وعلى الحقائق الجغرافية لتضمّ واحة العرجة إلى أراضيها، معتبرا أن هذه المنطقة تقع داخل الحدود المغربية، ومؤكدا أن “هذه الأرض أرضُنا، وستظل كذلك ولو اغتصبتها الجزائر”.
هذا المُعطى يؤكّده أيضا تحرّك عدد من الفعاليات، من محامين ورجال قانون ودبلوماسيين، المتحدرين من مدينة فجيج، على الصعيدين الوطني والدولي، من أجل الترافع أمام المؤسسات الدولية المعنية، لاسترداد واحة العرجة، ويطالبون الدولة المغربية بدعمهم في مسْعاهم.
معطيات أخرى تؤكد أن العرجة أرض مغربية، يرويها عبد المالك، ومنها أن المزارعين الأوائل المستغلين للواحة ابتداء من ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كانوا يؤدّون الضريبة على الفلاحة بمصلحة إدارة الضرائب المغربية في مدينة جرادة.
وفي سنة 2008، حدثت واقعة أخرى يرى عبد المالك أنها تؤكد أن العرجة لا تدخل ضمن الحدود الجغرافية للجزائر، حيث وقع فيضان جرَف قطيعَ أبقار وأغنامِ أحد المزارعين المغاربة بالعرجة، وحصل على تعويض من طرف السلطات المغربية، “وهادا يُثبت بأن الأرض مغربية”.
وقبل ثلاثة شهور فقط، يضيف المتحدث، وقع نزاع بين فلاحيْن مغربيّين في العرجة، وتدخلت عناصر الدرك الملكي لتباشر تحقيقاتها في عين المكان، مبرزا أن الدرك الملكي لم يكن ليدخل إلى تلك المنطقة لو لم تكن أرضا مغربية.
بالموثوقية نفسها يؤكد أحمد السهول، فاعل جمعوي بفجيج، أنّ واحة العرجة أرض مغربية بقوله: “ما نعرفه هو أن الحدود بيننا وبين الجزائر تمر عبر قمم الجبال، أي أن واجهتها في اتجاه المغرب تدخل ضمن حدودنا؛ ولكن فوجئنا بأن الجزائر اخترقت الجبال، واستولت على المنطقة”، وتابع بلغة واثقة: “بالنسبة لنا تلك أرض مغربية”.
وفي انتظار دعم الدولة لهم في ترافعهم أمام المؤسسات الدولية من أجل استرداد أراضيهم التي ضمّتها الجزائر، يحز في نفوس الفلاحين المطرودين من واحة العرجة تعامُل المسؤولين المغاربة معهم، على الصعيدين المحلي والمركزي، وعدم تخصيصهم ولو بتقرير تلفزيوني في إحدى القنوات العمومية، يتطرق إلى قضيتهم.
“عندما وقع مشكل إقدام السلطات الجزائرية على طرد عشرات المهاجرين السوريين من أراضيها في اتجاه المغرب هنا في المنطقة الشرقية، خصّت القناتان الأولى والثانية الموضوع بتغطية إعلامية مكثفة. أما الآن، فلم تتطرقا أبدا إلى قضية طردنا من العرجة”، يقول أحد أبناء فجيج.
ولمْ يتعدّ اهتمام السلطات المغربية بالفلاحين المغاربة المطرودين من العرجة سوى لقاءٍ يتيم مع عامل الإقليم، لم يتمخّض عن شيء، إذ طُلب منهم أن يقدموا اقتراحات مناسبةً لتعويضهم؛ لكن الفلاحين عبروا عن عدم أهليتهم للقيام بهذه المهمة، واعتبروا أن الدولة هي التي ينبغي أن تُوفِد لجنة من المختصين لاستجلاء الوضع أولا، وتستمع إلى المتضررين من أجل وضع تصور للتعويض الملائم لجبر الضرر الذي لحق بهم.
يحوِّل أحمد السهول الغصّةَ التي خلّفها الموقف الرسمي المغربي في صدره كما في صدور باقي أهل فجيج إلى كلمات غاضبة، ويقول: “الصدمة كانت كبيرة للغاية، والأشد وقعا ومضاضة هو أن السلطات المغربية لم تطيّب خواطر هؤلاء الفلاحين بشيء ما وتُركوا لحالهم، وتولوا مصيرهم بأيديهم”.
ويضيف بمرارة: “نحن نثق في مصداقية الدولة المغربية، وفي الحكومة المغربية؛ ولكن ما نؤاخذ عليه دولتنا هو هذا الصمت غير المفهوم، إذ إلى حد الآن ليس هناك بلاغ رسمي على أعلى مستوى يوضح هذه المسألة”.
الخميس الأسود
بدأت الإرهاصات الأولى لطرد الفلاحين المغاربة من واحة العرجة في أواخر شهر فبراير 2021، حينَ قدِم إلى هناك سبعة عناصرَ من الجيش الجزائري، ودار بينهم وبين صاحب ضيعة مغربي يُدعى مصطفى حوار استُهلّ بسؤاله من الطرف الجزائري عما إن كان على علم بأنه يشتغل في أرض جزائرية.
ردَّ الفلاح المغربي على عناصر الجيش الجزائري بأن الأرض التي يشتغل فيها مغربية، وأن ضيعته ورثها عن أجداده، فكان جواب الطرف الآخر: “ما تقوله نحن لا نعترف به”، وانتهى اللقاء بين الطرفين على وقع هذه الكلمات دون مزيد من التوضيحات حول مغزاها، حسب المعطيات التي استجمعتها هسبريس، ليتوجه الفلاح المغربي إلى إخبار المسؤولين المغاربة.
وبعد ذلك، توالت الأحداث بسرعة غير متوقعة، حيث مَنح الجيش الجزائري لأصحاب الضيعات المغاربة بواحة العرجة مهلة ثلاثة أيام للمغادرة، ثم جرى تمديد الأجل إلى 18 مارس. وكان المثير في الموضوع هو أن الفلاحين المغاربة كانوا يستقون أخبار التخطيط لطردهم من الطرف الجزائري، بينما كان الصمت سائدا لدى السلطات المغربية، على الرغم من علمها بالموضوع.
يقول أحد المزارعين لهسبريس: “عندما سمعنا بأن الجزائر قررت أن تطردنا من العرجة ذهبنا عند الباشا، فنفى علمه بالموضوع. وبعد ذلك، جاء جنرال وستة كولونيلات جزائريون، وسألني أحدهم عما إن كانت السلطات المغربية قد أخبرتنا بقرار وجوب مغادرتنا للواحة يوم 18 مارس، وحينها عرفتُ الحقيقة”.
هذه الحقيقة ستتأكد أكثر حين قَدم إلى واحة العرجة، بتاريخ 10 مارس 2021، حوالي أربعين عنصرا من العسكر والمسؤولين المدنيين الجزائريين، يومها كان عبد المالك بوبكري، وهو أحد أكبر المستثمرين هناك، حاضرا في ضيعته، وتأكد له بما لا يدع مجالا للشك أنّ الطردَ من الأرض التي حسبَ دائما أنها مغربية وقضّى فيها عقودا من عمره آتٍ لا ريب فيه.
“غير شفت هاداك المنظر عْرْفت الأرض مْشات”، يقول عبد المالك، وزاد مسترسلا بأن المسؤولين الجزائريين الذين قدموا إلى العرجة طلبوا منه أن يدلهم على أسماء أصحاب الضيعات، ثم قاموا بمسْح شامل للمكان، وانتهت الجولة التي رافقهم خلالها لمدة ساعة من الزمن بصكّ سمْعه من طرف جنرال جزائري بالخبر الفاجع: “ابتداء من 18 مارس، ستصبح هذه الأرض جزائرية، ومَن وجدناه هنا سوف نعتقله. اذهبوا عند سلطات بلدكم فهي على علم بكل شيء”.
غادر عبد المالك بمعيّة فلّاحيْن آخريْن كانا معه العرجة، وعادوا إلى فجيج على وجه السرعة لنقْل الخبر الصاعق إلى باقي الفلاحين المحكوم عليهم بالطرد، كما أخبروا السلطات المحلية فأكدت لهم الأمر، وبأنهم لن يكون بوسعهم الدخول مرة أخرى إلى العرجة ابتداء من يوم 18 مارس، “حفاظا على سلامتهم”، فسُمي هذا اليوم من طرف أهل فجيج بـ”الخميس الأسود”.
ومنذ ذلك التاريخ أصبح ممنوعا على أهل فجيج عبور “الوادي غير المسمى” نحو واحة العرجة؛ ففي الضفة الأخرى يتموقع جنود جزائريون يراقبون الوضع، وفي الضفة الملاصقة لفجيج زرع الجيش المغربي عددا من وحدات المراقبة يتموقع بها جنود مسلحون يراقبون المكان عن طريق كاميرات مبثوثة في عدد من المواقع.
طرْد بدافعٍ سياسي
لم تكتف الجزائر بطرد الفلاحين المغاربة من واحة العرجة فحسب؛ بل ارتأت أن تتم عملية الطرد في ما يشبه “الاحتفال”، حيث نصّب عساكرها ثلاثة أعلام جزائرية عند قدم الجبل المطل على فجيج، وعزفوا نشيدهم الوطني، صبيحة يوم 18 مارس، كأنهم حققوا انتصارا.
“هادي قضية سياسية. حْنا كنسمعو بأن المسؤولين الجزائريين كيحرّْضو الدراري ديالهم فالمْدرسة على المغاربة والمغرب. هاد الجيل اللي طالع دبا مْحرضينو على المغاربة. الجيل بحال تقدَّا ديالنا كيگولو حنا خاوة، وفعلا حنا خاوة، ولكن الجيل اللي قرَّاوْهم ما كاين لا خاوة لا والو. ما كنتسناوش شي حاجة من هاد الجيل”، يقول محمد المبارشي، أحد الفلاحين المطرودين من العرجة.
بدوره، يؤكد أحمد السهول الاعتقادَ السائد لدى أهل فجيج بأنّ قرار طرد الجزائر للفلاحين المغاربة من العرجة كان بدافع سياسي، قائلا: “الجزائر اختارت العرجة بالذات نكاية في المغاربة، والهدف هو أن تكون الضربة موجعة للمتضررين من أجل إحداث نوع من الصخب والاحتجاج في هذه المنطقة، ردا على تدخل المغرب في الكركرات، لذلك جاؤوا إلى هنا لينتقموا منا”.
اعتقاد أهل فجيج بأن إقدام الجزائر على الاستيلاء على واحة العرجة كان بهدف الانتقام من المغرب يعضده عبد السلام الكوش، باستحضار لواقعة مماثلة، حين طرد العسكر الجزائري فلاحين مغاربة من واحة أخرى قريبة من بني ونيف، عام 1976.
حدوث هذه الواقعة في ذلك التاريخ لم يكن مصادفة، بل لها دلالة ورمزية؛ ذلك أنّها جاءت بينما كان المغرب لا يزال يحتفل باسترجاع أقاليمه الصحراوية بعد المسيرة الخضراء عام 1975، كما يشرح عبد السلام الكوش.
يتذكر الكوش ذلك اليوم كأنه حدث بالأمس قائلا: “بتاريخ 22 أكتوبر 1976، تفاجأ الناس بقوات الجيش المغربي تأمرهم بعدم الدخول إلى ضيعاتهم، بداعي أنها أصبحت تابعة للتراب الجزائري. كان الزمن موسم جني التمور، وكانت الصدمة لا توصف”.
مرَّ خبر طرد الفلاحين الفجيجيين آنذاك في صمْت، نظرا للظروف الاستثنائية التي كان يشهدها المغرب يومئذ، و”تفهموا الأمر على مضض”، يقول عبد السلام، مردفا: “الآن، ونحن في 2021، لا يمكن أن نلزم الصمت، لأن الظروف اختلفت، ومن حقنا أن نطالب بحقوقنا”.
وبغصّة يقول عبد المالك بوبكري: “السلطات الجزائرية ارتكبت خطأ فادحا وغادي يبقا فالتاريخ”، وزاد موجها كلامه إلى حكّام الجزائر: “هادشي اللي قمتو به راه ماشي إنساني، وراه عمرو ما تّْندار فالتاريخ. بأي ذنب تجي وتحيّد لأي واحد مسكين رزقو. غادي يندمو، أنا كنحس بها”.
ويُعيد عبد المالك قناعته بأن حكام الجزائر “سيندمون” على ما اقترفوا في حق الفلاحين الفجيجيين المطرودين من واحة العرجة، قائلا: “كتبت آيات قرآنية وأحاديث وحطّيتها حْدا النخل ديالي. العسكر ديالهم غادين يمشيو وقْت التمر ما غاديش ينجّْمو ياكلوه. لا كان عندهم ضمير غادي يقولوا هادا تمر مغصوب. تحيّْد لمولاه بقوة”.
وفي المقابل، يؤكد عبد المالك أنّ العلاقة التي تجمع أهل فجيج بجيرانهم من الشعب الجزائري طيبة، مبرزا أنه تلقى اتصالات من عدد من الجزائريين في المناطق المجاورة مثل بني ونيف وعين الصفرة ومشرية ومْكرار، يستنكرون فيها إقدام سلطات بلادهم على طرد الفلاحين الفجيجيين من واحة العرجة، “وكيْگولو أودّي سمحو لينا، راه ما فيدنا ما نديرو”، على حد تعبيره.
في انتظار جبْر الضرر
بقدر لوْمهم لحُكام الجزائر على طرْدهم من واحة العرجة، يلوم الفلاحون الفجيجيون المطرودون السلطات المغربية لعدم وقوفها إلى جانبهم في المحنة التي يجتازونها؛ ذلك أنّ السلطات المحلية ممثلة في عامل الإقليم لم تُبادر سوى إلى عقد لقاء عابر معهم في مقر عمالة إقليم بوعرفة لم يُسْفر عن أيّ نتيجة، بينما لمْ يُبالِ المركز بقضيتهم وتركهم يواجهون مصيرهم لوحدهم.
ومنذ البداية، كان موقف السلطات المغربية “مُحتشما” إزاء طرد الفلاحين الفجيجيين من واحة العرجة، “فحتى خبر اتخاذ قرار طردهم أكاد أقول بأنه لم يصلهم بصفة رسمية من السلطات المغربية، بقدر ما توصلوا به مباشرة وبشكل استفزازي من العسكر الجزائري الذي حضر إلى المنطقة وأخبرهم بوجوب إخلائها في أجل 18 مارس”، يقول أحمد السهول.
وعلى الرغم من أن جُرح “تجاهل” السلطات المغربية لقضيتهم لم يندمل بعد في صدورهم، فإنّ الفلاحين المطرودين من العرجة لا يزالون يتطلعون إلى ما يمكن أن تقدمه لهم الدولة من أجل جبْر الضرر الذي لحق بهم؛ وهو ضرر، كما يقولون، كبير، سواء على الصعيد المادي أو المعنوي.
وبعملية حسابية، فإنّ الفلاحين المطرودين من العرجة خسروا مصدر أموال طائلة؛ ذلك أن عدد النخيل البوري في الواحة يقارب 50 ألف نخلة بورية، ويقارب النخيل المسقي ثلاثين ألف نخلة، وتُقدَّر القيمة المالية لغلّة النخلة الواحدة بأربعة آلاف درهم سنويا.
خلال اللقاء المنعقد في عمالة إقليم بوعرفة، طلبت السلطات من الفلاحين المطرودين من العرجة أن يقدموا مقترحات بشأن الصيغة المناسبة لتعويضهم؛ “لكنْ حْنا غير فلاحين بسطاء ما عندناش دراية بهادشي. المسؤولين هوما اللي خصهم يقدمو حلول، وهم أدرى بلّي خصو يندار”، يقول عبد المالك بوبكري.
ويؤكد المتحدث مُسبقا بأن “الأرض والنخل ما يمْكنش يتعوّْضو بأي ثمن. يْمكن يْكون تعويض لجبر الضرر؛ ولكن باش نريّْحو مع السلطة ونگولولْها تعوضنا على الأرض ولا النخل هادي لا، لأن جدودنا خلاوها لنا هادي قرون، وما يمكنش نگولو راها أرض جزائرية أو تخلينا عليها، هادي أرضنا واخا راها مستعمَرة”، في تأكيد على تمسّك استعادة الأرض الضائعة يوما.
الطرح نفسُه يتبنّاه عبد السلام الكوش، بقوله: “يمكن تعويض الغلة وما زُرع في التربة؛ ولكن الأرض لا يمكن أن تعوّض، لأنها أرض الأجداد، ولأنها أرض رملية خِصبة مشبّعة بالماء”، مستحضرا أنّ الفلاحين الذين طردتهم الجزائر من أراضيهم سنة 1976 منحت لهم السلطات المغربية أراض قاحلة اضطروا إلى صرف الملايين من أجل استصلاحها، على حد تعبيره.
ويضيف الكوش بأن الفلاحين المطرودين من واحة العرجة لا يُمكن إيفاؤهم حقهم من التعويض مهما بلغت قيمته المادية|؛ ذلك أنهم دأبوا كل سنة على جني محصولهم من التمر، وبيْعه بمبالغ مالية مهمة، إضافة إلى أن فجيج كانت تشهد حركة اقتصادية وتجارية كبيرة بفضل إنتاج التمور، مضيفا: “العمّال الذين كانوا يعملون في الضيعات وأصحاب عربات نقل السلع والنساء اللواتي كنّ يشتغلن في فرْز التمر وغيرهم، أصبحوا الآن عاطلين عن العمل، وأذهان المستثمرين أصبحت بدورها عاطلة حتى عن التفكير، وهم يرون مستقبلهم ومستقبل أبنائهم ومَن كانوا يشتغلون معهم مبنيا للمجهول”.
أما محمد المبارشي فيتحدث بوضوح أكبر بخصوص الكيفية التي يراها مناسبة لجبر الضرر الذي لحقَ به وبغيره من زملائه الفلاحين جراء طردهم من واحة العرجة، ويقول: “أنا بالنسبة لي الدولة خصها تعطيني تقاعد ديالي من ديك الأرض، هاديك هي لا روتريت (التقاعد) ديالي”.
الفلاحون المتضررون من قرار السلطات الجزائرية ضمّ واحة العرجة إلى أراضيها، يستبعدون قبولَ الاكتفاء فقط منحهم أراض من أجل إعادة زرع النخيل فيها، نظرا لأن النخلة تتطلب مدّة زمنية تتراوح ما بين 10 و15 سنة لتُثمر.
يؤكد محمد المبارشي هذا الرفض بقوله: “دبا نمشي گاع نْغرس نخلة غادي نتسناها عشر سنين أو خمسطاشر عام باش تعطي الغلة، يعني كاريير كاملة (مسار مهني) مشات”، ويضيف: “دبا واخا يْعطويني گاع أرض ويگولولي هاك هاد الأرض خدْمها واش غادي نْحْيا ثلاثين عام أخرى باش نكبّر النخل، ما يمكنش”.
وفي انتظار أن تبادر الدولة إلى جبْر ضرر الفلاحين المطرودين من العرجة، تسارع عدد من الفعاليات من أبناء فجيج، من أهل القانون والدبلوماسيين وغيرهم من الأطر، سواء داخل المغرب أو المقيمين في الخارج، الزمن من أجل إبطال قرار ضمّ الجزائر لواحة العرجة، بالوسائل القانونية.
وعلى الرغم من أنّ هناك اتفاقية بين المغرب والجزائر بخصوص ترسيم الحدود عند نقطة واحة العرجة، فإنّ أهل فجيج يطالبون بـ”بإعادة قراءة الحدود وليس إعادة ترسيمها؛ لأن المشكل يكمن في قراءة الترسيم، لكي نعرف هل الحدود المرسّمة على الأرض صحيحة أم لا”، يقول أحمد السهول، معتبرا أن الجزائر تقرأ وثيقة ترسيم الحدود “قراءة مزاجية”.
وتتحرك الأطر المتحدرة من فجيج من أجل جمع كافة المعطيات للترافع أمام المؤسسات الدولية، حيث جرى تشكيل لجان على الصعيدين الوطني والدولي، ولجنة قانونية “أوكلت إليها مهمة البحث عن الحلول القانونية التي من شأنها أن تأتي بنتيجة إيجابية”، بحسب إفادة عبد السلام الكوش.
ويؤكد المتحدث: “ما بغيناش نسبّْبو في صداع للدولة ديالنا، وما بغيناش نديرو أي فتنة بيننا وبين جيراننا؛ ولكن خصنا نلقاو حل يُرضي الساكنة ويحفظ ماء وجه فجيج”، مؤكدا، بلغة واثقة، أن الفلاحين المعنيّين “ما غاديش يتخلاو على الأراضي ديالهم، والسند اللي غنبداو بيه هو الدولة ديالنا التي لم تقل لنا الحقيقة بعد”.
[embedded content]