تتبع العديد من وظائف الجسم البشري التواتر اليومي المُعتاد أو ما يُسمى بالساعة البيولوجية، إذ تُوجد أوقاتٍ مُحددةٍ من اليوم يكون الشخص في أوج نشاطه وتنبهه، حيث يملك أعلى قيمة لضغط الدم وأفضل فعالية قلبية. وقد وجد العلماء عدداً من الطفرات الجينية النادرة القادرة على تعديل هذه الساعة البيولوجية لدى الانسان، جاعلةً عائلات بأكملها تستيقظ في الثالثة أو الرابعة فجراً يومياً وعدم السهر بعد الثامنة مساءً.

حالياً ولأولِ مرةٍ حددَ بحثٌ جديدٌ مُتغيراً جينياً شائعاً يؤثرُ نظرياً على جميع السكان، ويُحدد بالساعات في اليوم كونك ممن يستيقظون باكراً، أم ممن يمضون ليلهم في السهر.

علاوةً على اكتشافِ كيفيةِ تأثيرِ تعدد الأشكال الجينية على الروتين اليومي والساعة البيولوجية، أسهمَ هذا الاكتشاف الجديد في إيجاد المتغيرات الجينية التي تُساعِد على تحديد أكثر الأوقات احتمالية ضمن اليوم لموت شخص ما.

ظهرت النتائج المُفاجِئَة في عدد نوفمبر 2012 من مجلة Annals of Neurology، والتي يُمكِن أن ُتساعِد في تنظيم مناوبات العمل والعلاجات الطبية، وفي مُراقبَة حالات المرضى المعرضين للخطر.

تنظم “الساعة البيولوجية” الداخلية العديد من جوانب البيولوجيا والسلوك البشري، مثل أوقات النوم المُفضَلة، وأوقات ذُروَة الأداء المعرفي، وتوقيت العديد من العمليات الفيزيولوجية، كما أنها تؤثر على توقيت ومواعيد الحالات الطبية الحادة مثل السكتة الدماغية والنوبات القلبية، استناداً للأستاذ الدكتور أندرو ليم Andrew Lim الحاصل على شهادة الدكتوراة في قسم الأمراض العصبية في مركز بيث ديكونيس الطبي.

يضيف الدكتور ليم، الذي يعمل حالياً كأستاذ مساعد في قسم الأمراض العصبية في جامعة تورنتو قائلاً: إن الأبحاث والدراسات السابقة على التوائم والعائلات اقترحت أنَّ التأخر أو الإبكار في الساعة البيولوجية لفرد ما قد يكون موروثاً، كما اقترحت التجارب على الحيوانات وجود عوامل جينية محددة قد تسهم في تأخر الساعة البيولوجية.

الأبحاث على مدار اليوم :
بدأ العمل منذ عدة سنوات بينما كان الدكتور ليم يعمل في مختبر BIDMC.

حيث كان هو وأعضاء المختبر الآخرون يدرسون سبب معاناة كبار السن من اضطرابات النوم وانضموا إلى مشروع بحثي مقره جامعة راش في شيكاغو يضم 1200 شخص سجلوا كأشخاص بعمر 65 عاماً موافقين على خضوعهم لفحوصات عصبية ونفسية سنوية.

وقد كان الهدف الحقيقي للبحث هو تحديد ما إذا كانت هناك سلائل معينة لتطور مرض باركنسون أو مرض الزهايمر. وكجزء من البحث، يخضع الأشخاص المشاركون لتحليل مختلف أنماط للنوم واليقظة باستخدام سوار معصم يسمى أكتيغراف Actigraf، والذي يوفر سِجلاً موثوقاً لنمط نشاط الفرد.

بالإضافة إلى ذلك، ومن أجل تزويد العلماء بمعلومات عن أنماط النوم واليقظة في غضون عام من الوفاة، وافق المشاركون على التبرع بأدمغتهم بعد وفاتهم.

لكن البحث أخذَ منعطفاً جديداً عندما عَلِمَ ليم أن نفس المجموعة من الأشخاص قد خضعت أيضاً للتنميط الجيني للحمض النووي.

بالتعاون مع باحثين من مستشفى بريجهام Brigham ومستشفى النساء، قارن ليم وزملاؤه سلوك نمط النوم واليقظة لدى هؤلاء الأفراد مع أنماطهم الجينية.

وتم التحقق من صحة وتطابق الاستنتاجات السابقة لاحقاً عند مجموعة من المتطوعين الشباب.

وسُرعَــان ما تمَّ اكتشاف نيوكليوتيد واحد بالقرب من جين يسمى “Period 1” والذي تفاوت بين مجموعتين اختـلفـتــــا في سلوك اليقظة والنوم. في هذا الموقع المُحدَد من الجينوم، يمتلك 60 بالمائة من الأفراد الأسس الازوتية (نيكليوتيد) الأدينين (A) و40 بالمائة لديهم الغوانين (G).

ونظراً لأن لدينا مجموعتين من الصبغيات عند أي شخص، فهناك احتمال بنسبة 36٪ لامتلاك اثنين أدانين A، وفرصة بنسبة 16٪ لامتلاك الفرد اثنين من الغوانين G، وفرصة بنسبة 48٪ لامتلاك مزيج من A وG في هذا الموقع.

يوضح الدكتور سابر Saper الأستاذ في العلوم والأمراض العصبية في كلية الطب بجامعة هارفارد قائلاً: “يؤثر هذا النمط الجيني المحدد على نمط النوم واليقظة لكل شخص حي تقريباً، حيث يستيقظ الأشخاص الذين لديهم النمط الجيني A-A قبل حوالي ساعة من الأشخاص الذين لديهم النمط الجيني G-G وذوي النمط A-G يستيقظون تقريباً في منتصف هذه الفترة.

وقد وجد أن التعبير عن جين “Period 1” أقل في دماغ وكريات الدم البيضاء للأشخاص ذوي النمط الجيني G-G مقارنةً مع الأشخاص الذين ذوي النمط الجيني A-A.

حيث يمثل هذا الاكتشاف أكبر مساهمة لنمط وراثي واحد عند مجموعة من السكان لتحديد وقت استيقاظ ونوم الناس خلال اليوم.

ولكن هل من الممكن أن يؤثر هذا المتغير أيضاً على جوانب أخرى من الروتين اليومي للجسم؟

يقول سابر: جميع العمليات الفيزيولوجية تقريباً لها روتين يومي، مما يعني أنها تحدث غالباً في أوقات معينة خلال اليوم. حتى أن هناك تواتراً معيناً للوفاة، بحيث يميل الناس وسطياً للموت في ساعات الصباح. وتحديداً حوالي الساعة 11 صباحًا وسطياً.

وعندما عادَ الباحثون ودققوا في الأفراد المشاركين في الدراسة (ممن شاركوا منذ أكثر من 15 عاماً في سن 65) والذين ماتوا، وجدوا أن نفس النمط الجيني تنبأ بست ساعات متفاوتة لوقت الوفاة، فأولئك الذين لديهم النمط الجيني A-A أو A-G ماتوا قبل الساعة 11 صباحًا بقليل، مثل معظم السكان، بينما أولئك الذين لديهم النمط الجيني G-G ماتوا وسطياً قبل الساعة 6 مساءً بقليل.

“إذاً هناك حقًا جين يتنبأ بوقت موتك خلال اليوم ليس التاريخ، لحسن الحظ! بل الوقت من اليوم”، كما يقول الدكتور سابر.

يقول الدكتور لي : “نحن بحاجة إلى المزيد من العمل لتحديد الآليات التي تؤثر بها هذه المتغيرات الجينية وغيرها على الساعة البيولوجية للجسم”.

وتكمن أهمية هذا البحث بالإضافة إلى مساعدة الأشخاص على تحسين جداولهم اليومية، في إيجاد تدابير جديدة لاضطرابات هذه الساعة البيولوجية كما يحدث في الرحلات الجوية الطويلة أو العمل بنظام المناوبات.

nasainarabic.net