لا أميل إلى وصف جيلي -كما يفعل آخرون- بالجيل الذهبي، كما لا أحبذ وصف الجيل المخضرم، لكني أعتبره جيلا محظوظا قُيض له أن يعيش أحداثا وتغييرات وانتقالات قلما عاشها جيل قبله.

حضرنا في العام 1979 دخول القرن الخامس عشر الهجري، وفي العام 1999 بزوغ القرن الواحد والعشرين الميلادي مقترنا بألفية جديدة لا تتاح مصادفتها إلا لأجيال قليلة، حيث يحدث أن يولد ويقضي ملايير البشر على هذه البسيطة دون أن يُعايشوا بداية ألفية جديدة.

عايشنا التحول من عصر الثورة الصناعية إلى عصر الثورة الرقمية، فخلافا لما قد يعتقده من ولدوا في عصر الأنترنت أن العالم كان دوما تلك القرية الصغيرة، وأن كل شيء كان رهينا بنقرة زر بسيطة، عاصرنا جزءا من العالم القديم، حيث كانت نافذتنا على ما يجاوز فضائنا الجغرافي الضيق هي الجريدة والمذياع والقناة الوحيدة للتلفزيون الرسمي، عشنا عبق الرسالة الورقية، ولهفة انتظار مرور ساعي البريد، أدركنا زمنا كان فيه توفق أسرة في الحصول على خط هاتفي أعجوبة من أعاجيب الزمان.

عايشنا زمنا كنا ننتظره فيه قدوم الشاحنة لاكتشاف نكهة علبة الياغورت التي صنعها مركز الحليب، حتى جاء زمن أصبح فيه المرء يصاب بحيرة في الاختيار داخل أروقة الأسواق الممتازة، عشنا حقبة كان اللباس يكاد يكون موحدا -كما في الدول الشيوعية- بما يكاد يشي بانمحاء الفوارق الطبقية، إلى أن أدركنا زمن الماركات العالمية حيث أضحى التأنق رهينا بما في الجيب، وتفاضل أناس على آخرين في المظهر بفضل الدرهم والدينار.

عشنا زمنا كان الدرهم الواحد يشتري زجاجة “الكوكاكولا” البالغة الصغر مع حلوى ألف وريقة، ثم صارت مئات الدراهم لا تشتري شيئا ذا بال، كان السندويتش بيضا مع مورتديلا أو علبة “سفيانا” أو خبزا مع الصلصة الحارة والزيتون، فأصبح يصنع من فطائر البانيني والتاكوس ومن شطائر الهامبورغر والبيتزا دون أن يمنح ذات المذاق.

أدركنا جزءا من زمن أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد وحليم وفايزة ونجاة، وانتهينا إلى غنج هيفاء وهبي وهدير التكنوميوزيك وزعيق مؤديي موسيقى الراب.

عاصرنا زمنا كان الناس يتابعون فيه افتتاحيات الجابري والمساري وعبد الكريم غلاب وعبد الجبار السحيمي ونوافذ عبد الرفيع الجواهري، ثم دار الزمان وأصبحت المتابعة من نصيب مؤثرات مواقع التواصل الاجتماعي، ليبدو للعيان كيف سادت التفاهة وتوارت المرجعيات الثقيلة.

عايش هذا الجيل عصر الإيديولوجيا مع انقسام العالم إلى معسكرين، وشهد المد القومي مع جمال عبد الناصر وأحزاب البعث العربي الاشتراكي، وبشائر الصحوة الإسلامية، ثم استفاق يوما على انهيار الاتحاد السوفيتي ونكوص الرفيق غورباتشوف عن مبادئ ماركس ولينين وأنجلز، فخفت الوقود الذي يغذي الصراع الطبقي والثورة العالمية المستمرة، ليتيتم كثيرون ويعود اقتصاد السوق بقوة مبشرا بنهاية التاريخ في نبوءة حملها عراف اسمه صامويل هنتنغتون.

شهدنا عصر التنورة (الميني جيب) التي ترتفع ببضع سنتيمترات فوق الركبة، ثم أخد اللباس ينحسر إلى أن صار حجابا فخمارا فشادورا أفغانيا، كان هذا الجيل يكتشف لذات الثورة الجنسية كما بدأت في الغرب، حين ظهر داء فقدان المناعة المكتسبة ليفرض التعفف القسري تارة والمغامرات المحسوبة أطوارا أخرى.

شُغِف جزء كبير من جيلينا بالقراءة، وكنا نتبادل روايات جرجي زيدان ونجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس، وأدمنت الإناث روايات عبير، ثم أتيحت المحتويات بمجرد نقرة على لوحة مفاتيح حاسوب أو هاتف، حتى صارت شبه مطروحة في الطرقات، لكن دون أن تجد من يلج إليها ولو من باب الفضول.

وُجِدنا في عصر كان المغاربة ينتظرون ليلة الأربعاء لاكتشاف أحداث المسلسل العربي، ثم يتناقشون حوله الأسبوع كله متنبئين بسير الأحداث ومآل الشخصيات، بعدها أتت القنوات الفضائية بسيلها وجاءت الأنترنت بإسهال محتوياتها، لتضيع بوصلة المتابعة وتفشل أية وسيلة من وسائل الإعلام في تشكيل الوجدان الجمعي للناس.

لم يكن مجتمعنا قط مثاليا، لكن كان يندر أن تصادف كما اليوم شابا يافعا يكيل سيلا من الشتائم لشيخ بل يتأهب لضربه لمجرد خلاف حول أولوية المرور، كان توفير الكبير ورحمة الصغير سلوكا ومنهاجا، في ما مضى كانت العلاقات الإنسانية تطبعها الحرارة في الأفراح والأتراح، أما اليوم فتحولت العلاقات الإنسانية إلى علاقات افتراضية؛ حيث الصداقات تنسج من وراء شاشات الحواسيب، واستعيض عن اللقاء المباشر بمكالمات الفيديو ورسائل “الواتساب”….

عاصرنا عهد العائلة الكبيرة الممتدة؛ حيث كان الكل يربي ابتداء من الجد والجدة، مرورا بالعم والعمة وانتهاء بالوالدين، ثم استحالت الأسرة إلى أسرة نووية يحتضنها قفص من أقفاص السكن الاجتماعي التي باتت وحدها في متناول السواد الأعظم، تنامت الفردانية وتنامت معها العزلة، لم تعد الجارة تستعير من جارتها الملح والتوابل، بل يندر أن تلقي عليها السلام في سلم العمارة؛ لأن الناس لم تعد ببساطة تتعارف… قل التزاور حتى بين الأقارب، وأصبحت الدعوات والمآدب القديمة في حكم النادر، ولم تعد الأسر تلتقي إلا في الأعراس أو في الجنائز.

في زمن مضى، كان إيقاع الحياة متثاقلا؛ حيث يقع أن تذهب إلى أكثر من مشوار أو تنجز أكثر من عمل في اليوم الواحد، ويمكن بعدها أن تلعب الكرة وتجلس في المقهى، قبل أن يبدأ إرسال التلفزة على الساعة السادسة مساء، أما اليوم فقد ارتفع إيقاع الحياة بشكل لا يصدق، وأصبح الكل يشتكي من الوقت الذي لم نعد نستطيع أن نقطعه، بل أصبح هو السيف الذي يقطعنا.

آنذاك لم تكن الشوارع مكتظة كاليوم ولم يكن المرور مختنقا و”زحمة يا دنيا زحمة” على حد غناء أحمد عدوية، لم تكن تدور حتى تُصاب بالدوار لتجد موقفا لتركن سيارتك، “كانت الحياة بسيطة وكانت الفرحة ديما ديما” على حد غناء نعمان لحلو في مدينته القديمة.

رغم كل ذلك، لم يكن زمننا دائما جميلا كما يحلو اليوم للبعض أن يسميه بالزمن الجميل، فقد كانت له صعوباته التي لا تحصى من حيث جودة العيش، وكثير من وسائل الرفاه المتاحة اليوم لم تكن متوفرة، لكن مع كل الصعوبات، فإن الحنين ما زال يأخذنا إلى ذكريات ذلك الزمان البعيد.

كل ما رويته آنفا في جانب، والقصة التالية في جانب آخر، فعندما كنت في المدرسة الابتدائية، كان معلمنا في مدرسة خالد بن الوليد التطبيقية الأستاذ محمد زكي رحمة الله عليه، يحكي عن الأوبئة في العصور السالفة كالطاعون والكوليرا وغيرهما، وأتذكر من جملة ما قال إن هذه الجوائح أصبحت في حكم الماضي ولن تعود أبدا بسبب التطور الهائل في مجال الطب، وكنت أستبعد دائما أن يعرف جيلنا جائحة مثل الطاعون الأسود، حتى امتد بي العمر وشهدت مع أبناء جيلي عزوة الإمبراطور السفاح كوفيد التاسع عشر وما صاحبها من رعب ومآس وحجر صحي استكانت فيه الناس إلى بيوتها كما تستكين الطرائد الخائفة إلى أوكارها، آنذاك تيقنت فقط أن جيلي ذاق من كل شيء، فيا له من جيل!!!

hespress.com