- ديفيد روبسون
- كاتب
قبل 42 دقيقة
تخيل أنك تقدمت لوظيفة الأحلام، واجتزت الجولة الأولى من المقابلات وجرى اختيارك لخوض الجولة الثانية. هل ستحتفل بما أحرزته من تقدم حتى الآن، أم ستبدأ في الاستعداد للتحدي الجديد؟ هل ستبدأ على الفور في تخيل فشلك في الجولة الثانية، وتخشى من تأثير ذلك على ثقتك بنفسك؟ هل ستقول لنفسك: “إذا أخفقت في ذلك، فإنني إنسان فاشل”؟
أو لربما تنتظر أن يصلك رد على رسالة أرسلتها لأحد أصدقائك. وعندما لا يصلك رد فوري، تبدأ في تخيل كافة الطرق التي ربما تكون قد أسأت إليه من خلالها بدون أن تأخذ بعين الاعتبار احتمال أن يكون ببساطة مشغولاً بشيء آخر.
أو لربما كانت تشغلك الأحداث الجيوسياسية. تقضي ساعات طويلة كل ليلة في اجترار التهديدات النووية، أو احتمال ظهور فيروس آخر فتاك أو حدوث ركود اقتصادي. المشكلات التي قد تتسبب فيها تلك الأمور لك وللمقربين منك تسيطر على مخيلتك.
إذا كان أي من تلك المواقف يبدو مألوفا، فمن المحتمل أن يكون لديك استعداد للتهويل: وهي عادة ذهنية تجعلك تبالغ في تقدير فرص تعرضك لمكروه، وتغالي في العواقب السلبية المحتملة لذلك السيناريو.
يقول الدكتور باتريك كيلان المعالج المعتمد المتخصص في الطب النفسي بمقاطعة ألبرتا الكندية: “إنها طريقة تفكير مشوهة، تؤدي إلى زيادة حدة المشاعر إلى مستويات يصعب السيطرة عليها، وفي بعض الأحيان تتملك الشخص وتستحوذ على تفكيره”.
هناك الكثير من الأبحاث التي تشير إلى أن التهويل من الممكن أن يشكل تهديدا خطيرا على الصحة العقلية، ومن الممكن أيضا أن يضخم الشعور بالضيق والتعاسة المصاحب لحالات مثل الألم المزمن. التهويل قد يحدث في أي مرحلة من حياتنا، لكن المخاوف التي لم تتبدد بعد من وباء كوفيد-19، فضلا عن ضبابية الأوضاع السياسية والاقتصادية قد يؤديان بالتأكيد إلى تفاقم تلك النزعة.
ولذا، فإن معرفة سبل كسر دوائر ذلك التفكير السام من شأنها زيادة مرونة الشخص – وربما ليس هناك وقت أفضل من الوقت الراهن لتعلم تلك السبل.
التحرر من فرويد
ينبع فهم علماء النفس للتهويل بوصفه أحد العوامل الخطيرة التي قد تضر بالصحة العقلية من ابتكار ما يعرف بالعلاج السلوكي المعرفي.
على مدى النصف الأول من القرن العشرين، ظل التحليل النفسي، الذي ابتكره سيغموند فرويد وآخرون، هو الوسيلة الأساسية للتعامل مع الأمراض العقلية. كان الهدف هو تعرية المخاوف والرغبات المكتومة التي تسببت في الصراع النفسي، والتي عادة ما تنتج عن أحداث تعرض لها الشخص في طفولته المبكرة، وتكون جنسية الطابع.
غير أنه بحلول منتصف القرن، بدأ معالجون نفسيون مثل ألبرت إيليس وأرون بِك في النظر إلى طرق بديلة لمساعدة الأشخاص في التغلب على مشكلاتهم. وبدلا من محاولة التنقيب عن صراع نفسي خفي، بدأ هؤلاء في التركيز على عمليات التفكير الواعي لدى الأشخاص، من خلال استهداف أنماط التفكير السيئة، أو “التشوهات المعرفية” التي قد تكون هي سبب المشكلات النفسية.
وقد توصلوا منذ البداية إلى أن التهويل ربما يكون من التشوهات المعرفية المهمة، حيث كتب بِك عن دوره المحتمل في حالات الرهاب المرضي (الفوبيا). على سبيل المثال، الشخص المصاب بفوبيا الطيران ربما يفسر أي صوت خشخشة بسيطة في مقصورة الطائرة على أنه إشارة إلى وجود خلل فني. إذا كان أقل نزوعا للتهويل، فإنه ربما سيلاحظ أن أفراد طاقم الطائرة يبدو غير منزعج، ولكن الشخص المهول سيفترض أن أفراد الطاقم ببساطة غير منتبهين لما يجري، ومع استمرار الصوت المخيف، يبدأ في تخيل كل الطرق البشعة التي قد يلقى بها حتفه.
الأبحاث المتواصلة تظهر أن التهويل أو التفكير السلبي المبالغ فيه يسهم بشكل خطير في حالات القلق المرضي. على سبيل المثال، الشخص الذي يتوخى الكمال في كل شيء وينزع إلى توقع الأسوأ قد يشعر بالقلق البالغ عند ارتكاب أصغر الأخطاء في العمل. يشرح كيلان قائلا: “ربما يفكر [ذلك الشخص] تفكيرا سلبيا مبالغا فيه من قبيل: ‘سوف أقال من وظيفتي’، و’إذا أقلت، لن أستطيع تحمل الأمر'”. وفي مرحلة ما، قد تصل مخاوف الشخص إلى حد عدم قدرته على تأدية وظيفته. أما الشخص الذي يعاني من قلق مرضي بشأن حالته الصحية، فربما يقوده التهويل إلى تشخيص ذاتي لأي تغيير طفيف في جسمه على أنه إشارة إلى إصابته بالسرطان.
في بعض الحالات، يبدأ الأشخاص في التهويل في الأحاسيس الجسدية المصاحبة للقلق المرضي. إذا ما كانوا متوترين بشأن القيام بمهمة ما، فإنهم على سبيل المثال يظنون أن ضربات القلب المتسارعة إشارة إلى أنهم سوف يصابون بأزمة قلبية. النتيجة هي دوامة من التفكير السلبي الذي قد يؤدي إلى نوبة هلع. يقول بارناباس أوست، وهو معالج نفسي من مدينة فرايبورغ الألمانية وأحد الكتاب المشاركين لبحث تحليلي استخلاصي حول دور التفكير التهويلي في اضطرابات الهلع: “إساءة تفسير إشارات الجسد بشكل سلبي مبالغ فيه [تغذي] التوتر والخوف، ما يؤدي بدوره إلى زيادة احتمال تفسير الموقف بشكل تهويلي”.
على مدى الأعوام القليلة الماضية، أظهرت الأبحاث أن التفكير التهويلي قد يجعلنا أكثر عرضة للإصابة بالعديد من الأمراض النفسية، بما في ذلك اضطراب ما بعد الصدمة، واضطراب الوسواس القهري، وحتى بعض أنواع الاختلالات العقلية الحادة.
بل ومن الممكن أن يؤدي التفكير التهويلي إلى مفاقمة الشعور بالألم الجسدي. في هذه الحالة، قد يتصور الشخص أن الآلام الجسدية التي يعاني منها لن تتوقف أبدا، أو قد يفكر في سببها. ربما تفترض أن ألم الرأس الشديد يعني أنك مصاب بسرطان المخ، على سبيل المثال. تشير التجارب إلى أن هذا النوع من التفكير يضخم عملية إصدار إشارات الألم في المخ، ومن ثم يكون الشعور به أشد وطأة ويستغرق وقتا أطول. وكتبت عالمتا المخ، بِث دارنال من جامعة ستانفورد ولوانا كولوكا من جامعة ماريلاند في ورقة علمية نشرتاها مؤخرا أن التفكير السلبي يشبه “التقاط علبة بنزين وصبها على النار”.
عدوى المشاعر
العديد من العوامل من الممكن أن تشرح لنا لماذا يعاني البعض من التفكير التهويلي أكثر من آخرين.
بعض السمات الشخصية مثل الاضطرابات العصبية (أو “العصابية”) – التي تعتبر وراثية بشكل جزئي – قد تفسر بعض تلك الاختلافات. وفي بعض الأحيان، نتعلم طريقة تفكيرنا من بعض أفراد الأسرة. إذا كنت لاحظت أن أبويك دائما ما يتوقعان أسوأ نتيجة ممكنة للأحداث، ربما تنظر تلقائيا إلى المواقف الصعبة بنفس الطريقة. كما أن الظروف التي نمر بها تلعب دورا هي الأخرى. فالشعور المبالغ فيه بالتوتر وعدم الاطمئنان يعني أن أهون الأسباب تزج بك في دوامة من التفكير السلبي.
إذا وجدت أن أفكارك بدأت تزداد تشاؤما وسلبية خلال العام أو العامين الماضيين، قد لا يكون ذلك من قبيل الصدفة: فهناك دليل على أن الأحداث العالمية التي تنقلها الأخبار ربما يكون لها يد في ذلك.
أحيانا، قد تبدأ في التهويل من العواقب المحتملة للأحداث نفسها – مثل الحرب في أوكرانيا أو ظهور متحور جديد لكوفيد-19، أو انهيار الاقتصاد. وأحيانا، قد يكون الرابط أقل وضوحا، حيث تؤدي الأخبار السلبية إلى زيادة المستوى العام للتوتر الذي قد يؤدي بدوره إلى شعروك بالقلق إزاء مشكلاتك الشخصية، حتى عندما تبدو منفصلة تماما عن المحتوى الجيوسياسي.
أجرت جامعة ويست ساسيكس بالمملكة المتحدة تجربة طلبت خلالها من 30 شخصا تصنيف عدد متنوع من التقارير الإخبارية التلفزيونية وفق السمات العاطفية، ما إذا كان الخبر سلبيا أم إيجابيا، مبهجا أم مزعجا، يبعث على الهدوء أم الإثارة ثم عرضت عليهم طائفة من الأنباء المصورة.
وقبل مشاهدة تلك الأنباء وبعدها، طُلب من المشاركين الإجابة على أسئلة حول أكبر دواع للقلق في حياتهم، ثم جرت معهم مقابلة في النهاية لمناقشة أحد الأمور التي تثير مخاوفهم. كما كان متوقعا، المشاركون الذين شاهدوا التقارير السلبية كانوا أكثر توترا بعد مشاهدتها – بل وكانوا أكثر نزوعا للتفكير التهويلي عند مناقشة مشكلاتهم الشخصية، مقارنة بهؤلاء الذين شاهدوا تقارير محايدة أو إيجابية.
الدراسة صغيرة نسبية. ولكن المزيد من التجارب تؤكد أن استهلاك الأخبار له تأثير يستمر لفترة طويلة على مزاجنا، ومن ثم، قد يضعنا في مسار تخيم عليه الأفكار السوداوية.
كسر الدائرة
مهما كان مصدر التفكير التهويلي، يقول المختصون في العلاج السلوكي المعرفي مثل كيلان إنه من الممكن كسر دوائر الأفكار السلبية.
الوعي أمر في غاية الأهمية، لذا فإن الخطوة الأولى هي التوقف عن التفكير وإدراك أن عقلك بدأ ينحدر باتجاه ثقب أسود. ربما تلاحظ أنك تشعر بالتوتر قبل مقابلة عمل، على سبيل المثال. إذا كانت الفكرة التالية التي ستخطر على بالك هي “سوف أفشل”، فلتتساءل على أي أساس بنيت ذلك الافتراض. ما الأسباب التي تدفعك إلى اعتقاد أنك ستفشل بشكل تلقائي؟ وما التفسيرات الأخرى التي يمكن أن تعطيها للموقف بناء على المعطيات المتاحة لك؟
إذا حاولت تبني وجهة نظر مراقب موضوعي، قد تدرك أن الفشل هو فقط أحد الاحتمالات ولكنه ليس أمرا مؤكدا – وأن هناك خطوات عملية باستطاعتك أن تتخذها لتحسين فرصك في تقديم أفضل أداء ممكن.
ينبغي أن تكون واعيا على وجه الخصوص بالتعميمات والمبالغات الشديدة التي تضر أكثر مما تنفع – أفكار من قبيل “أنا إنسان فاشل ولن أحصل على وظيفة مطلقا”. في هذا السيناريو، قد يكون من المفيد أن تدرك حقيقة أن الجميع يمرون من حين إلى آخر بتجارب سيئة فيما يتعلق بمقابلات العمل – وهذا لا يعني أنهم جميعا فاشلون ميؤوس منهم. وإذا حدث وفشلت، تستطيع أن تتعلم من هذه التجربة وتحسن أداءك في المقابلة التالية.
مثال آخر: تخيل أنك تشعر بقلق شديد من احتمال إصابتك بفيروس كوفيد-19، وأن هذا القلق مسيطر على أفكارك. بينما من المنطقي التفكير في خطورة العدوى، قد تقفز سريعا إلى استنتاج أنك مصاب به في كل مرة تشعر بدغدغة بسيطة في حلقك، ثم يصيبك الهلع من احتمال عدم قدرتك على التكيف إذا مرضت.
في مثل هذه الحالات، يمكنك أن تحاول إقناع نفسك بتأجيل إصدار الحكم حتى تظهر عليك أعراض الإصابة – فهذه الدغدغة البسيطة في حلقك قد تكون إنذارا كاذبا. من الممكن أيضا أن تذّكر نفسك بأن لقاحك سوف يقلل إلى حد كبير خطورة إصابتك بأعراض حادة، وتفكر في الطرق التي قد تيسر عليك عملية التعافي إذا مرضت – أن تتصل بصديق وتطلب منه شراء أغراضك إذا كنت غير قادر على ذلك، على سبيل المثال.
الهدف، في كل حالة، هو تكوين رؤية أكثر توازنا للمواقف استنادا إلى المعطيات المتاحة. يقول كيلان: “استخدام هذه الوسائل باستمرار عادة ما يؤدي إلى تخفيض القلق والتوتر لدى الشخص إلى مستويات يمكن السيطرة عليها، مقارنة بالمستويات [المرتفعة] الناتجة عن التفكير التهويلي”.
تفكيك أفكارك بهذه الطريقة ربما يكون صعبا في البداية، ولكنه عادة يزداد سهولة مع الممارسة. دوّن عدد المرات التي سارعت فيها إلى توقع أسوأ نتيجة ممكنة، ثم جاءت النتيجة الفعلية أفضل بكثير مما كنت تظن. بهذه الطريقة، سوف ترى كم مرة تسبب لك تهويل النتائج في مخاوف أنت في غنى عنها. تذكُّر هذه الحقيقة من الممكن أن تمنحك المزيد من التطمينات في المرة التالية التي تشعر فيها بإغراء السقوط في هاوية الأفكار السوداوية.
لا يتطلب منك أي من ذلك تفاؤلا ساذجا، ولكن وعيا بسيطا بكافة النتائج المحتملة. فالكوارث لا تتربص بك بالضرورة عند كل منعطف.
ديفيد روبسون هو كاتب علمي ومؤلف كتاب “أثر التوقع: كيف يمكن أن تؤدي طريقة تفكيرك إلى تغيير حياتك” (The Expectation Effect: How Your Mindset Can Transform Your Life).