رحلة في تاريخ وحاضر المدينة الحمراء، يُرافِق فيها المشاهدَ سردٌ وصورة، انتخبهُما الكاتب، عاشقُ مراكش، ياسين عدنان، في “قالت لي”، الذي عرضته قناة الغد.

ويقدم الشاعر والكاتب المغربي تأملاته حول المدينة، ومعالم من تاريخها الضارب في القدم، وماضيها القريب الذي كان شاهدا عليه، ويقول: “مراكش مدن في مدينة، يمكنك أن ترى فيها القرن السادس عشر يمشي جنبا إلى جنب مع القرن الحادي والعشرين”.

ويضيف ياسين عدنان: “في المدينة العتيقة تحتاج نقلة صغيرة لتجد نفسك تمر من القرنين الحادي عشر والثاني عشر إلى القرن السادس عشر (…) من زاوية الحضر الحي المرابطي، إلى حي المواسين وزمن السعديين وأمجاد القرن السادس عشر، زمن انتصار السعديين في وادي المخازن على البرتغال والإسبان، والزمن الذي كان فيه المغرب البلد العربي الوحيد الذي حافظ على استقلاله في وجه الإمبراطورية العثمانية”.

المدينة الحمراء خضراء أيضا، وفق ياسين عدنان، بتوفرها على ثلاثين حديقة وعرصة وبستانا، منها البساتين السلطانية التي تعود إلى القرن الثاني عشر الميلادي، وتحافظ إلى اليوم على طرازها الموحدي بصهاريجه العظيمة التي تتوسط غابات الزيتون.

هذه الحدائق هي تراث لا يقدر بثمن، حَسَبَ المتحدث، وتلاها جيل ثان هو “البساتين الأميرية” التي تعود إلى القرن الثامن عشر، وأشهرها “عرصة مولاي عبد السلام” الممتدة على ثمانية هكتارات، التي كانت حديقة طفولته، وكان يعودها يوميا لقطف ورق التوت مع أبناء حيه، ولو طردهم الحراس، في سبيل هوايتهم الأثيرة: “تربية دود القز في فصل الربيع”.

ويزيد ياسين عدنان: “ربما أحسن الفرنسيون صنعا عندما قسموا هذه الحديقة إلى قسمين، ليجعلوا شارع محمد الخامس يخترقها، وبهذه الطريقة وضعوا الكتبية في عمق المدينة، فتطوفها، وتبقى الكتبية شامخة في الوسط”.

[embedded content]

ورغم ولادته في آسفي، إلا أن انتقاله إلى مراكش في بداية طفولته الأولى جعله يصفها بـ”مسقط قلبه”. مراكش التي من أسماء حُسنِها “البهجة”؛ لأن “أهلها أهل بهجة وابتسام دائم، علمتهم الروح الصوفية القديمة ألا يحملوا الحياة على محمل الجد”، فكانت المدينة، مثل أهلها، “مرحة”، ولم تعترف ساحة جامع الفنا بشيء آخر غير المرح، ممتعة زوارها بصخبها وضوضائها.

وبين ماضي المدينة وحاضرها، يتحدث ياسين عدنان عن ساحة الكتبيين، الذين كانوا “دائما هناك، ينسخون الكتب، وكان سلطان مراكش أحمد المنصور الذهبي يشتغل بنفسه وسطهم”، إلى أن جاء يوم “وجدنا الكتاب يطرد، ومعه الحكواتيون، وأصحاب فن القول”، ليتنقل باعة الكتب بين أكثر من مكان “في رحلة لجوء صعبة تؤكد غربة الكتاب في زمننا اليوم”.

وخلال استضافته المُشاهِدَ بالمدينة، يُقرّب ياسين عدنان قارئه مما ألهم روايته “هوت ماروك”، فيقف عند الحلزون، الأكلة الأثيرة لدى المراكشيين، وجعلِه إياه مسألة أساسية في روايته، في فصل ساخر، خصصه لمحاولة استثماره سياسيا من المنتخَبين؛ كما يكشف جوانب من بنائه شخصيّة روايته الرئيسية: “جعلتُ رحال العوينة يمر من نفس الأزقة التي كنت أمُر بها”.

ويمر ياسين عدنان بزاوية الحضر، أقدم أحياء مراكش، ويحكي عن قاطنيه: ابن رشد وابن طفيل وابن باجة وابن البناء العددي…ومسجده الأقدم في المدينة، قبل أن ينثر حسرته قائلا: “في المدينة أشياء كثيرة تندثر يوميا وهو ما يوجع القلب ويدمي الفؤاد”، وإن وَجدَت، في الآن ذاته، معالم أخرى من يحسن إليها ويحيطها بالعناية التي تستحقها.

ويفصح الكاتب عن الموقع الذي كتب انطلاقا منه روايته، وينطلق منه حديثه في هذا العمل الوثائقي: “راصد للتحولات، لا مفتَتِن”؛ لأن الأول “يقرع أكثر من ناقوس خطر”، وينتبه إلى “مراكش أخرى لم يتوقف عندها أحد، هي الأحياء التي ولدت في الثمانينيات، واستوطنَتها البورجوازية الصغيرة والطبقة المتوسطة، وصارت لهم حياة مراكشية، على هامش مراكش التي يعرف الجميع”.

من هذا الموقع، يتذكر ياسين عدنان ما كانت عليه المدرسة من “فضاء ديمقراطي”؛ حينما كان يدرس “أبناء الأثرياء إلى جانب أبناء الفقراء”، بينما مع المدارس الخاصة: “نحس وكأن هناك في بلادنا، اليوم، ميز صارخ بين فئات المجتمع، بعدما كنا نحس وكأنه لم تكن هناك طبقات في مراكش (…) كان للكل نفس الباب، لا تحس بالفرق بين الرياض الفسيح والبيت الصغير الضيق”.

ارتحال ياسين عدنان بالمشاهد في مراكش ليس درسا في تاريخ البلاد الإسلامية أو دعوة سياحية، ولو مكّن، بالضرورة، من الاثنين لبهاء المدينة وعراقتها، بل هو، أساسا، شهادة مُحِبّ عارف، يضره أن يرى في معشوقه ما لا يسرّه، وهو ما يدفعه إلى التعبير عما يعمل من أجله خطّا وقولا وسعيا في الأرض بـ”المعركة”، قائلا: “معركتنا اليوم في مراكش، هي معركة الحفاظ على روح المدينة”.

hespress.com