حقوق الصورة: Sandbox Studio, Chicago
فيزياء الجسيمات رقصةٌ بين النظرية والتجربة.
تتذكر ميناكشي نارين (Meenakshi Narain)، أستاذة الفيزياء في جامعة براون، أنها عملت على تجربة DZero في مختبرمعجل فيرمي القومي (Fermi National Accelerator Laboratory) بالقرب من شيكاغو في شتاء عام 1994. كانت تجلب البطانيات إلى مكتبها في الطابق الخامس للتدفئة وهي جالسة على جهاز الكمبيوتر الخاص بها تتصفح البيانات بحثًا عن الكوارك القمي (Top quark) غير المكتشف آنذاك.
ولمدة لأسابيع كانت مجموعتها تعمل على فك شفرة بعض الخلفية الإضافية التي لم تُحسَب في الأصل، وكانت استنتاجاتهم تتناقض مع افتراضاتهم الأصلية.
تحدثت نارين التي كانت باحثة ما بعد الدكتوراه في ذلك الوقت إلى مشرفها حول مشاركة نتائج المجموعة، وأخبرها أنها إذا اتبعت المنهج العلمي وكانت واثقةً من نتيجتها، فعليها نشر هذه النتائج.
تقول نارين: «كان لدي تسلسل كامل من المنطق والتفسير، وعندما قدمته أتذكر أن الجميع كانوا داعمين للغاية. كنت أتوقع بعض التراجع أو بعض الانتقادات ولم يحدث شيءٌ من هذا القبيل».
هذه -كما تقول- هي العملية العلمية: العديد من الخطوات المصممة لمساعدتنا في استكشاف العالَم الذي نعيش فيه.
وتتابع قائلةً: «في النهاية تفوز العملية العلمية. لا يتعلق الأمر بك أو بي؛ لأننا جميعًا نلاحق نفس الشيء. نريد اكتشاف هذا الجسيم أو الظاهرة أو أي شيء آخر موجود بشكل تعاوني. هذا هو الهدف».
كان تحليل مجموعة نارين ضروريًا لفهم المجموعة للإشارة التي تحولت إلى الكوارك القمي صعب المنال.
الفرضية الحديثة
يقول جوزيف إنكانديلا (Joseph Incandela) نائب رئيس الأبحاث في جامعة كاليفورنيا، سانتا باربرا: «لم تُختَرع الطريقة العلمية بين عشيةٍ وضحاها. اعتاد الناس التفكير بشكل مختلف تمامًا. ظنوا أنه إذا كان جميلًا فلا بد أن يكون صحيحًا. لقد استغرق الأمر عدة قرون حتى يدرك الناس أن هذه هي الطريقة التي يجب أن تتعامل بها مع اكتساب المعرفة الحقيقية التي يمكنك التحقق منها».
بالنسبة لعلماء فيزياء الجسيمات كما يقول روبرت كان (Robert Cahn) كبير العلماء في مختبر لورانس بيركلي الوطني، فإن الطريقة العلمية لا تنتقل كثيرًا من الفرضية إلى الاستنتاج، بل بالأحرى هي الاستكشاف الذي نقيس فيه بأكبر قدر ممكن من الدقة مجموعة متنوعة من الكميات التي نأمل أن تكشف شيئًا جديدًا.
ويقول: «نبني مسرّعًا كبيرًا وقد يكون لدينا بعض الأفكار عما قد نكتشفه، لكن الأمر ليس كما لو قلنا هذه هي الفرضية وسنقوم بإثباتها أو دحضها؛ إذا كانت هناك طريقة علمية، فهي شيء أوسع من ذلك بكثير».
يقول كريس كويج (Chris Quigg) العالِم الفخري/المتقاعد المتميز في معمل فيرمي إن البحث العلمي هو أكثر من مجرد محادثة مستمرة بين العلماء النظريين والتجريبيين.
يقول: «يقضي العلماء النظريون على وجه الخصوص الكثير من الوقت في سرد القصص، أو اختلاق الأفكار، أو تفصيل الأفكار حول كيفية حدوث شيء ما. هناك تطور في أفكارنا عندما ننخرط في حوار مع التجارب».
ويضيف أن جزءًا مهمًا من العملية هو أن العلماء مدربون على عدم تصديق قصصهم حتى يحصلوا على دعم تجريبي.
يقول كويج: «غالبًا ما نتردد في أخذ أفكارنا على محمل الجد لأننا تعلمنا التفكير في الأفكار على أنها مؤقتة. من الجيد جدًا أن تكون مترددًا وأن يكون لديك شك، وإلا فستعتقد أنك تعرف كل الإجابات، ومن ثّمَّ يجب أن تفعل شيئًا آخر!»
ويقول روبرت كان : «من الجيد أيضًا أن تكون مؤقتة لأن في بعض الأحيان نرى شيئًا يبدو محيرًا كاكتشاف عظيم ثم يتبين أنه ليس كذلك».
في نهاية عام 2015 ظهرت تلميحات في بيانات تجربتين لأهداف عامة في مصادم الهادرون الكبير LHC أن العلماء عثروا على جسيم يبلغ حجمه 750 مرة كتلة البروتون. دفعت التلميحات إلى أكثر من 500 ورقة علمية، حاول كل منها سرد القصة وراء النتوء في البيانات.
قال كويج: «صحيح أنك إذا كنت تريد تقليل إهدار وقتك إلى الحد الأدنى، فسوف تتجاهل كل هذه التلميحات حتى تصل إلى [عتبة عدم اليقين التقليدية] 5 سيجما، ولكن من الصحيح أيضًا أنه طالما أنها ليست ضعيفة تمامًا، لطالما أنها تبدو صحيحة، فيمكن أن تكون تمرينًا يوسع العقل».
يقول كويج في حالة عثرة 750-GeV، يمكنك سرد قصة قد يوجد فيها مثل هذا الشيء ولا يتعارض مع الأشياء الأخرى التي عرفناها.
ويتابع: «من المفيد تحويل الأمر من مجرد ملاحظة غير متصلة إلى شيء مرتبط بكل شيء آخر. هذه حقًا إحدى أجمل النظريات العلمية، وعلى وجه التحديد الحالة الحالية لفيزياء الجسيمات. ترتبط كل ملاحظة جديدة بكل شيء آخر نعرفه بما في ذلك جميع الملاحظات القديمة. من المهم أن يكون لدينا ما يكفي من شبكة الملاحظة والتفسير بحيث يكون لأي شيء جديد معنى في سياق الأشياء الأخرى».
بعد جمع المزيد من البيانات، استبعد الفيزيائيون في النهاية التلميحات، وانتقل العلماء النظريون إلى أفكارٍ أخرى.
أهمية عدم اليقين
لكن في بعض الأحيان تجعل الفكرةُ أبعد من ذلك. يتضمن الكثير من العمل الذي وضعه العلماء لنشر نتيجة علمية معرفة مدى معرفتهم بها جيدًا: ما هو عدم اليقين؟ وكيف يمكننا تحديده كميًا؟
يقول كان: «إذا كانت هناك أي سمة مميزة للطريقة العلمية في فيزياء الجسيمات وفي المجالات وثيقة الصلة مثل علم الكونيات، فإن نتائجنا تأتي دائمًا مع شريط/نسبة خطأ. النتيجة التي ليس لها شك مرتبط بها ليس لها قيمة».
في تجربة فيزياء الجسيمات، يأتي بعض عدم اليقين من الخلفية مثل البيانات التي توصلت إليها مجموعة نارين والتي تحاكي نوع الإشارة التي كانوا يبحثون عنها من الكوارك القمي.
وهذا ما يسمى عدم اليقين المنهجي والذي يُقدّم عادةً من خلال جوانب التجربة التي لا يمكن معرفتها تمامًا.
يقول هيليو تاكاي (Helio Takai) الفيزيائي في مختبر بروكهافن الوطني: «عندما تبني كاشفًا، يجب أن تتأكد من أنه مهما كانت الإشارة التي ستراها، فلا توجد احتمالية كبيرة لخلطها مع الخلفية. صُمِّمت جميع العناصر وأجهزة الاستشعار والإلكترونيات مع أخذ ذلك في الاعتبار. عليك استخدام معرفتك السابقة من جميع التجارب التي تمت من قبل».
الدراسة الدقيقة لأوجه عدم اليقين المنهجية هي أفضل طريقة للقضاء على التحيز والحصول على نتائج موثوقة.
يقول نارين: «إذا كنت تقلل من شأن عدم اليقين المنهجي لديك، فيمكنك المبالغة في تقدير أهمية الإشارة. لكن إذا بالغت في تقدير عدم اليقين المنهجي، فيمكنك أن تقتل إشارتك. لذا فأنت تسير بالفعل على الخط السليم في فهم أين قد تكون المشكلات. هناك طرق مختلفة يمكن أن تخدعك بها البيانات. إن محاولة إدراك هذه الطرق هو فن بحد ذاته، ويحدد حقًا عملية التفكير».
يجب أن يفكر الفيزيائيون أيضًا في عدم اليقين الإحصائي الذي -على عكس عدم اليقين المنهجي- هو ببساطة نتيجة وجود كمية محدودة من البيانات.
يقول تاكاي: «لكل قياس نقوم به، هناك احتمال أن يكون القياس قياسًا خاطئًا فقط بسبب كل الأحداث التي تحدث عشوائيًا أثناء قيامنا بالتجربة. في فيزياء الجسيمات، أنت تنتج العديد من الجسيمات، لذلك قد تتآمر الكثير من هذه الجسيمات وتجعلها تبدو وكأنها الحدث الذي تبحث عنه».
يمكنك التفكير في الأمر على أنه وضع يدك داخل حقيبة M&Ms، كما يقول تاكاي. إذا كانت أولى عمليات M&Ms التي اخترتها بُّنية اللون ولم تكن تعلم بوجود ألوان أخرى، فستعتقد أن الحقيبة بأكملها كانت بُّنية اللون. لن يكون الأمر كذلك حتى سحبت أخيرًا M&M زرقاء حتى أدركت أن الحقيبة بها أكثر من لون واحد.
يريد علماء فيزياء الجسيمات عمومًا أن يكون لنتائجهم دلالة إحصائية تقابل 5 سيغما على الأقل -وهو مقياس يعني أن هناك فرصة بنسبة 0.00003 في المائة فقط لتقلب إحصائي يعطي فائضًا كبيرًا أو أكبر من الذي لوحظ.
الطريقة العلمية في العمل
أُعلِن عن أحد أحدث الأمثلة المذهلة للطريقة العلمية -دراسة متأنية لأوجه عدم اليقين الإحصائية والمنهجية معًا- في عام 2012 في نفس توقيت إعلان المتحدثين باسم تجارب ATLAS و CMS في LHC عن اكتشاف بوزون هيجز.
أدى أكثر من نصف قرن من النظرية والتجريب إلى تلك اللحظة. جمعت التجاربُ من الخمسينيات فصاعدًا ثروةً من المعلومات حول تفاعلات الجسيمات، لكن التفاعلات كانت مفهومةً جزئيًا فقط، ويبدو أنها جاءت من مصادر غير متصلة.
يقول إنكانديلا (Incandela) الذي كان المتحدث باسم تجربة CMS أثناء اكتشاف مجال هيجز: «لكن وجد علماء الفيزياء النظرية اللامعون طريقةً لعمل نموذجٍ واحدٍ يمنحهم وصفًا جيدًا لجميع الظواهر المعروفة. لم يكن مضمونًا وجود مجال هيجز. كان مضمونًا فقط أن هذا النموذج يعمل مع كل ما نقوم به وشاهدناه بالفعل، واحتجنا إلى معرفة ما إذا كان هناك حقًا بوزون يمكننا العثور عليه، والذي يمكن أن يخبرنا في الواقع أن هذا المجالَ موجود».
أدى ذلك إلى بذل جهود على مدى جيل طويل لبناء معجل يصل إلى الطاقات العالية للغاية اللازمة لإنتاج بوزون هيجز -وهو جسيم مولود من حقل هيجز- ثم كاشفين عملاقين يمكنهما اكتشاف بوزون هيغز إذا ظهر.
سيسمح بناء كاشفين مختلفين للعلماء بمراجعة عملهم مرة أخرى. إذا ظهرت إشارة متطابقة في تجربتين منفصلتين أجرتهما مجموعتان منفصلتان من الفيزيائيين، فمن المحتمل جدًا أن تكون إشارة حقيقية.
يقول إنكانديلا: «لقد رأيت هناك تطبيقًا رائعًا حقًا للطريقة العلمية إذ أكدنا شيئًا كان من الصعب للغاية تأكيده، لكننا فعلناه جيدًا بشكل لا يصدق مع الكثير من إجراءات الأمان والكثير من الأساليب التجريبية المتميزة. كانت الطريقة العلمية متأصلة بعمق في كل ما فعلناه إلى أقصى حد. وهكذا علمنا عندما رأينا هذه الأشياء أنها حقيقية، وكان علينا أن نأخذها على محمل الجد».
ويُكمل قائلًا: إن الطريقة العلمية راسخة لدرجة أن العلماء لا يتحدثون عنها كثيرًا بالاسم بعد الآن، ولكن تنفيذها هو ما يميز العلماء العظماء عن العلماء العاديين عن العلماء الفقراء. يتطلب الأمر الكثير من التدقيق والفهم العميق لما تفعله.