قبل 25 دقيقة
مساحة كبيرة من التربة العضوية الغنية بالكربون والتي اكتشفت في وسط القارة الأفريقية باتت عرضة للتهديد جراء التنمية التي لا تخضع للسيطرة أو المراقبة، ما يشكل خطرا هائلا على مستقبل التغير المناخي، كما يقول مراسل بي بي سي للشؤون الأفريقية أندرو هاردينغ.
بعد رحلة استغرقت 10 ساعات بالسيارة، تليها 10 ساعات أخرى على متن زورق صغير مصنوع من الأشجار، ثم ثلاث ساعات قضاها في شق ممر باستخدام المناجل، ثم ساعتين في السير بصعوبة بالغة في مستنقع يقع وسط الأحراش في الحر القائظ، بات الفريق العلمي أخيرا مستعدا لبدء مهمته.
بدأ العلماء بتجميع جهاز معدني طويل يشبه المفتاح الحلزوني الذي يستخدم في إزالة السدادات الفلينية من الزجاجات، ثم غرسوه بقوة في بقعة داكنة اللون من التربة المشبعة بالمياه، بينما كانوا يقومون بإزالة البعوض والطين بعيدا عن الجهاز.
“اضغطوا. مرة أخرى” – هكذا قالت غريتا دارغي العالمة البريطانية التي تقود المجموعة، بينما كان زميلاها الكونغوليان يلفان القضيب ويغرسانه على عمق أكبر في التربة، إلى أن تمكنا من استخراج عينة من التربة السوداء اللامعة على شكل أسطوانة.
وعلق جودري ماتوكو طالب الدكتوراة بجامعة ماريان نغوابي بالكونغو برازافيل قائلا: “لا بأس، [العينة]ليست سيئة على الإطلاق”.
على مدى العقد المنصرم، قام الفريق بتنفيذ مهام استغرق كل منها شهورا طويلة في المستنقعات النائية على حدود نهر الكونغو العملاق، حيث عكفوا على رسم خريطة لمحيط بقعة ضخمة من التربة العضوية الغنية بالكربون، يعتقدون الآن أن مساحتها تزيد بكثير عن مساحة إنكلترا.
تقول الدكتورة دارغي، الخبيرة بالتربة العضوية بجامعة ليدز البريطانية، بنبرة تتسم بالإصرار الهادئ: “نرغب بشدة في سد الثغرات الموجودة على الخريطة. إنه عمل شاق، ولكنه دائما ما يشبه المغامرة. إنني أقوم بهذا العمل منذ 10 سنوات، لذا لابد وأنني أحبه”.
أما السيد ماتوكو فلم يكن متحفظا في التعبير عن نفسه: “إنني رجل غابة، والغابات مكان يبعث على الهدوء، ولا يوجد أي مسببات للقلق والتوتر هنا”.
يقوم العلماء بتحديد موقع كل بقعة من بقاع التربة باستخدام جهاز يعمل بنظام تحديد المواقع “GPS”، ثم يصورون العينات التي يستخرجونها من باطن التربة قبل أن يحكموا تغليفها بالبلاستيك ويرسلوها إلى جامعة ليدز لتحليلها مرة أخرى.
يقول ساسبينس إيفو، وهو من كبار خبراء أراضي التربة العضوية في الكونغو برازافيل والذي كان يزور الفريق: “هذه التربة العضوية ذات أهمية بالغة في سياق التغير المناخي، إذ إنها تحتوي على كمية هائلة من الكربون المخزن تبلغ حوالي 30 مليار طن. وفي حال إطلاق هذه الكمية في الهواء، فإنها سوف تسرع من وتيرة التغير المناخي على مستوى العالم”.
وتقول الدكتورة دارغي: “يعادل ذلك قرابة 20 عاما من انبعاثات الوقود الأحفوري في الولايات المتحدة. أعتقد أن النظم البيئية هذه لم تحظ بالتقدير اللازم على المستوى الدولي. و[حكومة الكونغو برزافيل] بحاجة إلى الدعم المالي من المجتمع الدولي لضمان حماية أراضي التربة العضوية هذه”.
تحتوي أراضي التربة العضوية على كمية من الكربون تزيد عن تلك الموجود في الغابات الشاسعة التي توجد بها. لكن التربة العضوية التي يستغرق تكونها آلاف الأعوام قد تتعرض للتدمير في غضون أسابيع فقط إذا ما تركت لتجف.
تأتي التهديدات الرئيسية من مواسم الجفاف الطويلة المرتبطة بالتغير المناخي، وكذلك من تصرفات البشر، مثل الممارسات الزراعية والرعوية غير المستدامة – وهو تحد خطير يواجه دولة الكونغو برازافيل والدول المجاورة التي تسعى جميعا إلى تنمية اقتصاداتها والتكيف مع الزيادة السكانية.
وثمة مخاوف برزت مؤخرا جراء احتمال تأكد اكتشاف مخزون كبير من النفط بالقرب من أراضي التربة العضوية، واستغلال هذا المخزون.
وقد شرعت حكومة الكونغو برازافيل بالفعل في تقسيم الأراضي والبحث عن مستثمرين، رغم أنه لا تزال هناك شكوك حول حجم ذلك المخزون وأهميته.
تقول أرليت سودون-نونوت، وزيرة البيئة في الكونغو برازافيل: “لا يمكنك أن تطلب منا أن نترك مواردنا الطبيعية بدون استغلال. إذا احتجنا إلى استغلالها، فسوف نستغلها، بطريقة مستدامة ووفق القواعد البيئية”، معربة عن رفضها للمخاوف المتعلقة بالفساد وسوء الإدارة.
وأضافت الوزيرة: “لا يمكنك أن تظل تردد أن ‘هؤلاء الأفارقة يسيئون استغلال الأموال’. لقد حان الوقت لكي نفهم أنه من مصلحتنا المشتركة أن نحافظ على [أراضي التربة العضوية]. لأنه إذا لم يساعد [الغرب] في دعم مجهوداتنا الرامية للحفاظ عليها، فإننا سوف نكون مضطرين لاستخدام مواردنا الطبيعية لأننا ببساطة بحاجة إلى المال لكي نستمر في الحياة”.
وقد بدأت بالفعل مجهودات استغلال الموارد المدفونة تحت أراضي التربة العضوية على الضفة الأخرى من النهر، في جمهورية الكونغو الديمقراطية.
مؤخرا، أعلن ديديه بوديمبو، وزير الهيدروكربونات بالبلاد، عن بيع أراض بالمزاد بغرض إعدادها لإنتاج النفط. ويقول العلماء إن جزءا من الأراضي في المواقع المخصصة للبيع تتقاطع مع أراضي التربة العضوية.
وفي اجتماع عقده مجلس وزراء الكونغو الديمقراطية مؤخرا، أخبر بوديمبو زملاءه بأن “إنتاج النفط الوطني يجب أن يتخطى السقف المتواضع الذي يبلغ 25000 برميل يوميا”.
وقد أشارت وزارة الهيدروكربونات إلى شركة النفط الفرنسية “توتال” في التغريدات التي نشرتها على تويتر بشأن المزاد الذي من المقرر أن يقام يومي 28 و29 يوليو/تموز في مدينة كينشاسا عاصمة الكونغو الديمقراطية، لكن لم تستجب الشركة ولم يستجب الوزير لطلب التعليق الذي تقدمت به بي بي سي.
تقول أيرين وابيوا بيتوكو من جماعة Greenpeace Africa (السلام الأخضر في أفريقيا): “إذا لم يتم وقف هذه الخطة فسوف تكون عواقبها كارثية”.
“من الضروري أن يبذل كل من حكومة الكونغو الديمقراطية والمانحين كافة الجهود الممكنة لوقف عمليات التنقيب عن النفط واستخراجه، وأن يبدأوا في الحديث عن الطاقة المتجددة”.
وبالعودة إلى الضفة الأخرى من نهر الكونغو، يقود جوردان إلينغا زورقه الصغير المتأرجح عبر مستنقع سدت أشجار النخيل أجزاء كبيرة منه.
يقول: “سر برفق، سر برفق”.
يعتلي بصعوبة جذور إحدى الأشجار، ويستخدم منجله لشق ثقب عميق في الجانب، ثم يستخدم جدائل من اللحاء لربط وعاء بلاستيكي بقضيب خشبي، ويقوم بجمع خمر النخيل، ثم ينتقل إلى الشجرة التالية.
يقول إلينغا: “جمع خمر النخيل هو مصدر دخلي الرئيسي. أقوم ببيعه لإطعام زوجتي وأطفالي”.
يراقبه البروفيسور ساسبينس، ويتنهد بطريقة تنم عن الإحباط وخيبة الأمل.
يقول البروفيسور: “إن هذا يقتل الأشجار. إنه تهديد حقيقي لنظام أرض التربة العضوية البيئي. وعلى المدى الطويل، من الممكن أن يؤدي إلى تدميره.
“المشكلات هنا مرتبطة بالنمو السكاني، وإذا لم يتم معالجة مشكلة الفقر، فإن الجميع سيأتون إلى النظام البيئي هذا لكسب المال”، ويشرح أنه عندما تموت الأشجار، فإنها تعرض التربة العضوية الرقيقة لأشعة الشمس الضارة.
وعلى أحد الروافد الكبيرة لنهر الكونغو، وبالتحديد في بلدة نتوكو الصغيرة المعدمة، جلس المسؤول المحلي ألفونسي إيسابي في منزل حكومي غير مكتمل البناء، واعترف بأن ثمة “فراغا في المعلومات المتاحة للعامة” فيما يتعلق بأراضي التربة العضوية.
يقول: “نحن نعيش على صيد الأسماك والحيوانات هنا. ولكن إذا أردنا العيش في تناغم مع أراضينا ذات التربة العضوية، على القوى الكبرى إذن، على البلدان الأكثر تلويثا للبيئة، أن تقدم لنا الدعم المالي”.
ولكن رغم وجود عدد من الاتفاقيات الدولية بشأن الحاجة إلى حماية أراضي التربة العضوية الموجودة في حوض الكونغو، هناك حالة متزايدة من الإحباط في المنطقة، إذ تتهم الوزيرة سودون-نونوت الغرب بالنفاق.
“بدون حوض الكونغو، لن تستطيع بقية أنحاء العالم أن تتنفس. نحن الأفارقة نوفر خدمة نظم بيئية لجميع أرجاء الكوكب. ومن المنطقي أن يكون لهذه الخدمة ثمن”.
وتضيف الوزيرة: “الآن وقد فقدت [غابات] الأمازون دورها كجهاز لضبط وتنظيم المناخ العالمي بسبب إزالة أشجارها..فإن حوض الكونغو يقوم بدور رئتي البشرية، بل وكليتيها أيضا”، في إشارة إلى دور أراضي التربة العضوية المستمر في تنقية الغلاف الجوي من ثاني أكسيد الكربون.
وتقول سودون-نونوت: “لن نتمكن من ممارسة ضبط النفس إلى الأبد”، وتلمح إلى أن الكونغو برازافيل قد تلجأ إلى الصين لمساعدتها، إذ تضيف “سوف نقبل أفضل العروض”.
حكومة الكونغو برازافيل السلطوية التي تعتمد على العائدات التي تدرها حقول نفط البلاد الموجودة في مياه المحيط، والتي تتصدر قائمة البلدان الأكثر فسادا في العالم، نفت الاتهامات الموجهة لها بأنها تحاول ابتزاز الغرب لكي يقوم بتمويل مشروعات لمساندة أراضي التربة العضوية.
تقول سودون-نونوت: “علينا ألا نتحدث بهذا الأسلوب. إننا مستعدون، ولدينة خطة استثمار. ليس هناك من سبب يمنع حصولنا على هذا التمويل”.
- ساهمت في إعداد التقرير فيفيان نوني مقدمة برنامج BBC Business Daily الإذاعي.
جميع الصور خاضعة لحقوق الملكية الفكرية.