منذُ اللّحظةِ الأولى التي حدثَ فيها أوّلُ انفصالٍ للسّلفِ الأوّلِ بين البشرِ والقرود، بدأتِ النّهضةُ الحضاريّةُ البشريّة، في البداية كانت بدائيّةً لكن، بالنظرِ إلى الأحافيرِ والآثارِ التي خلّفوها، نُدرِك تماماً السّرعةَ الكبيرةَ التي بلغتها الحضارةُ البشريّة، منذُ اختراعِ الأدواتِ البدائيّة التي ساعدت قبائلَ البشرِ المهاجرة على التكيُّفِ مع بيئتها، وحتّى قدرةُ هؤلاءِ على ترويضِ البيئة لتتكيّفَ مع متطلباتهم للاستقرارِ الذي أعطاهُم الفرصةَ للتّنهُّد والاستطلاع، وللنّظرِ إلى السّماءِ وما حولهم، وللاستفسارِ بفضولٍ حولَ كلّ شيء، لاختراع الزراعة والصناعة والفنون الخ.. من العلوم الإنسانية.

ولكن ما السر؟ ما سببُ هذا الانفصالِ الذي حدث، والذي فرّقنا عن باقي القُرود؟

في الحقيقة، هي عدّة عوامل جينية، بسبب ضغوطِ بيئةٍ ساهمَت بتغيراتٕ على البنيّة الجسديّة والعقليّة لأبناءِ نوعنا.

لقد نَبعَ من تضخُّم الدماغِ البشري، العديدُ من الميّزاتِ العظيمة التي أوصلتنا لما نحن عليه من التكنولوجيا، وإحدى أهمّ الميزات ميزتا الذكاءِ والوعي.

يحدثُ خلطٌ كبيرٌ بين مُصطلحي الذكاء والوعي، حيثُ أنّ ازديادَ معدّل الذكاء ليس لهُ صلةٌ مباشرةٌ بالوعي.

على سبيلِ المثال الدلافينُ حيواناتٌ ذكيّةٌ جداً لكنّ مفهومَ الوعي لديها مختلفٌ عن الوعي لدى البشر.

يوجدُ تعريفٌ واضحّ للذكاء ذكرناه في مقالاتٍ سابقة، لكن لا يوجد حتّى الآن تعريفٌ واحدٌ واضحٌ للوعي، هناك الكثيرُ من الفرضيّات والمفاهيم حولَ ماهيةِ الوعي، والكثيرُ من الشروحاتِ والتشعّبات.

إحدى الفرضياتِ تقول: إنّ الوعي ينقسمُ لثمان حالاتٍ وباجتماعها كلّها في الدماغ ينشأُ ما ندعوه بالوعي وهي:

-القدرةُ على التّدريس.

-الذّاكرة قصيرةُ المدى.

-القدرةُ على التّفكير السّببي.

-القدرةُ على التخطيط.

-القدرةُ على التصوّر والتخيّل.

-القدرةُ على الاستدلالِ التّعدُّدي.

-الذّكاء

-اللّغة.

وفي كلّ مرّة يدرسُ العلماءُ إحدى هذهِ الحالات، يجدونها أيضاً عند الحيوانات، لكنَّ الأمرَ معقّدٌ بالنسبةِ للبشرِ، على سبيل المثال اللّغة، لغةُ البشر معقّدة ولها قواعدٌ وأُسسٌ وملايين المفردات، إضافةً لوجودِ الآلافِ من اللغاتِ التي يستطيعُ البشرُ -باستخدامِ القُدرةِ على التَّعلّمِ- تعلُّمها والتحدّث بها بسرعةٍ أكبرَ مقارنةً مع أيّ حيوانٍ آخر.

وأيضاً، أضافَ العلماءُ أنّ لكِبَر حجمِ الدّماغ وازديادِ تعقيدِ مشابكِهِ العصبيَّة، حيثُ بلغَ سُمْكُ الوصلاتِ العصبونيّة العصبيّة العموديّة المسؤولة عن عمليةِ تحليل المعلومات -موجودة عند كل الثدييات- لدى البشر 51 ميكرومتر مقارنةً مع الشمبانزي 36 ميكرومتر.

وقد مَنحَ كلّ هذا البشرَ القدرة على تطويرِ مهارةِ الوعي الاجتماعيّ المعقَّد، خاصةً بعد اكتشافِ العالمِ هوف Hof وشركائِهِ عُصبوناً مميزاً سُمّيَ فين ven متوّضعٌ بشكلٍ أساسيّ في كلي نصفي الكرةِ المخيّة ضمنَ القشرة الجبهيّة والأماميّة الدّماغية.

هذا العصبونُ موجودٌ أيضاً لدى قرودِ الشمبانزي، لكنّ الفرق أنّه أكبرُ بشكلٍ ملحوظٍ لدى البشر، ولُوحِظ أيضاً أنّ هذه المناطقَ الدّماغية التي يتوضّعُ فيها هذا العصبون، مرتبطةٌ بشكلٍ مباشر مع الوعيّ الاجتماعي المعقّد المتمثّلِ في القدرةِ على إظهار التّعاطفِ والمشاعرِ والشُّعور بالذّنب والإحراج.

السؤال الأهمّ الذي يتواردُ لأذهانكم الآن هو لِمَ المشابكُ العصبيّة معقّدة أكثر لدى البشر؟

يعودُ ذلك لوجودِ نوعٍ مميّز من الخلايا العصبيّة، تدعى الخلايا الدبقيّة النجميّة، حيث تُفرِزُ هذه الخلايا نوعاً من البروتينات يسمى ثرومبو سبوندين thrombospondin، بمقدارِ ستّة أضعاف مقارنةً مع باقي قرود الشمبانزي، وهو المسؤول عن تحفيزِ تشكل التشابكات العصبيّة المسؤولة عن قدرات دماغنا المميزة.

إحدى الفرضيّاتِ أيضاً فسّرت الوعي بالقدرةِ على الاستيعاب والتكيّف، استيعاب معطيات البيئة المحيطة بشكل أكثر ذكاءً عن باقي الحيوانات، إضافة للقدرة على التكيّف مع البيئة وتحسينها للأفضل.

وأخيراً، إحدى أبسط الفرضيات، والتي تقول أنّ قدرة البشر على صُنعِ وتطوير أدوات يمكنهم استخدامها لأكثر من حالة، ولأكثر من مرة، في حين أنّ هذه القدرة أيضاً موجودة لدى قرود الشمبانزي إلا أنها محدودةٌ لاستخدام الأدوات لحالة واحدة خاصة، هو ما يُميّز الوعي عند البشر.

وكما أنّ لكل شيءٍ في الحياة ِوجهان، أحدهما إيجابيّ والآخر سلبي، فإنّ هذا التطورَ العقليّ والوعي والذكاء أيضاً، فتحَ المجالَ للكثيرِ من الاعتلالات العقليّة بالظهور لدى البشر، وبشكلٍ أسوءَ عن غيرهم من باقي القرود، أو الثدييات عامةً، مثل الشيزوفرينيا وداء التوحد والزهايمر.

nasainarabic.net