إلى غاية سنوات قليلة خلت لم يكن الكثير من أفراد المؤسسة العسكرية بالجزائر يحفظون صورة لقائد الجيش الجزائري الجنرال سعيد شنقريحة، فالرجل قضى معظم مشواره المهني بعيدا عن الأضواء، ولم يظهر له طموح لتولي مسؤوليات سامية في المؤسسة، إلى غاية الرحيل المفاجئ و المثير للجدل للقائد السابق المثير للجدل نهاية العام 2019 الجنرال أحمد قايد صالح، حيث تصدر واجهة الأحداث باستخلافه للرجل، ويبرز ذلك القادم من قيادة القوات البرية ليعلن عن ميلاد مرحلة جديدة في مسار السلطة الجزائرية بشقيها العسكري والمدني.
الرجل الأول
[embedded content]
أثار التزامن بين وثائقي القناة التلفزية “دوتشيه فيلله”، الذي وصف شنقريحة بـ”الحاكم الفعلي للبلاد”، وبين ما صرح به الرئيس عبدالمجيد تبون لمجلة “دير شبيغل”، عن كونه الرجل الأول في الدولة، وهو من يأمر ويسيّر ويدير شؤون البلاد، بما فيها القضايا الأمنية والعسكرية، اهتمام المتابعين للشأن الجزائري، خاصة في بعض القرارات التي حملت بصمة مؤسسة الجيش دون أن يعلن عنها.
مباشرة بعد تنحي الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة عن السلطة في أبريل 2019 تصدرت قيادة الجيش المشهد السياسي للبلاد، ووجد حينها الجنرال صالح في شرعية نائب وزير الدفاع الوطني غطاء لممارسة سلطته وفرض خياراته على الحراك الشعبي، وصار يخطب في الأمة كل أسبوع من الثكنات العسكرية، إلى غاية الدفع بتبون إلى قصر المرادية نهاية العام 2019، فكانت العودة القوية للعسكر إلى السلطة بعد سنوات من التواري عن الأنظار.
[embedded content]
وبعودة الجيش عاد قادة وضباط معينون، ولئن سارت الأقدار عكس أمنية صالح فقد شكّل قدوم شنقريحة تحولا لافتا، قياسا بخلفيته ومواقفه السياسية والأمنية، فالرجل الذي قضى غالبية مشواره المهني في القوات البرية كان يظهر على أنه شخصية ميدانية عملياتية لا ضلع لها في الشأن السياسي والاستراتيجي، إلا أن بصماته باتت تظهر للعيان منذ الأشهر القليلة التي عقبت توليه قيادة المؤسسة العسكرية.
التحول اللافت
وفي ظرف قصير قام شنقريحة بخنق أنفاس الحراك الشعبي، وذلك بتشديد التضييق على الاحتجاجات والناشطين، ووجه الأنظار إلى صناعة أعداء وهميين داخليا وخارجيا؛ فبعدما تم الربط بين الإرهاب والاحتجاجات المعارضة، وحوّل تنظيمات تقول إنها “لم تدع إلى العنف أو حمل السلاح” إلى حركات إرهابية ملاحقة في كل مكان، جرى افتعال أزمات إقليمية بين الجزائر والمغرب وفرنسا.
بصمة الجيش تحت قيادة شنقريحة في إدارة شؤون السلطة ببلاده باتت واضحة للعيان برأي متابعين دوليين ومحليين، ولعل إثارة القضية من طرف القناة الألمانية توحي بأن المسألة تعدت أروقة نظام الحكم الداخلي إلى الدوائر السياسية والإعلامية في الخارج.
ويكون تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال الأسابيع الماضية بأن الرئيس الجزائري تبون “عالق داخل سلطة سياسية عسكرية صلبة”، وأن “العسكر في الجزائر هم من يحرض الجزائريين على كراهية فرنسا، وهم من يوظفون ملف التاريخ والذاكرة المشتركة في حسابات سياسية ضيقة”، إحدى الشهادات على تعاظم دور الجيش في إدارة وتوجيه السلطة المدنية بالبلاد، خاصة في عهد شنقريحة.
وظل الجيش في الجزائر المدير الفعلي لشؤون البلاد، وصاحب القرار الحاسم في الملفات والقضايا الكبرى منذ استقلال البلاد في صائفة 1962 إلى غاية مطلع الألفية الجديدة، حيث استطاع الرئيس الراحل بوتفليقة بعد العشرية الأولى من حكمه أن يفكك نفوذ المؤسسة ويعزل كبار رموزها لصالح نخبة مدنية شكلت نواة الرئاسة، لكن سرعان ما فاجأته المؤسسة بضغط رهيب أجبره على التنحي عن السلطة في أبريل 2019، تحت ضغط ثورة الشارع.
وأوحى انقلاب صالح، رجل الجيش القوي، حينها على الرجل الذي قربه ومنحه ثقته على رأس المؤسسة بأن بوتفليقة لم يفكك سطوة المؤسسة كما ساد الاعتقاد، بل إن الجيش لجأ إلى استراحة محارب، فانكفأ قليلا قبل أن يعود بقوة وشراسة أكثر مما كان، فقاد المرحلة الانتقالية والفراغ المؤسساتي وفرض مخرجاتها على الجزائريين وعلى الحراك الشعبي.
عدو الداخل وعدو الخارج
ولد شنقريحة، الرئيس الثامن لهيئة أركان في تاريخ الجزائر، عام 1945 في مدينة القنطرة بمحافظة بسكرة في جنوب الجزائر، وأمضى أغلب خدمته غرب البلاد وجنوبها وتدرج في الرتب والمهام من قائد كتيبة دبابات في الناحية العسكرية الثالثة إلى قائد لواء مدرع فرئيس أركان فرقة مدرعة في الناحية العسكرية الخامسة ليحصل على رتبة عميد، ثم لواء سنة 2003، قبل توليه قيادة القوات البرية الجزائرية، فرئاسة أركان الجيش الجزائري بعد فترة “إنابة” أعقبت وفاة “الرجل القوي”.
ويعدّ أول المستفيدين من المكاسب الدستورية التي حققها الجيش في دستور نوفمبر 2020، فتحْت غطاء الصلاحيات الجديدة التي تسمح له بالتدخل لإنقاذ البلاد والمؤسسات من أي خطر بات الرجل حاكما فعليا للبلاد دون الإعلان عن ذلك، ويقتسم التغطيات الصحافية في الإعلام الحكومي وحتى الخاص مع رئيس الجمهورية والمؤسسات المدنية الأخرى، وصار ظله ملحوظاً في مختلف الأنشطة اليومية.
ومع التشدد في محاربة الإرهاب الذي دُثّر به تنظيما حركة استقلال القبائل “ماك” و”رشاد”، واتهامهما باختراق الحراك الشعبي للدفع بالبلاد إلى الفوضى والمواجهات الدموية، وإظهارهما في ثوب الخطر الممتد من خارج الحدود، فإن وصف شنقريحة بـ”القائد الفعلي للبلاد، وبمهندس الحرب الباردة مع المغرب” يأتي استنادا إلى وقائع وإفادات وتصريحات من مصادر مختلفة، بما فيها وسائل الإعلام الغربية وبعض ما ورد على لسانه.
يوصف بـ”صقر الجيش الجديد” الذي اقترن صعوده بتصاعد وتيرة التوتر مع المغرب، ويستدل على ذلك بأحد تصريحاته الذي قال فيه “الجيش مهمته الدفاع عن حدوده، اليقظة ضد الإرهاب، ضد المهربين، ضد حتى عدو كلاسيكي”، وهو لم يفوت أي فرصة لوصف المغرب بالعدو الكلاسيكي.
سطوة الصقر الجديد لم تثر الألمان وحسب، بل سبق لصحيفة “لوموند” الفرنسية أن قالت حرفياً إن “تبون ليس أقوى رجل في الجزائر، الرجل القوي الحقيقي في الجزائر هو شنقريحة، وتعيينه جاء كإجراء رمزي داخل الجيش لاحتواء حراك الشعب 2019”.
أما قناة “بي بي سي” البريطانية ومجلة “جون أفريك” الفرنسية فقد ذكرتا أن “شنقريحة هو قائد ميداني في القوات البرية وشارك في عدة حروب كحرب الرمال والعشرية السوداء، وهو صقر مناهض للمغرب ولم يتوان عن مهاجمته عدة مرات”.
وتم الاستناد في ذلك إلى تصريحات أدلى بها رئيس الأركان، ظهر فيها تغوّل الرجل وهيمنته على مصدر القرار في البلاد، حيث قال في أحدها “النظام المغربي يتمادى في تحجيم دور الجزائر”، وقال في آخر “أراضي الصحراء مغتصبة من دون وجه حق من قبل المغرب المحتل”.
هذا الوضع أثار اهتمام دوائر الإعلام والسياسة في الغرب، وبات محل استفسار من الرئيس تبون، لكن لا أحد يدرك درجة إقناع إجاباته المدافعة عن تراتبية المؤسسات والقرار في بلاده، لما رد بالقول “الشعب الجزائري يعرف أن هذا غير صحيح. أنا من رشح قائد الجيش، وبالإضافة إلى الرئاسة أتولى منصب وزير الدفاع. الأجهزة السّرية وضعت تحت سيطرتي، لم تعد تحت سيطرة الجيش. هذا هو الواقع الجديد في الجزائر الذي يضمنه الدستور”.
وتابع تبون “أستطيع أن أقول لك ذلك؛ يتلقى قائد الجيش الذي أقوده تعليمات مني لتحديث الجيش. علاوة على ذلك لديه ما يكفي من الاهتمام بالوضع الحساس على حدودنا. هذا أنا. لا أحد سيفعل ذلك في مكاني؛ أنا من أمر بإغلاق المجال الجوي الجزائري أمام الطائرات العسكرية الفرنسية، وأنا من أمر بتنفيذ نفس الإجراء بالنسبة إلى الطائرات المغربية”.
حرب الرمال
يوصف شنقريحة في الجزائر بـ”العسكري المُحنك والصارم، والرجل الذي لا يبتسم”، أما في المغرب فيوصف بـ”الصديق الحميم جبهة البوليساريو” ، قياسا بمواقفه الصريحة والداعمة لها، مقابل عداء صريح للمملكة المغربية.
عقيدة قائد الجيش الجزائري في هذا المجال ليست وليدة تبوئه المنصب، بل تعود إلى سنوات ماضية؛ فهو أحد المشاركين في ما يعرف بـ”حرب الرمال” التي اشتعلت بين البلدين مطلع ستينات القرن الماضي، ويعتبر من القيادات المتحمسة لجبهة البوليساريو، ولم يتوان منذ اشتغاله على الإقليم العسكري الحدودي بجنوب البلاد عن إطلاق تصريحاته المعادية للمغرب.
كما أشرف شخصيا على إدارة التكوين والمناورات العسكرية للبوليساريو، في إطار ما تعتبره قيادة الجيش “دعم الشعب الصحراوي في كفاحه واسترجاع أراضيه ”.
وتذكر مصادر مطلعة في هذا الشأن أن جنرالات الجيش الجزائري داعمون أساسيون للبوليساريو منذ نشأتها، وأن قواتها تخضع لتدريبات عسكرية تحت إشراف اللواء شنقريحة إلى جانب عدد من جنرالات الجزائر ممن تبنَّوا ملف الصحراء، وأن قادة الجبهة مرتاحون جدا لصعود شنقريحة في سلم المسؤوليات العسكرية، لأنه يمثل داعما قويا لها داخل الجيش والسلطة الجزائرية.
وفضلا عن دوره في حالة التوتر بين بلاده والمغرب يعرف عنه ميله إلى المدرسة العسكرية والأمنية الروسية منذ زمن الاتحاد السوفييتي، وهو من المتحفظين على انفتاح بلاده على التجارب والنماذج العسكرية الغربية، ويذكر أنه هو صاحب قرار غلق المجال الجوي الجزائري في وجه الطيران العسكري الفرنسي، وقرار إعلان القطيعة مع المغرب وغلق المجال الجوي أيضا في وجه طيران المملكة.