حقوق الصورة: Señor Salme
أدت تصرفات الرئيس الأمريكي إلى تفاقم وباء فيروس كورونا الذي أودى بحياة أكثر من 230000 شخص في الولايات المتحدة، كما ألغى القوانين البيئية والصحية العامة وأضعف من شأن المؤسسات العلمية. قد يكون بعض الضرر دائماً.
احتشد الناس بالآلاف، وكان العديد منهم يرتدون اللون الأحمر والأبيض والأزرق ويحملون لافتات كُتب عليها «أربع سنوات أخرى» و«اجعل أمريكا عظيمةً مرةً أخرى». لقد خرجوا وسط جائحة عالمية للإدلاء بتأييدهم، وهذا هو بالضبط سبب تزاحمهم بدون أقنعة في مستودعاتٍ عديمة النوافذ، ما خلق بيئةً مثالية لانتشار فيروس كورونا.
كان تجمع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في هندرسون، نيفادا، في 13 سبتمبر/أيلول، مخالفاً لقواعد الصحة في الولاية، التي لا تسمح بالتجمعات العامة لأكثر من 50 شخصاً وتطالب بالتباعد الاجتماعي المناسب. أدرك ترامب ذلك، وتفاخر لاحقاً بحقيقة أن سلطات الولاية فشلت في منعه. منذ بداية الوباء، تصرف الرئيس بنفس هذه الطريقة ورفض اتباع الإرشادات الصحية الأساسية في البيت الأبيض، الذي أصبح فيما بعد بؤرةً لانتشار الوباء. أمضى الرئيس 3 أيام في المستشفى بعد أن ثبتت إصابته بكوفيد 19، وخرج منها في 5 أكتوبر/تشرين الأول.
لا ينبغي أن تكون أفعال ترامب – وأعمال موظفيه وأنصاره – مفاجئة. على مدى الأشهر الثمانية الماضية، كذب رئيس الولايات المتحدة بشأن مخاطر فيروس كورونا وقلل من شأن الجهود المبذولة لاحتوائه؛ حتى أنه اعترف في إحدى المقابلات أنه تعمد إخفاء حقيقة تهديد الفيروس في بداية انتشار الوباء. لقد استخف ترامب بالأقنعة ومتطلبات التباعد الاجتماعي بينما شجع الناس على التظاهر ضد قواعد الإغلاق والحجر الصحي التي تهدف إلى وقف انتقال المرض. لقد استخفت إدارته وقمعت وحجبت علماء الحكومة الذين يعملون على دراسة الفيروس وتقليل أضراره. وقد حوّل من عيَنهم المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC) وإدارة الغذاء والدواء (FDA) إلى أدواتٍ سياسية، وأمروا هذا الوكالات بتقديم معلوماتٍ غير دقيقة، وإصدار إرشاداتٍ صحية مغلوطة، والترويج لعلاجات للمرض غير مُثبتة ويحتمل أن تكون ضارة.
يقول جيفري شامان Jeffrey Shaman، عالم أوبئة في جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك، الذي وضع نموذجاً لتطور الوباء وكيف كان من الممكن للتحركات السريعة لمحاربة المرض أن تنقذ الأرواح في الولايات المتحدة: «هذا ليس مجرد عدم كفاءة، إنه تخريب. لقد أفشل جهود الحفاظ على سلامة الناس».
الإحصاءات واضحة وضوح الشمس. شهدت الولايات المتحدة، المعروفة بأنها قوةٌ عظمى ذات موارد علمية واقتصادية هائلة، أكثر من 9.3 ملايين حالة إصابة بكوفيد 19، وتجاوز عدد الوفيات فيها أكثر 230000 – أكثر من أي دولة أخرى وأكثر من خُمس الإجمالي العالمي، على الرغم من أن سكان الولايات المتحدة يمثلون 4% فقط من سكان العالم.
من الصعب تحديد مدى مسؤولية ترامب عن الوفيات والأمراض في جميع أنحاء البلاد، إذ كافحت الدول الغنية الأخرى لاحتواء الفيروس؛ شهدت المملكة المتحدة على سبيل المثال عدداً مشابهاً لوفيات الولايات المتحدة، بالنسبة لعدد السكان.
لكن يقترح شامان وآخرين أنه كان من الممكن إنقاذ غالبية ضحايا المرض في الولايات المتحدة لو أن الدولة رفعت من مستوى استجابتها في وقتٍ أبكر. يلقي العديد من الخبراء باللوم على ترامب في فشل البلاد في احتواء تفشي المرض، وهي تهمة وجهتها أيضاً أوليفيا تروي Olivia Troye، التي كانت عضوةً في فريق مكافحة فيروس كورونا في البيت الأبيض. قالت في سبتمبر/أيلول أن الرئيس أفسد مراراً جهود احتواء الفيروس وإنقاذ الأرواح، وركز بدلاً من ذلك على حملته السياسية.
بينما هو يسعى لولايةٍ ثانية، فإن تصرفات ترامب في مواجهة كوفيد 19 ليست سوى مثالٍ واحدٍ على الضرر الذي ألحقه بالعلم ومؤسساته على مدى السنوات الأربع الماضية، مع تداعيات ذلك على حياة الناس ومستوى معيشتهم. كما تراجع الرئيس ومن عيَنه عن الجهود المبذولة للحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، وأضعف القوانين التي تحد من التلوث، وقلل من دور العلم في وكالة حماية البيئة الأمريكية (EPA). عبر العديد من الوكالات، أضعفت إدارته النزاهة العلمية من خلال قمع أو تشويه الأدلة لدعم القرارات السياسية، وفق خبراء السياسة.
تقول كريستين تود ويتمان Christine Todd Whitman، التي ترأست وكالة حماية البيئة الأمريكية في عهد الرئيس الجمهوري السابق جورج دبليو. بوش: «لم أرَ قط مثل هذه الحرب المُدبرة على البيئة أو العلم».
كما أضعف ترامب أيضاً من مكانة الولايات المتحدة على المسرح العالمي من خلال السياسات والخطابات الانعزالية. من خلال إغلاق أبواب الدولة أمام العديد من الزوار والمهاجرين غير الأوروبيين، فقد جعل الولايات المتحدة أقل ترحيباً بالطلاب والباحثين الأجانب. ومن خلال تشويه سمعة الجمعيات الدولية مثل منظمة الصحة العالمية، أضعف ترامب قدرة الولايات المتحدة على الاستجابة للأزمات العالمية وعزل دور العلم في الدولة.
طوال الوقت، كان الرئيس يروج للفوضى والخوف بدلاً من الحقائق العلمية، بينما كان يدفع بأجندته السياسية ويشوه سمعة معارضيه. في عشرات المقابلات التي أجرتها مجلة Nature، سلط الباحثون الضوء على هذه النقطة باعتبارها مثيرةً للقلق بشكلٍ خاص لأنها تقلل من ثقة العامة بأهمية الحقيقة والأدلة، التي تدعم العلم والديمقراطية.
تقول سوزان هايد Susan Hyde، أستاذة في علوم السياسية في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، والتي تدرس صعود وانهيار الديمقراطيات: «إنه أمرٌ مرعبٌ من نواحٍ كثيرة. إنه أمرٌ مقلقٌ للغاية أن تتعرض الوظيفة الأساسية للحكومة للهجوم، خاصةً عندما تكون بعض هذه الوظائف ضروريةً لقدرتنا على البقاء».
يمكن للرئيس أن يشير إلى بعض التطورات الإيجابية في العلوم والتكنولوجيا في عهده. على الرغم من أن ترامب لم يضع أياً منها على رأس أولوياته (انتظر 19 شهراً قبل تعيين مستشار علمي)، دفعت إدارته ناسا لإعادة رواد الفضاء إلى القمر وكزت على تطوير مجالاتٍ مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية. في أغسطس/آب، أعلن البيت الأبيض عن تمويل جديد يزيد عن مليار دولار لتلك التقنيات وغيرها من التقنيات المتقدمة.
لكن، يقول العديد من العلماء والمسؤولين الحكوميين السابقين أن هذه أمثلةٌ شاذة لإدارته التي قللت من قيمة العلم والدور الذي يمكن أن يلعبه في صياغة السياسة العامة.
يمكن إصلاح الكثير من الأضرار التي لحقت بالعلم – بما في ذلك التعديلات التنظيمية والشراكات الدولية المقطوعة – إذا خسر ترامب الانتخابات. في هذه الحالة، فإن خسارة الولايات المتحدة والعالم كانت في الوقت الثمين المطلوب للحد من التغير المناخي وانتشار الفيروس، من بين تحديات أخرى. مع ذلك، يقول العلماء وخبراء السياسة أن الضرر الذي طال النزاهة العلمية وثقة العامة بالعلم ومكانة الولايات المتحدة قد يستمر إلى ما بعد فترة رئاسة ترامب.
مع موعد الانتخابات على الأبواب، تؤرخ مجلة Nature بعض اللحظات الرئيسية التي أضر فيها الرئيس بالعلوم الأمريكية، وكيف يمكن أن يضعف ذلك الولايات المتحدة – والعالم – لسنواتٍ قادمة، سواء فاز ترامب أو خسر أمام خصمه جو بايدن.
تضرر المناخ
بدأ هجوم ترامب على العلم حتى قبل أن يتولى منصبه. في حملته الرئاسية عام 2016، وصف الاحتباس الحراري بأنه خدعة وتعهد بسحب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ لعام 2015، التي وقعتها أكثر من 190 دولة. بعد أقل من خمسة أشهر من انتقاله إلى البيت الأبيض، أعلن أنه سيفي بذلك الوعد.
قال ترامب: «لقد تم انتخابي لتمثيل مواطني بيتسبرغ وليس باريس»، مشيراً إلى أن الاتفاقية فرضت قيوداً على الطاقة، وضيعت الكثير من الوظائف، وأعاقت الاقتصاد بهدف «الفوز بثناء» القادة الأجانب والنشطاء العالميين على حد قوله.
ما لم يعترف به ترامب هو أن اتفاقية باريس صُممت من نواح كثيرة من قبل – ومن أجل – الولايات المتحدة. إنه اتفاقٌ طوعي يسعى لمحاربة التغير المناخي من خلال السماح للبلدان بوضع التزاماتها الخاصة، والقوة الوحيدة لهذه الاتفاقية هي شفافية: إذ ستكشف المتقاعسين عن أداء دورهم. من خلال سحب الولايات المتحدة من الاتفاقية والتراجع عن الالتزامات المناخية، خفف ترامب أيضاً من الضغط على الدول الأخرى للتحرك للحد من التغير المناخي، وفق قول ديفيد فيكتور David Victor، أستاذ في العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو. «لم تعد تشعر البلدان التي احتاجت إلى المشاركة في اتفاقية باريس – لأن ذلك يعبر عن كونها عضواً ذي مكانةٍ جيدة في المجتمع العالمي – بهذا الضغط».
بعد أن أعلن ترامب قرار الانسحاب من اتفاقية باريس، شرع من عيَنهم في وكالة حماية البيئة في تفكيك السياسات المناخية التي وُضعت في عهد الرئيس السابق باراك أوباما. على رأس القائمة كان زوجاً من التنظيمات التي تستهدف انبعاثات غازات الاحتباس الحراري من محطات الطاقة والسيارات. على مدار الخمسة عشر شهراً الماضية، ألغت إدارة ترامب كلا التنظيمين واستبدلتهما بمعايير أضعف بهدف توفير أموال الصناعة – ولا تخدم الكثير لتقليل الانبعاثات.
حتى أن بعض الشركات اعترضت على عمليات التراجع. أثارت جهود الإدارة اعتراضات العديد من شركات صناعة السيارات، مثل فورد وهوندا، اللتين وقعتا العام الماضي اتفاقيةً منفصلة مع ولاية كاليفورنيا للحفاظ على معيار أكثر صرامة. في الآونة الأخيرة، عارضت شركات الطاقة الكبيرة مثل إكسون موبيل وشركة بيّ بي BP تحرك إدارة ترامب لإضعاف القواعد التي تتطلب من شركات النفط والغاز الحد من انبعاثات غاز الميثان وإيقافها، التي تُعتبر من الغازات الدفيئة القوية.
وفقاً لأحد التقديرات الصادرة عن مجموعة روديوم Rhodium Group، التي هي شركةٌ استشارية مقرها مدينة نيويورك، يمكن أن تؤدي عمليات التراجع هذه إلى زيادة الانبعاثات بـ 1.8 مليار طن من ثاني أكسيد الكربون بحلول عام 2035 – أي ما يعادل خمسة أضعاف الانبعاثات السنوية للمملكة المتحدة تقريباً. على الرغم من إمكانية إلغاء هذه الإجراءات من قبل المحاكم أو إدارةٍ جديدة، فقد كلف ترامب البلاد والكوكب وقتاً ثميناً.
تقول ليا ستوكس Leah Stokes، باحثة في سياسة المناخ في جامعة كاليفورنيا، سانتا باربارا: «لقد كانت ولاية ترامب حقاً فترةً فظيعةً ورهيبةً لهذا الكوكب».
قدمت إدارة ترامب رسمياً الأوراق اللازمة للانسحاب من اتفاقية باريس العام الماضي، وسيصبح الانسحاب الأمريكي رسمياً يوم الاربعاء 4 نوفمبر/تشرين الثاني، أي بعد يوم واحد من الانتخابات الرئاسية. تعهدت معظم الدول بالمضي قدماً بالاتفاقية حتى بدون الولايات المتحدة، وقد ساعد الاتحاد الأوروبي بالفعل في ملء الفراغ القيادي عن طريق الضغط على الدول لتعزيز جهودها، وهو ما فعلته الصين في 22 سبتمبر/أيلول عندما أعلنت أنها تهدف لإيقاف انبعاثاتها الكربونية بحلول عام 2060. وعد بايدن بإعادة الانضمام للاتفاقية إذا فاز بالانتخابات، ولكن قد يكون من الصعب على الولايات المتحدة استعادة نفوذها الدولي الذي كانت تتمتع به في عهد أوباما، الذي ساعد على تنشيط محادثات التغير المناخي وإشراك الدول في الاتفاقية عام 2015.
يقول فيكتور: «إن إعادة الانضمام أمرٌ سهل. المشكلة الحقيقية هي المصداقية: هل سيصدق بقية العالم ما نقوله؟»
الحرب على البيئة
لم يلاحق ترامب التنظيمات فحسب، فقد سعت إدارته إلى إضعاف الطريقة التي تستخدم بها الحكومة العلم لاتخاذ قرارات الصحة العامة.
برز التهديد في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2017 – خلال عيد الهالوين – عندما وقع مدير وكالة حماية البيئة آنذاك، سكوت برويت Scott Pruitt، أمراً يمنع العلماء الحاصلين على منحٍ بحثية من وكالة حماية البيئة الأمريكية من العمل في اللجان الاستشارية العلمية للوكالة، ما صعب على أصحاب الخبرة الأكبر مساعدة الوكالة في تقييم التنظيمات العلمية والصناعية. سهّل هذا استبدال الباحثين الأكاديميين بعلماء الصناعة، وجعلهم يُضطرون إما للتخلي عن منحهم أو الاستقالة.
قال جون باخمان John Bachmann، الذي قضى أكثر من ثلاثة عقود في برنامج جودة الهواء التابع لوكالة حماية البيئة وهو نشط حالياً في مجموعة من موظفي الوكالة المتقاعدين الذين تجمعوا لمناصرة العلماء والنزاهة العلمية في الوكالة، بعد أن بدأ مسؤولو ترامب هجومهم: «كان ذلك عندما قلت، يا إلهي، هناك تلاعب. لا يقتصر الأمر على امتلاكهم وجهات نظرهم الخاصة، بل إنهم مصرون على تضمين وجهات نظرهم في هذه العملية».
كان أمر برويت، الذي ألغاه قاض فيدرالي في النهاية، جزءاً من جهدٍ أوسع لتسريع استقالة الموظفين وتعيين أشخاص جدد في اللجان. وكانت تلك مجرد البداية. في أبريل/نيسان 2018، كشف برويت عن قاعدة «شفافية العلوم» للحد من قدرة الوكالة على وضع تنظيمات بالاعتماد على أبحاثٍ ذات بياناتٍ ونماذج غير متاحة للعامة. قد تستبعد القاعدة الجديدة بعضاً من أكثر الأبحاث الوبائية دقة التي تربط التلوث بالجسيمات الدقيقة المعلقة بالوفيات المبكرة، لأن الكثير من البيانات المرضية الأساسية محمية بقواعد الخصوصية. يقول النقاد أن هذه السياسة تهدف إلى إثارة الشكوك حول العلم وتسهيل وضع معايير ضعيفة فيما يخص تلوث الهواء.
استقال برويت في يوليو/تموز 2018، لكن نظرته تجاه وكالة حماية البيئة مستمرة. تحت إشراف مديرها الجديد، أندرو ويلر Andrew Wheeler، سرّعت الوكالة جهودها لإضعاف التنظيمات التي تستهدف المواد الكيميائية الملوثة للمياه والهواء.
تقول كريستين تود ويتمان Christine Todd Whitman، الرئيسة السابقة لوكالة حماية البيئة الأمريكية، أنه لا مشكلة في إعادة النظر في القرارات التنظيمية للإدارات السابقة وتغيير مسارها. لكن يجب أن تستند القرارات على تحليل علمي قوي. «نحن لا نرى ذلك مع هذه الإدارة».
صدر أحد أسوأ قرارات وكالة حماية البيئة في برنامج جودة الهواء. في 14 أبريل/نيسان من هذا العام، ووسط جائحة كوفيد 19، اقترحت وكالة حماية البيئة التمسك بالمعايير الحالية لتلوث الجسيمات الدقيقة المعلقة، على الرغم من الأدلة والنصائح من علماء الحكومة والعلماء الأكاديميين الذين دعموا بأغلبية ساحقة تبني تنظيمات أكثر صرامة.
تقول فرانشيسكا دومينيتشي Francesca Dominici، عالمة أوبئة في جامعة هارفارد في بوسطن، ماساتشوستس، التي وجدت مجموعتها البحثية أن تعزيز تلك المعايير يمكن أن ينقذ عشرات آلاف الأشخاص كل عام: «إنه أمرٌ مدمر، مدمّر تماماً. عدم الاستماع إلى العلم وإلغاء التنظيمات البيئية يكلف حياة الأمريكيين».
مشاكل التعامل مع الوباء
لقد بينت بشدة جائحة فيروس كورونا مخاطر تجاهل العلم والأدلة، وهناك شيء واحد واضح الآن: لقد كان رئيس الولايات المتحدة على علمٍ بالخطر الشديد لفيروس كورونا في وقتٍ مبكرٍ من تفشي المرض، لكنه اختار الكذب.
في 7 فبراير/شباط، خلال حديثه مع بوب وودوارد Bob Woodward، صحفي في صحيفة واشنطن بوست، وعندما كان قد ثبتت إصابة 12 شخصاً فقط في الولايات المتحدة بفيروس كورونا، وصف ترامب الفيروس بأنه أكثر فتكاً بخمس مرات حتى من «الإنفلونزا الشديدة». قال ترامب في المقابلة المسجلة التي صدرت في سبتمبر/أيلول: «هذه أمر مميت».
لكن في العلن، قدم الرئيس رسالةً مختلفة تماماً. بعد ثلاثة أيام في 10 فبراير/شباط، أخبر ترامب مؤيديه في مسيرة حاشدة أنه لا داعي للقلق، وقال إنه بحلول شهر أبريل/نيسان، عندما ترتفع درجات الحرارة، «سيختفي الفيروس بأعجوبة». وقال في مؤتمر صحفي يوم 26 فبراير/شباط: «هذا مشابه للإنفلونزا». وقال في مقابلة تلفزيونية بعد أسبوع: «إنه معتدل للغاية».
في مقابلة مسجلة أخرى مع وودوارد في 19 مارس/آذار، قال ترامب أنه قلل من أهمية الخطر منذ البداية، «ما زلت أُفضِل التقليل من شأنه لأنني لا أريد إثارة الذعر».
بعد نشر التسجيلات، دافع ترامب عن جهوده لإبقاء الناس هادئين بينما جادل في الوقت نفسه بأنه «رفع من شأن» مخاطر الفيروس. لكن خبراء الصحة يقولون إن هذا التفسير لا غير معقول، وأن الرئيس عرّض العامة للخطر من خلال تضليل الناس.
يعرف العلماء الآن أن الفيروس كان منتشراً طوال الوقت في جميع أنحاء البلاد. بدلاً من حشد سلطة الحكومة الفيدرالية ومواردها لاحتواء الفيروس من خلال برنامج شامل لإجراء الفحوصات وتتبع مخالطي المرضى، تركت إدارة ترامب العمل للمدن والولايات، حيث جعلت السياسة ونقص الموارد تتبع الفيروس وتقديم معلوماتٍ دقيقة للمواطنين أمراً مستحيلاً. وعندما بدأ المسؤولون المحليون إغلاق الشركات والمدارس في أوائل مارس/آذار، انتقدهم ترامب لاتخاذهم هذه الإجراءات.
في 9 مارس/آذار، غرّد ترامب على تويتر: «في العام الماضي، توفي 37000 أمريكي من الإنفلونزا الموسمية. لم يجرِ إغلاق أي شيء، تستمر الحياة والاقتصاد». في غضون شهر، تجاوز عدد الوفيات الناجمة عن فيروس كورونا في الولايات المتحدة 21000، وكان الوباء قد انتشر بشدة، مودياً بحياة 2000 أمريكي كل يوم.
قرر شامان وزملاؤه في كولومبيا التحقيق فيما كان سيحصل لو تصرفت البلاد بسرعة. طوروا نموذجاً يمكنه محاكاة ما حدث في كل مقاطعة عبر الولايات المتحدة من فبراير/شباط إلى أوائل مايو/أيار، حين أغلقت حكومات الولايات والحكومات المحلية الشركات والمدارس في محاولة لوقف العدوى. ثم طرحوا السؤال التالي: ماذا كان سيحدث لو أن الجميع فعلوا نفس الشيء بالضبط قبل أسبوع واحد من ذلك؟
أشارت نتائجهم الأولية، التي نُشرت على الإنترنت في 21 مايو/أيار، إلى أنه كان من الممكن إنقاذ حياة 35000 شخصٍ تقريباً، أي تقليل عدد الوفيات إلى ما دون النصف بحلول 3 مايو/أيار. لو تم اتخاذ نفس الإجراء قبل أسبوعين، كان من الممكن خفض عدد الوفيات بنسبة 90% تقريباً. كان من شأن الحد من الانفجار الأسّي الأولي في الحالات أن يوفر مزيداً من الوقت لزيادة عدد الفحوصات والتصدي لبؤر الانتشار الحتمية باستخدام برامج تتبع مخالطي المرضى.
يقول شامان: «لا يوجد سببٌ حتّمَ حدوث هذا. لو نظمنا استجابتنا في وقتٍ أبكر، لكان بإمكاننا القيام بعمل أفضل بكثير».
يقول جيراردو تشويل Gerardo Chowell، عالم في النمذجة الحاسوبية للأوبئة في جامعة ولاية جورجيا في أتلانتا، أن دراسة شامان توفر تقديراً تقريبياً لمسار الوباء لو كانت الاستجابة أبكر، على الرغم من صعوبة تحديد الأرقام الدقيقة نظراً لنقص البيانات في بداية الوباء والتحدي المتمثل في نمذجة مرض ما زال العلماء يحاولون فهمه.
رد ترامب علناً على دراسة كولومبيا برفضها باعتبارها «لعيبة سياسية» من قبل «مؤسسة ليبرالية للغاية».
التحكم في الرسالة بدلاً من الفيروس
مع تدهور الاقتصاد وارتفاع عدد القتلى، انتقد ترامب الصين بشكلٍ متزايد. وأيد نظرية مؤامرة لا أساس لها من الصحة تشير إلى أن الفيروس ربما نشأ في مختبرٍ في ووهان، وادعى أن مسؤولي الصحة الدوليين ساعدوا الصين في التستر على تفشي المرض في الأيام الأولى للوباء. في 29 مايو/أيار، نفذ تهديداته وأعلن انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية – وهي خطوة يقول الكثيرون إنها أضعفت قدرة الدولة على الاستجابة للأزمات العالمية وعزلت علومها.
بالنسبة للعديد من الخبراء، كانت هذه مناورة سياسية أخرى ذات نتائج عكسية من رئيس كان مهتماً بالتحكم في رسالته أكثر من الفيروس. في النهاية، فشل في كلا الأمرين. تصاعدت الانتقادات مع استمرار انتشار كوفيد 19.
يقول توم فريدن Tom Frieden، الذي ترأس المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC) في عهد أوباما: «لا يستجيب الفيروس للقرارات المتقلبة. الفيروس يستجيب للسياسات والبرامج المدفوعة بالعلم».
مع انتشار الوباء أكثر فأكثر، واصل الرئيس معارضة التحذيرات والنصائح من العلماء الحكوميين، بما في ذلك الإرشادات الخاصة بإعادة فتح المدارس. في يوليو/أيار، أصدر فريدن وثلاثة مدراء سابقين من مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC) توبيخاً حاداً في مقالٍ في صحيفة واشنطن بوست، مشيرين إلى جهود ترامب وإدارته غير المسبوقة للتقليل من شأن نصائح مسؤولي الصحة العامة.
نشأت مخاوف مماثلة مع إدارة الغذاء والدواء (FDA)، التي يجب أن توافق على اللقاح نهائي. في 29 سبتمبر/أيلول، كتب سبعة مفوضين سابقين في إدارة الغذاء والدواء مقالاً آخر في صحيفة واشنطن بوست معبرين عن مخاوف بشأن تدخلات ترامب ووزير وزارة الصحة والخدمات الإنسانية (HHS) أليكس عازار Alex Azar في عمليةٍ من المفترض أن يقودها علماء حكوميون.
هذا النوع من التدخل السياسي لا يضعف استجابة الصحة العامة فحسب، بل قد يضر في النهاية بثقة العامة في اللقاح النهائي، كما يقول حزقيال إيمانويل Ezekiel Emanuel، عالم في أخلاقيات علم الأحياء ونائب رئيس المبادرات العالمية في جامعة بنسلفانيا في فيلادلفيا. يقول إيمانويل: «يتساءل الجميع: “هل سأكون قادراً على الوثوق بقرار إدارة الغذاء والدواء بشأن اللقاح؟” إن حقيقة طرح الناس لهذا السؤال هو دليلٌ على أن ترامب قد أضعف مصداقية الوكالة بالفعل».
يقول إلياس زرهوني Elias Zerhouni، الذي ترأس معاهد الصحة الوطنية الأمريكية في عهد الرئيس السابق بوش بين عامي 2002 و2008، أن إدارة ترامب فشلت في السيطرة على فيروس كورونا، وتحاول الآن إجبار الوكالات الحكومية على استخدام مكانتها والتلاعب بالعلوم لدعم حملة ترامب. يقول زرهوني عن ترامب وإدارته: «إنهم لا يفهمون العلم حقاً. هذا رفض لأي علم لا يتناسب مع آرائهم السياسية».
لم يستجب البيت الأبيض ووكالة حماية البيئة لعدة طلبات للتعليق على هذا. أصدرت وزارة الصحة والخدمات الإنسانية بياناً لـ Nature جاء فيه: «لطالما قدمت وزارة الصحة والخدمات الإنسانية معلوماتٍ الصحة العامة بناءً على العلوم السليمة. طوال فترة الاستجابة لكوفيد 19، كان العلم والبيانات هو الدافع وراء القرارات الوزارة. قاد الرئيس ترامب استجابةً غير مسبوقة لأمريكا بأكملها للتصدي لوباء كوفيد 19».
علم انعزالي
في 24 سبتمبر/أيلول، اقترحت وزارة الأمن الداخلي الأمريكية قاعدة جديدة لتقييد مدة قضاء الطلاب الدوليين في الولايات المتحدة. ستحد القاعدة الجديدة التأشيرات لمعظم الطلاب بأربع سنوات، مما يتطلب تمديداً بعد ذلك، وتفرض حداً لمدة عامين للطلاب القادمين من عشرات البلدان التي تُعتبر عالية الخطورة، بما في ذلك تلك المدرجة على أنها دولٌ راعية للإرهاب: العراق وإيران وسوريا وجمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية.
على الرغم من عدم وضوح الآثار التي قد تحدثها هذه القاعدة، يخشى العديد من العلماء والخبراء من أن هذه السياسة وغيرها من سياسات الهجرة يمكن تؤثر بشكلٍ دائم على العلوم الأمريكية. تقول ليزبيت بورو Lizbet Boroughs، النائبة المساعدة لرئيس اتحاد الجامعات الأمريكية في العاصمة واشنطن، وهي مجموعة تمثل 65 مؤسسة: «يمكن أن يضع القرار الولايات المتحدة في وضع تنافسي سيء لجذب طلاب الدراسات العليا والعلماء».
يتناسب هذا القرار مع قيود السفر المُطبقة سابقاً التي صعبت على الأجانب من دول معينة – بما في ذلك العلماء – زيارة الولايات المتحدة والدراسة والعمل فيها. تمثل هذه السياسات تحولاً حاداً من سياسات الحكومات السابقة، التي سعت دائماً لجذب المواهب من البلدان الأخرى لملء المختبرات وتحفيز الابتكار العلمي.
يخشى الباحثون من أن الاقتراح الأخير سيجعل الولايات المتحدة أقل جاذبيةً للعلماء الأجانب، ما قد يعيق جهود البلاد في مجال العلوم والتكنولوجيا.
يقول إيمانويل: «لقد تأثرت طريقة تعاملنا مع طلاب الدول أخرى بشكل كبير». إذا بدأ أفضل الطلاب وألمعهم من البلدان الأخرى في الذهاب إلى أي مكانٍ آخر، فسوف يعاني العلم الأمريكي. «أخشى على البلد».
تقدم القاعدة المقترحة لمحةً عما قد تبدو عليه ولاية ترامب الثانية، وتسلط الضوء على الآثار غير الملموسة على العلوم الأمريكية التي يمكن أن تستمر حتى لو فاز بايدن في الانتخابات. يمكن أن يعكس بايدن بعض القرارات التنظيمية لإدارة ترامب ويتحرك لإعادة الانضمام إلى المنظمات الدولية، لكن قد يستغرق الأمر وقتاً لإصلاح الضرر الذي لحق بسمعة الولايات المتحدة.
يقارن جيمس ويلسدون James Wilsdon، باحث في السياسة العلمية بجامعة شيفيلد في المملكة المتحدة، الوضع في الولايات المتحدة في ظل رئاسة ترامب بمغادرة المملكة المتحدة للاتحاد الأوروبي، قائلاً إن كلا البلدين مُعرضان لخطر فقدان تأثيرهما على المستوى الدولي. يقول ويلسدون: «القوة الناعمة مدفوعة كثيراً بالصورة الحسنة والسمعة. هذه هي في الأساس الأصول غير الملموسة للنظام العلمي في الساحة الدولية». ما زال من غير الواضح مدى تأثير ذلك على فقدان القدرة التنافسية في جذب العلماء والطلاب الدوليين، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن العلماء يفهمون أن دونالد ترامب لا يمثل العلوم الأمريكية، وفق قول ويلسدون.
على الجهة الداخلية للبلاد، يخشى العديد من العلماء أن يستمر الاستقطاب المتزايد وعدم الثقة لسنوات قادمة. هذا من شأنه أن يصعب على الوكالات الحكومية القيام بوظائفها، لتعزيز السياسات القائمة على العلم، وجذب جيلٍ جديد ليحل محل العديد من العلماء والمسؤولين القدامى الذين قرروا التقاعد في عهد ترامب.
أن إعادة تأسيس النزاهة العلمية في الوكالات التي هُمش فيها العلماء الحكوميين وحُجبوا من قبل السياسيين، لن يكون أمراً سهلاً، وفقاً لقول أندرو روزنبرغ Andrew Rosenberg، الذي يرأس مركز العلوم والديمقراطية في اتحاد العلماء المهتمين، التي هي مجموعة مناصرة مقرها كامبريدج، ماساتشوستس، التي وثقت أكثر من 150 هجوماً على العلم في عهد ترامب. يقول روزنبرغ: «في عهد ترامب، يتمتع السياسيون الذي عينهم بسلطة تجاوز العلم وقتما يريدون إذا كان لا يتوافق مع أجندتهم السياسية. يمكنك عكس ذلك، ولكن عليك القيام بذلك بشكل مقصود ومباشر للغاية».
في وكالة حماية البيئة، على سبيل المثال، قد يعني ذلك إعادة بناء الأساس البحثي للوكالة بالكامل، ومنحها سلطةً حقيقية للوقوف في وجه الهيئات التنظيمية التي تتخذ القرارات السياسية، وفق قول أحد كبار مسؤولي وكالة حماية البيئة، الذي رفض ذكر اسمه لأنه غير مُصرحٍ له الحديث إلى الصحافة. المشكلة تعود إلى ما قبل ترامب، لكنها تسارعت في ظل قيادته. يقول المسؤول إنه بدون اتخاذ إجراءٍ قوي، فإن مكتب البحث والتطوير التابع لوكالة حماية البيئة، الذي يجري ويقيم الأبحاث التي تقود القرارات التنظيمية، قد يستمر ببساطة في «تراجعه الطويل إلى عدم الأهمية».
إذا فاز ترامب، يخشى الباحثون الأسوأ. يقول فيكتور: «لقد سكب أنصار ترامب حمضاً حارقاً على المؤسسات العامة أقوى بكثير من أي شيء رأيناه من قبل».
«يمكن للناس التخلص من بعض هذه الأشياء بعد ولايةٍ واحدة، ولكن انتخابه مرةً أخرى، بالنظر إلى كل ما فعله، سيكون أمراً صادماً. والضرر الذي سيحدث سيكون أكبر بكثير».