تبين الصورة “شيلسيا جود”، كاتبة المقال، وهي تطفو بجاذبية قمرية على متن رحلة الجاذبية الأرضية المنعدمة، التي تحاكي جاذبية القمر والمريخ وانعدام الوزن. حقوق الصورة: Zero-G
في اللحظة التي ارتفعت ذراعاي فوق رأسي وغادرت قدماي أرضية الطائرة، أخذت علامات الاستفهام والتعجب تَدور في رأسي!
ذات يوم في شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، غادرتُ الحضن الدافئ والمريح لجاذبية كوكبنا، محلِّقة باتجاه السماء في رحلة منعدمة الجاذبية. صعدتُ على متن طائرة من نوع “جي فورس وَن G-Force One ” تابعة لشركة زيرو-جيZero-G، وهي طائرة ذات مزايا خاصة من صنع شركة “بوينغ”، ويكمن دورها في التحليق بالركاب في سلسلة من مسارات ذات انحناءات خاصة أو مقوسة لخلق حالة انعدام وزن يحاكي انعدام الجاذبية، وكذلك جاذبية القمر والمريخ .
بداية: كيف تعمل هذه الطائرة؟
يمكن تشبيهها بقطار أفعواني في مدينة مَلاهي، فهو يتحرك صعوداً عبر المنحدرات المائلة ليهبط بسرعة نحو الأسفل، فيعود ويصعد مجدَّداً متجاوزاً منحدراً آخر.. وهكذا، لكن بدل السكة المعدنية التي تحمل القطار، تتحرك هذه الطائرة صعوداً وهبوطاً بحذر عبر مسارٍ منحنٍ، مخططٍ له بالتفصيل، بعيداً عن الطائرات الأخرى حفاظاً على السلامة.
وحالما ينقذف جسمك عن مقعدك في هذه الطائرة وترى نفسك مندفعاً نحو قمة المسار المنحني فإنك تجد نفسك في ذات الاندفاع الذي تحس به أثناء تجاوزك قمة المسار بقطار الملاهي، أي أن جسمك سيرتفع في الهواء. وقد تُعتَبَر آنذاك –من الناحية التقنية- في حالة سقوط حر، لكنك في حقيقة الأمر تحوم حول المركبة.
بالإضافة إلى ذلك، تشعر بتزايد الجاذبية لدى وصولك إلى نهاية المسار المنحني بمقدار 1.8 من حجم الجاذبية الأرضية (جاذبية الأرض “الطبيعية” لسطح الكوكب تساوي 1 ج) ، وستشعر بانعدام الجاذبية أو بمحاكاة جاذبية القمر أو المريخ، وذلك بناء على المسار الذي تحلق به الطائرة من بين المسارات ال 15 المتاحة.
إذن كيف هو الشعور أثناء التحليق في هذه الرحلة؟
لنتكلم بشكل مباشر: “إنه شعورٌ لا يماثله أي شعور تخيلتَه من قبل، إنه إحساس لا يمكن توقعه، لكن بمجرد تجربته سيصبح من غير الممكن زواله، فأنا حتى أثناء كتابتي لهذه السطور مازلت أحس بأن رأسي يدور وعقلي يريد أن ينام بسبب تأثير تلك الطائرة”.
لقد رأيت العديد من الفيديوهات لأشخاص يطفون بسبب انعدام الجاذبية على متن طائرة “جي فورس وَن” وظننت أنني كَوّنت فكرة واضحة عما ينتظرني حالما أركب المروحية التي ستصحبنا إلى المطار، لكن ذلك ما زاد التجربة إلا جنوناً وإثارة.
فقد تزايَدَ دقُّ قلبي لدى صعودي إلى الطائرة حتى كدت أشعر أنه سينخلع من صدري، وأنا أترقب متلهفة أن ألقي بنفسي في هذا الأتون المثير، وغالَبَ حماسي الشديد لتحقيق هذه الأمنية شيء من التوتر من أن تتسبب لي هذه الرحلة بالغثيان (وقد كنا نحمل أكياساً مخصصة للتقيؤ الذي قد يصاحب هذه الحالة في جيب خاص ببدلة كل منا تحسباً لحدوث أمر مشابه)، لكني لم أقلق كثيراً بعد أن عرفت أن معظم من مروا بهذه التجربة لم يعانوا من أي مرض أو أعراض مقلقة.
بعد رحلة قصيرة تخللت الأفق باتجاه المكان المناسب للتحليق المنحني، قمنا من مقاعدنا متجهين نحو الجزء الأمامي من القمرة التي تضمنا مع ارتداء القناع (تجذر الإشارة إلى أن شركة زيرو-جي قد أحدثت تغييرات على عملياتها بينها إجراءات احترازية خاصة بفيروس كورونا).
لقد كانت الأرضية والجدران والسقف محشوة وجيدة التغليف لضمان طفو آمن دون حوادث، وتوجه كل منا للبحث عن مكان خاص به وذلك ليستلقي بسبب اقتراب احساسنا بازدياد وزننا الناتج عن تضاعف الجاذبية بمقدار 1.8، وذلك قبل أن نرتفع عابرين المسار المنحني الأول الذي يحاكي الجاذبية على سطح القمر.
لم يكن ازدياد الجاذبية أمراً غير مريح. في الحقيقة، كان إحساسي بأني سأندفع نحو أرضية الطائرة مريحاً، وكأنني ملفوفة بغطاء جاذبي. لكننا بدأنا بالطفو مبتعدين عن الأرض قبل أن يتسنى لي الإحساس بتلك اللحظة.
بعد مشاهدتي لعديد من الفيديوهات لرواد فضاء يطفون في الفضاء، توقعت أن أشعر بأنني أطفو، على نحو ما نألفه من الطفو في حياتنا الاعتيادية، لكن الإحساس وقت التجربة كان نسيج وَحده!
ما أدركته على الفور هو أنني، كإنسانة، يصعب على عقلي التعامل مع الجاذبية الأرضية، وقد اعتدت على جاذبية الأرض طوال السنوات التي عشتها على سطح هذا الكوكب. لذلك، عندما أُخِذتُ بعيدًا وتذوقت طعم الجاذبية القمرية لأول مرة، لم يكن عقلي يعرف ماذا يفعل بها. لقد كان الأمر مدهشًا للغاية وغريبًا بشكل لا يصدق حتى أنني قد أشبهه بتجربة مخدرة.
لقد كنت في الواقع شديدة الارتباك حيث تطلَّب مني الأمر ما يقرب الدقيقة لأتحكم بعيني بغرض القدرة على النظر بشكل مستقيم، فبعد أن وقفت مستقيمة انزلقت ذراعاي فوراً فوق رأسي، فجعلني هذا أدرك أنه في وجود جاذبية أقل فإن مجرد القيام بحركة جد صغيرة قد يتطلب جهداً بدنياً أكبر.
إن تجربة هذا الأمر في الحقيقة لشيء جامح تماماً. لقد استطعت بالكاد التحرك وأنا أنقذف نحو سقف الطائرة المحشو غير واثقة من تلك المشاعر الضخمة التي تندفع بداخلي.
عند اقترابي من فهم ما يدور حولي كنا قد اقتربنا من قعر المسار المنحني، ولقد استلقيت على أرضية القمرة مستعدة للمرحلة التالية لتجربة حالة الجاذبية الزائدة بـ1.8 مرة ثم ما يليها من حالة الجاذبية القمرية.
ما وجدته استثنائيا خلال مرحلة التجربة القمرية هو إدراكي المفاجئ أنني أقرب ما أكون لقفزة الأرنب التي قام بها رواد رحلة أبولو على سطح القمر. وكان الشعور بهذه القفزات والإحساس الذي انتابهم خلال تلك الخطوات الصعبة على سطح القمر أمراً يتجاوز الكلمات لاسيما بالنسبة لشخص ترعرع في انذهال مطلق من بدايات الناسا والرحلات الرائعة التي قام بها كبار روادها.
كصبية مفتونة بعالم ديزني في أيامها الأولى وكثيرة التحديق بقصر سندريلا، خضتُ تجربة الطفو بمجال الجاذبية القمرية، وبعد ذلك بمجال جاذبية مُحاكٍ للمريخ ثم أخيراً بمجال منعدم الجاذبية. بعد أن مررنا عبر قمة المسار المنحني منعدم الجاذبية ارتفعتُ عن الأرض مشدوهة بشكل أربك حواسي على نحو غير مسبوق.
لقد وَجَّهَنا وساعدَنا مدرب الرحلة راي كرونايز Ray Cronise طوال اليوم، وهو كاتب وعالِم، عمل كباحث مساعد في أربع مهمات خاصة بمختبرات الفضاء طيلة 15 سنة أمضاها في وكالة ناسا. وقد قذف نحوي بعد أن اهتزت قدمي عن الأرض كرة مطاطية، استطعتُ أن أراها تطفو غير متأثرة بالجاذبيةُ مجربا السحر المطلق للَّعب بالأشياء في مجال خال من الجاذبية. حاولت الإمساك بهذه الكرة بشكل أخرق فانقلبتُ نحو الخلف رأسا على عقب بكل ما في الكلمة من معنى، محاوِلةً دون أمل ألا أصطدم بالأخرين الذين يبدو أنهم قد تعودوا على ما حدث لي. حاولت جاهدةً أن أستقيم واقفةً مجدداً، مختبرة حركة أطرافي خارج مجال الجاذبية للمرة الأولى على الإطلاق.
بدأتُ في هذه اللحظة أتأثر بحركة الانخفاض والارتفاع التي تقوم بها الطائرة، وبالإدراك الحسي الكلي والمفرط الذي تعرضت له خلال هذه التجربة، شعرت آنذاك بالغثيان، وعندما استلقيت مستعدة للجولة الثانية من انعدام الجاذبية أيقنت أنني أصبحت مريضة جَرّاء كل ما حدث لي أثناء هذه الرحلة. بعد أن بدأت الجاذبية تضغط عليَّ بقوة، ركز ناظري على نقطة محددة آملا أن يؤدي ذلك إلى زوال الشعور بالغثيان.
ثَبّتُّ عينَيَّ بيأس على زر صغير في سقف الطائرة آملة أن تؤدي هذه النظرة المركزة إلى تنظيم الفوضى التي كان دماغي يعمل بانفعال على فهمها. لكن، واحسرتاه، فبعد انعدام الجاذبية وطفوي نحو الأعلى رأيت المدرب كرونايز يطفو نحوي. وكما تعلمون، فبوصفه شخصاً خاض هذه التجربة لمرات عديدة، استطاع إدراك اللحظة التي لم أكن بها على ما يرام، ليرافقني نحو مقعد بمؤخر الطائرة وذلك لألتقط أنفاسي (وكذلك لألتقط …حسناً، أظنك على علم بالتتمة).
للأسف، لم أستطع إعادة الأمور لنصابها، وقد قضيت أنا وزميلي بالرحلة آخر لحظات الرحلة مربوطَين بمقعدين في مؤخرة الطائرة، مُحكِمَين السيطرة على أكياس القيء، بينما كان انعدام الجاذبية أمراً غير سار ومثيراً للاشمئزاز، فقد أخذنا بالموازاة درساً سريعاً وفعالاً حول ديناميكا الموائع، وحول سلوك السوائل عندما تغيب عنها الجاذبية الأرضية.
ولحسن الحظ، فإننا الحالات الوحيدة بكامل الرحلة التي أصيبت بالدوار، ولقد وعدت نفسي بأن لا آخذ أي دواء مضاد للدوار قبل الرحلة (بما في ذلك دواء الدرامامين الذي لا يحتاج لوصفة طبيب). ولذلك، فأنا على الأقل أعرف الخطأ الذي سأقترفه إن حظيتُ مستقبلاً بفرصة أن أطير في مجال منعدِم الجاذبية.
لقد كان الهبوط على الأرض والعودة إلى منزلي أمراً غير هَيّن، سيما أنني كنت أعمل على تهدئة معدتي وإدراك هذه التجربة غير المعقولة التي خضتها اليوم، لكني علمتُ أن الجولة لم تنتهِ بعد، فحالما خلدتُ تلك الليلة للنوم، وجدت نفسي قد نُقِلْتُ فورياً إلى وسط الطائرة، مستلقيةً على أرضية القمرة، وقد ضغط جسدي نحو الأسفل بفعل تأثير الجاذبية المضاعفة بـ 1.8 ضعفاً منتظرة الجولة التالية من انعدام الجاذبية.
كنت أشعر تلك الليلة بثقل الجاذبية المضاعَفة كلما أغلقتُ عينَيّ. إنها أشبه بحال من غَطَّ في النوم بعد أن قضى اليوم بأكمله يطفو في المحيط، حيث أنه ما زال بأمواج البحر المتأرجحة، أما أنا فقد خلدتُ للنوم وأنا أحس بضغط الجاذبية بدل أمواج البحر، ولقد كان زوال هذا الضغط هو ما يسمح لي بالارتفاع مرة تلو الأخرى.