حقوق الصورة: Sandbox Studio, Chicago with Ana Kova
في عام 2011 أعلن العلماء في تجربة OPERA عن ملاحظةٍ لم يتمكنوا من تفسيرها: النيوترينوات التي يبدو أنها تتحرك أسرع من سرعة الضوء.
كانت طرائق تحليلها صلبةً وأعدادها ذات دلالة إحصائية. لكن اعتقدت قلةٌ قليلة من علماء الفيزياء أن هذه النيوترينوات كانت في الواقع تتخطى حدود السرعة القصوى للكون. كتب الفيزيائي النظري مات ستراسلر Matt Strassler عن النتائج التي توصلت إليها التجربة في مدونته ذات الأهمية الخاصة: «لا أتذكر أبدًا إجراء محادثة مع عالِمٍ جادٍ اعتقد أن ذلك من المحتمل أن يكون صحيحًا».
كان العلماء المتشككون على حق: بعد بضعة أشهر من الإعلان، اكتشف العلماء التجريبيون الجُناة: كابل من الألياف الضوئية لم يُثبَّت بشكلٍ صحيح، بالإضافة إلى أخطاء المعايرة في نظام التوقيت الخاص بهم. هدف العلم هو البحث عن الحقيقة من خلال التحليل المحايد. لكن وفقًا للبروفيسور بيتر أونييسي Peter Onyisi بجامعة تكساس في أوستن، يجب على العلماء أيضًا مراعاة العنصر البشري.
يقول أونييسي: «هناك قدرٌ كبير من التفسير البشري في العلوم. نحن نحاول وضع الأشياء في هذه الصورة بقواعد مطلقة لإزالة الحُكم البشري. لكن الحكم البشري مهم جدًا في الواقع». فيما يلي ستة أسئلة يطرحها الفيزيائيون على أنفسهم عند الحُكم على ميزة ومعنى الادعاء العلمي.
1. من أين أتت البيانات؟
في عام 2004 نشر أكاديميون ورقةً علميةً يدرسون فيها خصوبة الإناث، وخلصت إلى أنه بعد عام من المحاولة، لن تتمكن واحدةٌ من كل ثلاث نساء تتراوح أعمارهن بين 35 و39 عامًا من الحمل.
غُطيَّت النتائج على نطاق واسع. لقد دفعوا عالِمة النفس جين توينجي Jean Twenge إلى القلق من أنها ربما فقدت فرصتها في تكوين أسرة، أي إلى أن قرأت الورقة العلمية واكتشفت مصدر بياناتهم: نساء يعشن في ريف فرنسا بين عامي 1670 و1830.
وكتبت توينجي في مقال نُشِر عام 2013 في ذي أتلانتيك: «بعبارةٍ أخرى، تُخبَّر ملايين النساء بموعد الحمل بناءً على إحصائيات من فترة ما قبل الكهرباء أو المضادات الحيوية أو علاج الخصوبة. يفترض معظم الناس أن هذه الأرقام مبنية على دراساتٍ كبيرة جيدة أُجريت على النساء الحديثات، لكنها ليست كذلك».
وفقًا لأونييسي، يوفر مصدر البيانات سياقًا حيويًا للنتائج العلمية، ويقول: «يجب أن تكون بياناتك ممثلةً لما تريد تمثيله».
يمكن أن يؤدي استقراء النتائج من مجموعةٍ سكانيةٍ إلى أخرى إلى مفاهيم خاطئة، أو تطوير أدوات أو علاجات غير فعالةٍ لمجموعاتٍ فرعيةٍ كبيرة من السكان. تعمل العديد من أدوات التعرف على الوجه بشكل جيد مع الوجوه البيضاء على سبيل المثال، لكنها تفشل في التعرف على الأشخاص الملونين.
يقول أونييسي: «إذا درّبت خوارزميات التعلم الآلي الخاصة بك على مجموعةٍ فرعيةٍ محددةٍ من الوجوه التي لا تمثل عموم السكان، فستتعلم أداتك تمييز هذا النوع من الأشخاص، ولكن ليس كل شخص».
ومن جانبهم، يحرص الفيزيائيون بشدة على مراعاة جميع العمليات دون الذرية ذات الصلة عند تطوير محاكاة تصادم مونت كارلو Monte Carlo collision simulations، والتي تعمل بمثابة فحص للبيانات الصادرة عن تجاربهم. قد يؤدي التغاضي عن عملية الخلفية ذات الصلة إلى إساءة تفسير البيانات التجريبية أو فقدان إشاراتٍ فيزيائيةٍ مهمةٍ.
2. كيف جُمِعت البيانات؟ وكيف عوملت؟
حتى لو كان مصدر بيانات الباحثون من مجموعةٍ سكانيةٍ ممثلةٍ، فإنهم ما زالوا يواجهون خطر التأثير عرضيًا على النتائج من خلال عملية إجراء التجربة.
يقول أونيسي Onesi: «من الصعب جدًا القيام بأشياء غير منحازة تمامًا». يحاول الباحثون إزالة التحيز من خلال إجراء دراسات تُخفى فيها بعض المعلومات حتى النهاية. سيُنشئ الفيزيائيون تحليلاتهم باستخدام بيانات محاكاة للتأكد من أن رغبتهم في الاكتشاف لا تؤثر على كيفية استعدادهم للبحث.
يقول ستيفان ويلوك Stefan Willock، الأستاذ في جامعة ماساتشوستس، أمهيرست: «بمجرد تحديد إجراءات التحليل وتوثيقها ومراجعتها والموافقة عليها بالكامل، فإننا “نفتح الصندوق” وننظر إلى منطقة الإشارة لدينا. نحاول تقليل التحيز التجريبي. نريد القضاء عليه تمامًا، لكننا نعلم أنه في نهاية المطاف قد يكون هناك مستوى معين من التحيز».
يتصارع الفيزيائيون دائمًا مع كيفية تفسير التحيزات وبناء تحقيقات واختبارات إضافية في تحليلاتهم. يقول أونيسي: «من المفيد أن يكون لديك شعورٌ كبيرٌ بالشك الذاتي. إنها مزحة صغيرة، لكننا نسأل أنفسنا دائمًا كيف يمكنني ارتكاب هذا الخطأ؟».
3. ما مدى استثنائية البيانات؟
وفقًا لويلوك، فإن كمية البيانات التي يحتاجها العلماء للمطالبة باكتشاف ما مرتبطةٌ ارتباطًا وثيقًا بمدى عدم دحض البيانات. يقول ويلوك: «يمكنك الاكتشاف بحدث واحد. ما يهم هو ما إذا كان من السهل تقليد اكتشافك بشيء آخر».
في عام 2016 اكتشف مرصدُ مقياسِ الليزر للتداخلِ لموجاتِ الجاذبيةِ موجاتِ الجاذبية المنبثقة عن اصطدام ثقبين أسودين. ونظرًا لأنه كان لدى علماء LIGO فهمٌ شاملٌ للطرق التي يمكن بها خداع كاشِفَهم وألغوا تلك الاحتمالات، فيمكنهم المطالبة باكتشاف هذا الحدث الفردي.
لكن ليست كل الإشارات واضحةً مثل موجات الجاذبية التي رصدها LIGO قبل عقدين من الزمان، لاحظت تجربة DAMA ما يمكن أن يكون دليلًا على جسيمات المادة المظلمة -كمية زيادة من النشاط في كاشفها خلال الأشهر التي كانت الأرض من المحتمل أن تتحرك فيها بأسرع ما يمكن عبر سحابة المادة المظلمة في مجرتنا. استمرت DAMA في رؤية هذه الإشارة حتى يومنا هذا. ولكن نظرًا لأنه يمكن للعلماء التفكير في أسباب للإشارة بخلاف المادة المظلمة، فإن معظمهم ينتظرون شكلًا آخر من أشكال التأكيد قبل قبول تفسير المادة المظلمة لنتائج DAMA .
وفقًا لويلوك، فإن التخلص من جميع الاحتمالات الأخرى هو المكان الذي يأتي فيه العمل الحقيقي. كما يقول: «أنت بحاجة إلى أن تكون أدواتك التجريبية حادةً بما يكفي لتمييز الإشارة عن الخلفية. وتحتاج أيضًا إلى أن تسأل، هل الأدوات مناسبة للسؤال الذي تحاول الإجابة عليه؟».
4. هل النتائج ذات دلالة إحصائية؟
في عام 2016 شهدت تجارب ATLAS وCMS شيئًا غير متوقع: نتوء في بياناتهم التجريبية حول 750 GeV. قفز المجتمع النظري إلى هذه النتائج المحيرة ونشر نحو 500 ورقة بحثية تتكهن فيما إذا كان هذا النتوء هو أول دليل على وجود جسيمٍ جديد. خلال الأشهر القليلة التالية، ضاعفت كلتا التجربتين مجموعات البيانات أربع مرات، واختفى النتوء.
يقول أونييسي: «عندما نتعامل مع حوادث التردد المنخفض، يمكننا أن نرى تقلبات مثيرة للدهشة، لكن هذا لا يعني أننا نرى شيئًا جديدًا».
على سبيل المثال، قد يستشهد رئيس البلدية بزيادةٍ قدرها 7% في السرقات كدليل على موجة جديدة من الجرائم. يقول أونيسي: «ولكن إذا كانت هذه الزيادة من 100 إلى 107 -من الناحية الإحصائية- فهذا هو مقدار التباين الذي يمكننا توقعه من عام إلى آخر».
يستخدم العلماء التحليل الإحصائي لتحديد الفرق بين التباين الطبيعي في عملية طبيعية والتأثير الذي لا يمكن إنكاره لشيء جديد. يقول أونييسي: «عدم اليقين الإحصائي مفهوم جيدًا. هناك مجموعة رائعة جدًا من النظريات الرياضية وراء ذلك. يمكنك بسهولة حساب عدد المرات التي يجب أن ترى فيها نتيجة معينة لمجرد الصدفة».
لن يدِّعي الفيزيائيون اكتشافًا جديدًا حتى يجتازوا شيئًا يُسمّى عتبة 5 سيجما: أي أن احتمالات أن إشاراتهم ناتجةٌ عن تقلباتٍ إحصائيةٍ عاديةٍ (وليس شيئًا جديدًا) هي 1 إلى 3.5 مليون. (كان معدل 750 GeV الذي رآه العلماء نحو 2.1 سيجما فقط، واتضح أنه مجرد تقلب إحصائي سيئ الحظ من بين كل 50 تقلبًا إحصائيًا).
5. ما مدى أهمية الأهمية؟
لكن الدلالة الإحصائية ليست نهاية كل شيء، بل كل الاكتشافات العلمية. يقول أونيسي: «يميل الناس إلى الخلط بين الدلالة الإحصائية وأهمية العالَم الحقيقي». كانت نتيجة «النيوترينوات الأسرع من الضوء» ذات دلالة إحصائية تبلغ 6 سيجما. كان من غير المرجح أن يكون هذا تقلبًا إحصائيًا، ولكن من غير المحتمل أيضًا أن يثبت خطأ أينشتاين.
يتصارع مجتمع الفيزياء دائمًا مع كيفية تفسير نتائجهم المهمة إحصائيًا. على سبيل المثال، العلماء واثقون للغاية في قياساتهم العديدة ذات الدلالة الإحصائية لبوزون هيجز. لكن ما لا يمكنهم استبعاده حتى الآن هو النماذج التي توسع النموذج القياسي وتسمح بتكوين هيجز المركب – أي بوزون هيجز الذي هو في الواقع جسيم مركب مصنوع من أجزاء مكونة أصغر. يقول أونيسي: «حتى عندما يكون هناك شيء مهم إحصائيًا، يمكن أن تختلف التفسيرات. تُصفّى معرفتنا المتراكمة للعلوم من خلال كل هذه التجارب والخلافات السابقة. لم نصل إلا إلى توافق في الآراء بعد استبعاد جميع التفسيرات البديلة».
6. هل أُكِّدت النتائج من خلال تجربة مستقلة؟
حتى أكثر العلماء التجريبيين صرامةً يمكن أن يخطئوا، وهذا هو السبب في أن التأكيد المستقل هو المفتاح. يقول ويلوك: «بصفتنا فيزيائيين، نحن حذرون جدًا ونتفهم قيود العملية التجريبية. هناك دائمًا عدم يقين وافتراضات، ونريد أن نرى مزيدًا من الدراسات قبل الإدلاء ببيانات نهائية».
على الرغم من أنه كان واضحًا أن نتائج LIGO شكلت اكتشافًا لموجات الجاذبية، فإن هذا الوضوح كان سيصبح موضع شك إذا لم يشاهد مرصدُ فيرجو لموجات الجاذبية في إيطاليا أيضًا موجاتَ الجاذبيةِ عند تشغيله.
يُعدّ التأكيد المستقل مهمًا جدًا لدرجة أن برنامج بحث LHC يحتوي على تجربتين متشابهتين ATLAS و CMSتستكشف كلاهما بعض الظواهر نفسها. تُعدّ التجربتان بمثابة عمليات تحقق مستقلة لنتائج بعضهما البعض بفضل تصميماتهما التجريبية الفريدة. بعد وقت قصير من بدء تشغيل المصادم الهادروني الكبيرLHC، عملت كلتا التجربتين على عمليات بحث مستقلة عن بوزون هيجز. في عام 2012 قدمت التجربتان دليلًا مستقلًا على بوزون جديد يشبه هيجز.
وفقًا لويلوك، فإن الاكتشاف الرئيسي الجديد ليس المكان الذي تنتهي فيه عملية البحث العلمي، ولكن حيث يبدأ الفصل التالي. ويقول: «لم نغلق الكتاب على بوزون هيجز. في الواقع العكس تمامًا؛ من المحتمل أن يكون بوزون هيجز هو الجسيم الأكثر إثارةً بالنسبة لنا لدراسته على مدى العقود القليلة القادمة. إنه يختلف تمامًا عن أي شيء آخر اكتُشِف حتى الآن، ومنطقة استكشاف غنية جدًا».