- زاريا غورفيت
- بي بي سي
قبل 34 دقيقة
مع بداية القرن التاسع عشر، اجتاحت لندن حالة من الذعر لسبب عجيب. شهدت تلك الفترة توزيع المنشورات وتأليف الكتب التي تبث الخوف والقلق في نفوس الناس. كان يتم تحذير الناس من أنهم معرضون لخطر محدق يتمثل في احتمال تحولهم إلى كائنات هجينة من بشر وبقر.
كانت هناك مجموعة صغيرة من الأطباء المثيرين للجدل والذين عمدوا إلى إثارة المخاوف من عملية طبية رائدة كانت تتضمن أخذ فيروس يعتقد أنه يصيب الماشية وحقن البشر به لحمايتهم من فيروس شبيه يتسبب في مرض الجدري.
هذه العملية أطلق عليها اسم “vaccination” (التطعيم أو التلقيح)، وهي كلمة مأخوذة من كلمة “vaccinus” اللاتينية التي تعني “بقري” – وكانت الأدلة الأولية قد أشارت إلى نجاح غير عادي لتلك العملية في حماية 95 في المئة من الأشخاص من الإصابة بالجدري الذي كان يتسبب في وفاة نحو 30 في المئة من المرضى وفي تشوهات مستديمة لغالبية النسبة المتبقية. بل كان هناك أمل لدى الأطباء في أن تلك العملية قد تؤدي في النهاية إلى القضاء على المرض إلى الأبد.
هيستيريا جدري البقر
كانت هناك حالة من الهيستيريا التي رافقت أول لقاحات في التاريخ، لدرجة أن أحد المنشورات المناهضة للتلقيح والتي تعود إلى عام 1802، رسم صورة مخيفة لبقرة متوحشة لها فك يشبه فك سمك القرش الأبيض الكبير، وتغطي جسدها بثور، ولها ذيل معقوف مرعب، يتم إطعامها أطفالا حديثي الولادة. هؤلاء الأطفال يمرون داخل جهازها الهضمي، ثم يُلفظون من مؤخرتها، بعد أن يكون قد نبت لهم قرون.
لم يمر الكثير من الوقت قبل أن يظهر أول مناهضين للقاح في التاريخ، ولا سيما هؤلاء الأطباء الذين كانوا مقتنعين بأن فيروس جدري البقر لا مكان له في جسم الإنسان. من بين أكثر المزاعم سخافة هو أن الأطفال الذين تلقوا اللقاح أصبحت لهم ملامح شبيهة بملامح البقر، أو أنهم صاروا يفكرون بالنفس الطريقة التي تفكر بها تلك الحيوانات. أحد أبرز مؤيدي تلك الأفكار ذكر أن النساء اللاتي يتلقين اللقاح ربما يبدأن في اشتهاء الثيران.
بالطبع المشككون الأوائل في عمليات التلقيح كانوا مخطئين تماما. فقطعا تلك التقنيات الحديثة في ذلك الوقت لم تحول الأشخاص الأبرياء إلى بقر، فجدري البقر كان مجرد فيروس، وخلال القرون اللاحقة، تسبب في انقراض الجدري الذي يصيب الإنسان. كما أن الفيروس الذي فعل ذلك قد لا تكون له أي علاقة بالبقر على الإطلاق.
فحتى يومنا هذا، لا أحد يعرف من أين جاء الفيروس الذي استأصل مرض الجدري الذي يصيب البشر. ومع هذا، فإن ذاك الميكروب الغامض لا زال يستخدم في اللقاحات، بما فيها ذلك الذي يستخدم للحماية من جدري القردة الذي أعلنته منظمة الصحة العالمية حالة طوارئ صحية عالمية.
بعد أن كان يوجد بالأساس في أفريقيا على مدى العقود الخمسة المنصرمة، بدأ جدري القرود ينتشر حول أنحاء العالم في مايو/أيار الماضي. ولمكافحته، لجأ العلماء إلى لقاحين كانا يستخدمان في السابق ضد الجدري – لقاح ACAM2000، ولقاح JYNNEOS. هذان هما اللقاحان الوحيدان المرخصان في الولايات المتحدة للحماية ضد الفيروس الناشئ (كما أقر الاتحاد الأوروبي مؤخرا لقاح JYNNEOS). وكلاهما آمن بشكل فائق، ويعتقد أنهما فعالان بشكل كبير كذلك – ولكنهما هما أيضا يشكلان جزءا من اللغز.
لأكثر من نصف قرن، كان يعتقد العلماء على نطاق واسع أن لقاح الجدري يصنع من فيروس جدري القرود، وهو التفسير الذي لا زال موجودا على الكثير من مواقع الإنترنت وضمن الكثير من المناهج التعليمية في شتى أرجاء العالم. ولكن في عام 1939، بعد مرور نحو 150 عاما على اختراع اللقاح، أظهرت الاختبارات الجزيئية أنه ليس كذلك. ومؤخرا، أكدت التسلسلات الجينية تلك النتائج. فاللقاحات التي استخدمت لاستئصال الجدري، وتلك المستخدمة في يومنا هذا للحماية من جدري القرود، تعتمد على فيروس غير معروف لم ينجح أحد في تحديد هويته – فهو عامل ممرض “شبح” لم يُعثر عليه قط سوى في هيئة لقاح.
ورغم عقود من الأبحاث، لا أحد يعلم كيف ولماذا ومتى بالتحديد ظهر هذا الفيروس المخادع في لقاح الجدري، وما إذا كان لا يزال موجودا في الطبيعة. شيء واحد فقط هو المؤكد، هو أن الملايين الذين عاشوا في فترات انتشار الجدري مدينون بحياتهم له. وبدونه، لكان جدري القرود على الأرجح قد انتشر بشكل أسرع.
يقول هوزيه إسبارزا عالم الفيروسات وزميل معهد روبرت كوخ بألمانيا: “على مدى أعوام كثيرة، حتى سنة 1939، كان الناس يظنون أن ما نسميه vaccinia، أو لقاح الجدري، هو نفسه فيروس جدري البقر..ثم اُكتشف أنهما مختلفان. ومنذ ذلك الحين، أقررنا بأن.. لقاح الجدري يحتوي على فيروس مجهول المصدر”.
ترى من أين جاء ذلك الفيروس؟ وهل سيمكننا على الإطلاق العثور عليه في الطبيعة؟
محنة إنجليزية
الرجل الذي يعود إليه الفضل في ابتكار عملية التلقيح هو إدوارد جينر، الذي أعلن عن اكتشافه في عام 1796. وقد تبين أن القصة المعتادة التي تسرد كيف توصل إلى ابتكاره ليست دقيقة تماما.
النسخة الأكثر شهرة للقصة هي أن جينر لاحظ أن بائعات الحليب عادة ما تكون بشرتهم صافية وليس بها البثور التي كان يعاني منها قطاع عريض من السكان – حوالي 85 في المئة من المتعافين من الجدري تعرضوا لنسبة كبيرة من ندوب الوجه الشائعة لدى المصابين بالمرض. وأدرك جينر أن الأشخاص الذين أصيبوا بأعراض خفيفة لجدري البقر قل لديهم احتمال الإصابة بالجدري الذي يصيب الإنسان. ولإثبات ذلك، قام بإصابة صبي يبلغ من العمر ثمانية أعوام بجدري البقر دون علمه، ثم عرضه لفيروس جدري البشر ليرى ما إذا كان سيمرض (لحسن الحظ لم يحدث ذلك، وعاش الطفل).
ولكن في الواقع، حدث الاكتشاف عن طريق الصدفة قبل ذلك بنحو ثلاثة عقود، على يد طبيب كان قد انتقل لتوه إلى بلدة ثورنبري في مقاطعة غلوسترشير. هناك، افتتح الطبيب جون فيوستر عيادة يمارس فيها “التجدير”، وهي طريقة قديمة لحماية الأشخاص من الجدري من خلال قطع جلد ذراع شخص غير مصاب وتدليك مكان القطع بكمية صغيرة من الصديد المأخوذ من بُثور مريض الجدري
هذه الطريقة كانت تستخدم في قارة آسيا، من الهند إلى التبت، منذ مئات السنين، ولكنها لم تكن معروفة للأوروبيين حتى علمت بها الليدي ماري ورتلي مونتاغيو بينما كانت في القسطنطينية (إسطنبول) وأكسبتها شهرة في بريطانيا خلال القرن الثامن عشر. عندما كانت هذه التقنية تحقق نجاحا، كانت تنتج في العادة ندبة جدري واحدة في موقع العدوى، ما كان يشير إلى أن جهاز مناعة المريض تعلم أن يتعرف على الفيروس. وعندما كانت تفشل، وتنتشر العدوى – في حوالي 2-3 في المئة من الحالات – كانت تتسبب في وفاة المريض.
ولكن في ثورنبري، لم تتفاعل أجساد بعض المرضى مع “التجدير” على الإطلاق، ورغم المحاولات المتكررة، كانت العملية غير ناجحة. أثار ذلك حيرة فيوستر. وفي ذات يوم، قال أحد المزارعين إنه أصيب مؤخرا بجدري البقر – أي أنه كان قد اكتسب مناعة بالفعل.
يقول آرثر بويلستون أخصائي علم الأمراض المتقاعد ومؤلف كتاب “تحدي القدر: الجدري والثورة العلمية المنسية خلال القرن الثامن عشر”، إن “جدري البقر كان بشكل عام مقصورا على منطقة الشمال الغربي البريطانية [في ذلك الحين]”.ويضيف أنه لم يكن منتشرا بشكل كبير، فقد كان يتفشى كل بضع سنوات فحسب، وعلى الرغم من أن المزارعين في المنطقة كانوا على دراية بوجوده، كان الجيل الشاب فقط هو من يربط بينه وبين الحماية من مرض الجدري.
هذا الاعتقاد الشعبي على ما يبدو وجد طريقه في نهاية المطاف إلى جينر، الذي درس هو وفيوستر بكلية الطب ذاتها.
في 14 مايو/أيار عام 1796، أخذ جينر كمية من القيح من بثر جدري البقر الذي نما على ذراع إحدى بائعات الحليب. استخدم القيح في تطعيم صبي في الثامنة من العمر. بعد ستة أسابيع، تم “تجدير” الصبي، وعندما لم تظهر عليه أي أعراض للإصابة بالجدري، أيقن جينر أن هذه الطريقة الرائدة حققت نجاحا.
يقول إسبارزا: “ما لاحظوه آنذاك هو ما نعرفه اليوم: كافة الفيروسات المسببة لأنواع الجدري المختلفة تنتج مناعة في مختلف الكائنات”.
لكن في عام 1939، حتى هذه النسخة من الأحداث واجهت علامات استفهام.
فعندما أجرى العلماء اختبارات على الأجسام المضادة لجدري البقر الموجودة في لقاح الجدري الذي كان يعُتقد أنه صنع منها، اكتشفوا أن الاثنين فيروسان مختلفان تماما.
مجموعة ضخمة
البشر في الواقع ليسوا وحدهم من يخوضون معركة ضد فيروسات الجدري. فهذه العائلة الضخمة تضم عشرات الفيروسات يصيب كل منها مجموعة مختلفة من الحيوانات. وداخل هذه العائلة توجد فصيلة فيروسات الأورثوبوكس Orthopoxvirus التي ينتمي إليها فيروس الجدري الذي يصيب البشر. وإلى جانب هذا الفيروس توجد فيروسات أخرى تصيب الثدييات مثل جدري الخيل، جدري الإبل، جدري الجاموس، جدري الأرانب، جدري الفئران، وجدري القرود.
ولقاح الجدري، أو vaccinia هو عضو آخر من أعضاء تلك الفصيلة، وقد استخدم لتطعيم كل الأشخاص تقريبا الذين ولدوا قبل أوائل السبعينيات، ثم توقفت تلك العملية. ولكن العثور على سلف ذلك الفيروس في الطبيعة من بين مجموعة الأورثوبوكس لا زال أمرا مستعصيا على العلماء.
أحد المرشحين المحتملين هو جدري الخيل.
في الورقة العلمية الأصلية التي كتبها جينر عن التلقيح، يتحدث عن أن جدري البقر ربما يكون قد نشأ في الخيل، ثم انتقل إلى البقر. وقد كرس جينر ما تبقى من حياته لتوزيع اللقاح وتحسين طرق إعطائه.
لكن تفشي “جدري البقر” بشكل وبائي أمر نادر الحدوث، ومع تفجر شعبية التقنية الجديدة، أصبح العثور على المادة المعدية يمثل تحديا كبيرا. بعد أول تجربة تلقيح على الإطلاق قام بها جينر، لم يستطع إجراء المزيد من الأبحاث لمدة عامين، عندما اختفى المرض بشكل مؤقت من المنطقة.
وكانت محاولات جينر اللاحقة تعتمد على نقل الفيروس الوقائي من شخص لآخر – كل شخص يُعدَى بالفيروس كان يصبح بمثابة مخزن للقيح الذي يمكن لجينر استخدامه لتلقيح شخص آخر.
ثم ابتكرت طريقة أكثر تطورا كانت تنطوي على غمس قطع من الخيط في المادة المعدية، ثم تجفيفها، ما جعل من الممكن إرسال اللقاح إلى أقصى بقاع الأرض.
لكن لسوء الحظ لم تكن هذه الطرق جديرة تماما بالاعتماد عليها، فعندما كانت تفشل أو تتعطل إحدى الخطوات، كان يتعين بدء العملية برمتها من جديد، وإيجاد بقرة أخرى مصابة ب”جدري البقر”.
كان من بين الحلول توسيع القاعدة الحيوانية، وكانت الخيل هي الخيار الثاني. وسرعان ما بدا واضحا أن فيروس الجدري المستخرج من الأحصنة مباشرة يعمل بنفس كفاءة الفيروس المستخرج من البقر، بل وبحلول عام 1817، أصبح جينر يعتمد كليا على الخيل في عملية التلقيح.
تطور غير متوقع
رغم مرور قرون على إجراء أول عملية تلقيح ضد الجدري، لا تزال هناك آثار للفيروس الذي استخدم آنذاك مختبأة في متاحف في أنحاء شتى من العالم – في صورة قشور جرح وسائل ليمفاوي محفوظة في الأدوات التي كانت تستخدم للتلقيح. في عام 2017، تمكن فريق من العلماء الدوليين بقيادة إسبارزا من استخراج لقاح كان قد صنع في فيلادلفيا عام 1902.
تمكن العلماء من رسم خريطة لمحتوى جيني (جينوم) شبه كامل للعينة التاريخية التي عثروا عليها. يقول إسبارزا: “هذه اللقاحات ظلت محفوظة في درجة حرارة الغرفة لأكثر من 100 عام.. فقط بفضل التقنيات الحديثة المتطورة أصبح بالإمكان تحديد التسلسل الجيني للمادة المتحللة”.
ما اكتشفه العلماء عزز الشكوك المحيطة بفيروس اللقاح: لم يُعثر على أي دليل على وجود جدري البقر في السلالة التي تم اختبارها، والتي كانت قريبة بشكل كبير من فيروس جدري الخيل الذي تم التعرف عليه في منغوليا عام 1976. كما أن أبحاث واختبارات أجراها فريق آخر أظهرت نتائج مشابهة.
إذن، يبدو أن غالبية اللقاحات التي استخدمت في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين كانت في الواقع مصنوعة من فيروس جدري الخيل – إما أن فيروس جدري البقر لم يستخدم على الإطلاق، أو أن يكون قد استُبدل بقريبه الذي يصيب الأحصنة بعد فترة قصيرة.
بيد أن اللغز لا ينتهي عند هذا الحد.
فقد توصل فريق إسبارزا مؤخرا إلى دليل لم يُنشر بعد على حدوث تغير جذري في اللقاحات التي تستخدم للوقاية من جدري البشر في حوالي عام 1930، ويقول إسبارزا: “نقوم حاليا بالتحقيق في ذلك”.
وجد الفريق أنه خلال تلك الفترة، كانت لقاحات الجدري تتكون بالأساس من الفيروس الغامض الذي يوجد في اللقاحات في الوقت الحالي. يقول إسبارزا إن التسلسل الجيني الأساسي “كان لجدري الخيل حتى عام 1930، ثم تغير إلى الفيروس المستخدم في اللقاحات الحديثة، التي لها نفس التسلسل الجيني لفيروسات الأورثوربوكس، ولكننا لا نعرف أصل هذا الفيروس. إنه ليس فيروس جدري البقر”.
اختفاء فيروس
يرى إسبارزا أن القفزة المفاجئة من نوع إلى آخر من أنواع لقاح الجدري تعود إلى الطريقة التي كان يتم بها توزيع اللقاحات.
“خلال المئة عام الأولى، كان يُنقل من ذراع شخص إلى ذراع آخر.. وفي عام 1860، بدأ العلماء في إيطاليا وفرنسا في استخدام الحيوانات – فبدلا من تمرير الفيروس من شخص إلى آخر، وجدوا أن باستطاعتهم إعادته إلى أجسام البقر وإبقائه بداخلها”. ولاحقا، توسع نظام الإنتاج بالجملة ليشمل حيوانات أخرى كالخراف والخيل والقرود.
وفي مرحلة ما، بدأ استخدام فيروس من حيوان مجهول كلقاح للجدري. ليس هناك أية سجلات توضح من فعل ذلك، أو متى أو لماذا أو كيف فعله، ولكن ثمة احتمال أن يكون ذلك قد تم عن طريق الخطأ – أن يكون أحدهم قد استخلص ما ظن أنه فيروس جدري الخيل أو جدري البقر من أحد الحيوانات، بينما كان الفيروس في واقع الأمر مجهول المصدر. ولأنه كان فعالا، لم يلاحظ أحد ذلك التغيير.
رغم أن ظهور جدري القرود قد يوحي بأن فيروسات الجدري في نمو وازدهار، فإن تلك الفيروسات كانت معرضة للفناء بشكل كبير ولفترة طويلة، وقد لا يكون فيروس جدري البشر هو الوحيد الذي اختفى.
يقول إسبارزا إن “جدري الخيل اختفى من أوروبا في بداية القرن العشرين”، ويضيف أن الفيروس الغامض المستخدم حاليا في لقاحات الجدري ربما لقي مصيرا مماثلا.
لكنه يأسف لأنه لم تجر أبحاث كافية في هذا الشأن. فبمجرد استئصال مرض جدري البشر، تقلص الاهتمام بدراسة أقاربه. ويمضي قائلا: “ربما سيشجع التفشي الحالي [لجدري القرود] على المزيد من الدراسات العلمية”.
استخدام جديد
الفيروس الغامض، في واقع الأمر، أكثر فائدة الآن من أي وقت مضى.
الفيروس المسبب لجدري القرود على صلة قرابة وثيقة بفيروس الجدري الذي يصيب الإنسان، وعادة ما يوجد في منطقة وسط أفريقيا الاستوائية، حيث يصيب بالأساس القوارض والرئيسيات (باستثناء البشر). الإصابة به لا تحدث بنفس سهولة الإصابة بجدري البشر، وهو ينتقل في أغلب الأحوال من خلال الاتصال المباشر بسوائل جسم مصاب أو أشياء أخرى ملوثة بالفيروس كأغطية الفراش. وبعكس الجدري الذي يصيب الإنسان، نادرا ما يتسبب جدري القردة في الوفاة، لكن كانت هناك تقارير عن حالات خطيرة تشبه الأمراض التي تنتقل عن طريق الاتصال الجنسي. وعادة ما يتسبب في الحمى، التي يتبعها طفح جلدي قد يكون مؤلما للغاية.
اكتُشف جدري القرود للمرة الأولى عام 1970، وحتى وقت قريب كان مقصورا على أفريقيا. ولكن في مايو/أيار 2022، بدأ ينتشر تدريجيا عبر أنحاء العالم بشكل غير مسبوق. ولإبطاء تفشي المرض، اشترت بلدان عديدة ملايين الجرعات من نوعين من اللقاح (لقاح JYNNEOS ولقاح ACAM2000)، وكلاهما ينحدر مباشرة من ذلك الفيروس المحير الذي أصبح سائدا في لقاح الجدري في ثلاثينيات القرن الماضي. وهناك الآن نقص عالمي في إمدادات هذين اللقاحين.
المفارقة هي أن ثمة اعتقادا بأن تفشي جدري القرود ربما يكون سببه هو أننا توقفنا عن التطعيم ضد الجدري.
يقول إسبارزا: “أعلن عن استئصال الجدري عام 1980. ومنذ ذلك الحين، توقفت عمليات التلقيح في غالبية البلدان، وتضاءلت مناعة البشر ضد فيروسات أورثوبوكس. وربما يكون ذلك هو سبب ظهور جدري القرود في العالم”.
وربما تستغل فيروسات أخرى الفرصة ذاتها. فرغم أن جدري البقر نادر في الماشية، إلا أنه لا يزال متفشيا بين القوارض في شتى بقاع الأرض. ومنذ توقف عمليات التلقيح في السبعينيات، كانت هناك حالات متزايدة لإصابة الأطفال بالجدري.
وحاليا، عندما يصاب الأشخاص بجدري البقر، فإنه ينتقل إليهم في أغلب الحالات من الجرذان أو القطط التي تلتقطه من القوارض. غالبية الحالات تكون خفيفة ينتج عنها طفح جلدي على اليدين والوجه، وبعكس جدري القرود، لا ينتقل جدري البقر من شخص لآخر.
لكن كانت هناك وفيات، وقد ذهب بعض الخبراء إلى حد وصف جدري البقر بأنه تهديد صحي ناشئ.
إذن، لا يزال هناك طلب مرتفع على لقاح الجدري. ولكن هل سنعرف أبدا من أين جاء فيروس الجدري المفضل لدى البشر؟. يشك إسبارزا في ذلك: “الأسئلة التي لدينا أكثر من الإجابات”، ولكنه يلمح إلى أنه هو وفريقه أحرزوا بعض التقدم، وسوف يكشفون عن المزيد من التفاصيل المشوقة في الأشهر القادمة.
بغض النظر عن الفيروس الذي صنع منه، ليس هناك أدنى شك في أنه بدون لقاح الجدري، لكان العالم قد أصبح مكانا مختلفا تماما، يصارع وباء قديما يقتل الناس ويشوههم منذ مئات السنين. ومثلما كان الحال في بدايات القرن العشرين، هناك أسباب للخوف من عواقب عدم التلقيح تفوق بكثير أسباب الخوف من التحول إلى كائن هجين بين الإنسان والبقرة.