رسم تخطيطي يوضح نظامنا الشمسي (الأحجام والمسافات غير خاضعة لمقياس الرسم). (حقوق الصورة: © NASA / JPL-Caltech)
إنها حكايةٌ مليئةٌ بالعديد من الالتواءات والمنعطفات وبعض العنف.
إلى هذا اللحظة، بعد مرور 4.5 مليار سنة من نشأة شمسنا ومجموعة الكواكب والأجسام الصغيرة التي تدور حولها. كيف تشكلت كل هذه الكواكب، ولماذا انتهى بها المطاف بتشكيل تلك المدارات؟
تُشكّل عملية تكوين النظام الشمسي لغزًا صعبًا لعلم الفلك الحديث، وقصةً رائعةً عن القوى الخارقة التي تعمل على مدى فتراتٍ زمنيةٍ هائلة. دعونا نبحر في هذا اللغز.
سديم ما قبل الشمس
لا يسعني إلا أن أبدأ بالقول: “في البداية، لم يكن هناك شيء”. لكن ليس تمامًا؛ تتشكل جميع النجوم من انهيار السدم، وهي كتلةٌ سحابيةٌ تتكون من الغاز والغبار، وينطبق هذا على شمسنا ونظامنا الشمس. يطلق عليه علماء الفلك اسم “سديم ما قبل الشمس pre-solar nebula“، بالطبع لم يعد موجودًا اليوم، لكننا رأينا عددًا كافيًا من الأنظمة الشمسية المتشكّلة في جميع أنحاء المجرة لأخذ فكرةٍ عامةٍ عنه.
لكن السديم بذاته لن ينهار ويتحول إلى نظامٍ شمسيٍّ دون وجود شيءٍ ما يحفزه. في حالتنا، كان المحرك هو انفجار مستعر أعظم supernova قريب، إذ اخترقت موجته الصدمية سديم ما قبل الشمس، ما تسبب في بدء عملية انكماشه. يمكننا معرفة أن هذا المستعر الأعظم قد انفجر في مكانٍ قريبٍ، لأن انفجارات المستعر الأعظم تطلق كمياتٍ كبيرةً من بعض العناصر المشعة -عناصر لا توجد عادةً داخل السدم- ولكن يمكننا رؤيتها في نظامنا الشمسي اليوم.
إن عملية تحول السديم إلى نظام شمسي لا رجوع فيها. على مدار ملايين السنين، تقلص السديم وبرد، ووصل في النهاية إلى النقطة التي كانت فيها الشمس الأولية محاطةً بقرصٍ رفيعٍ سريع الدوران مكوَّنٍ من الغاز والغبار، وبعدها بدأت المتعة.
تشكل الكواكب
لم تكن شمسنا ساطعةً قبل 4.5 مليار سنة كما هي اليوم، فقد كانت مضغوطةً وساخنةً جدًا، لكنها لم تصل إلى الكثافة الحرجة ودرجات الحرارة اللازمة للحفاظ على الاندماج النووي في جوهرها.
ولكن بدأ تشكَّل الكواكب على نحوٍ بطيء، بينما كانت لا تزال الشمس في هذه المرحلة الجنينية.
كانت الحرارة والضوء بالقرب من الشمس الفتية شديدين للغاية، بحيث لا تُبقي إلا المواد الصخرية، تبخر الجليد وتناثر الغاز الطليق مثل الهيدروجين والهيليوم في الأرجاء، أما القطع الصخرية المتبقية فقد اندمجت ببطءٍ، لتلتصق ببعضها البعض وتشكّل كتلًا أكبر.
شكّلت تلك الكتل الصغيرة مع مرور الوقت -ودائمًا ما يكون للكون الوقت الكافي لأي شيء- بلانيتسمالز Planetesimals، أي شبه كواكب مصغرة،. كان هناك الكثير منها، وكان نظامنا الشمسي في تلك الفترة الزمنية عنيفًا جدًا، إذ اصطدمت هذه الكواكب المصغرة بعضها ببعضٍ، وتحطمت وأُعيد تشكيلها مراتٍ عديدة. صُدمت أرضنا بجرمٍ يقارب حجمه حجم المريخ، وشكّل الحطام الناتج عن هذا الاصطدام قمر الأرض.
بعيدًا عمّا سيصبح لاحقًا حزام الكويكبات، اتخذ تكوين الكواكب نهجًا مختلفًا؛ كان الجو باردًا بما يكفي لبقاء الجليد، ما سمح لأنوية الكواكب بالنمو إلى أحجامٍ هائلةٍ في فترةٍ زمنيةٍ قصيرةٍ، وأصبحت هذه الأنوية الكبيرة قادرةً على ابتلاع أي مادةٍ محيطةٍ بها، مثل الهيدروجين والهليوم، وعملت على تغطية تلك الكواكب بغلافٍ جويٍّ كثيفٍ ومحيطيٍّ. هكذا ولدت الكواكب العملاقة.
القصف الشديد المتأخر
لم يهدأ النظام الشمسي بمجرد نضوج الكواكب؛ استقرت الكواكب الصخرية الداخلية، واشتعلت الشمس بفعل الاندماج النووي، لكن الكواكب الخارجية العملاقة كانت محاطةً بأسرابٍ من بقايا الحطام المتخلف عن عملية بناء الكوكب الفوضوية، وبدأت بالحركة.
يعتقد علماء الفلك أن الكواكب الأربعة العملاقة في نظامنا الشمسي -المشتري وزحل وأورانوس ونبتون- كانت في بداية تشكلها أقرب بكثير من بعضها بعضًا ممّا هي عليه اليوم، وتسبب تصادمها مع الحطام المتبقي المحيط بها في تغيير مداراتها. استغرق تشكيل نظامنا الشمسي مئات الملايين من السنين، ولسنا متأكدين تمامًا من كيفية تشكّله بالكامل.
هاجر كل من كوكب المشتري وزحل في أحد السيناريوهات نحو الشمس، ما تسبب في انجراف أورانوس ونبتون إلى الخارج، وفي سيناريو آخر، لعبت كواكب نظامنا الشمسي الخارجي لعبة جاذبية مثل لعبة “البطاطا الساخنة” مع كوكبٍ عملاقٍ خامسٍ إضافيٍّ طُرِد في النهاية، وفي سيناريو آخر، تجول كوكب المشتري بالقرب من مدار كوكب المريخ ثم قفز مرةً أخرى، ما أدى إلى زعزعة المدارات الهادئة للكواكب الخارجية المتبقية.
أحدثت إعادة الخلط الأخيرة هذه فوضى في النظام الشمسي، بغض النظر عن السبب. يعتقد علماء الفلك أن الكواكب الخارجية المهاجرة أدت إلى ظهور حقبةٍ تُسمّى القصف الشديد المتأخر late heavy bombardment، وهي فترة من الاصطدامات الشديدة للمذنبات والكويكبات في النظام الشمسي الداخلي منذ نحو 4 مليارات سنة. تسبَبَ تحرك الكواكب العملاقة في إرباك جميع المواد المتبقية في النظام الشمسي، إما بإرسالها إلى بر الأمان في الضواحي المتجمدة أو دفعها نحو الداخل، ما أدى إلى إحداث مشاكل للكواكب الصخرية.
لم يكن الأمر سيئًا على الرغم من كل هذا العنف؛ أوصلَ زحف موكب المذنبات باتجاه النظام الشمسي الداخلي كميةً وفيرةً من المياه إلى الكواكب الصخرية، ما جعل الحياة، بما في ذلك حياتنا، ممكنةً في النهاية، بالطبع، بعد استقرار نظامنا الشمسي.