تصوير فنيّ لمجرة. (حقوق الصورة: iStock/Getty Images Plus)

استخدمَ العلماء بقايا أحفوريّة خلَّفها الانفجار العظيم، لإجراء اكتشافٍ غير مسبوق للمادة المظلمة.

اكتشفَ العلماء مادة مظلمة حول المجرات، والتي كانت موجودة منذ حوالي 12 مليار سنة، وهو أول اكتشاف حتى الآن لهذه المادة الغامضة، التي تُهيمن على الكون.

تشيرُ النتائج التي جرى التوصّل إليها من خلال تعاونٍ بقيادة باحثين من جامعة ناغويا اليابانية، إلى أن المادة المظلمة في مراحل الكون الأولية أقلُّ “تكتلاً” مما تنبأت به العديد من النماذج الكونية الحالية.

إن أكّد المزيد من العمل هذه النظرية، فقد يغير هذا فهم العلماء لكيفية تطور المجرات، ويقترح أن القواعد الجوهرية التي تحكم الكون يمكن أن تكون مختلفة عندما كان عمر الكون البالغ 13.7 مليار سنة… 1.7 مليار سنة فقط.

إن المفتاح لرسم خرائط للمادة المظلمة في الكون البدائي جداً هو إشعاع الخلفية الكونية الميكروي (CMB)، وهو نوع من الإشعاع الأحفوري المُتبقي من الانفجار العظيم، المُنتشر في جميع أنحاء الكون.

قال البروفيسور في جامعة طوكيو ماسامي أوشي في بيان له: “إن رصد المادة المظلمة حول المجرات البعيدة كان فكرة مجنونة، لم يعتقد أحد أنه يمكننا القيام بها، ولكن بعد أن ألقيت حديثاً عن عينة لمجرةٍ كبيرةٍ بعيدة، جاءني هيروناو وقال أنه قد يكون من الممكن تفحُّص المادة المظلمة حول هذه المجرات باستخدام CMB“.

نظراً لأن الضوء يستغرق وقتاً محدوداً للانتقال من الأجسام البعيدة إلى الأرض، يرى علماء الفلك المجرات الأخرى كما كانت موجودة عندما تركها الضوء المرصود.

كلما كانت المجرة أبعد، فإن الضوء يصل إلينا في فترة أطول، ولذلك فإننا نرى المجرات الأبعد كما لو كانت منذ مليارات السنين في بدايات الكون.

إن رصد المادة المظلمة هو عملية شائكة، حيث أن المادة المظلمة هي المادة الغامضة التي تشكل حوالي 85% من الكتلة الكليّة للكون، ولا تتفاعل مع المادة والضوء كما تفعل المادة اليومية المصنوعة من البروتونات والنيوترونات التي تملأ النجوم والكواكب وتملؤنا.

اكتشاف المادة المظلمة “العتيقة”

من أجل “رصد” المادة المظلمة، يجب على الفلكيين الاعتماد على تفاعلها مع الجاذبية.

وفقاً لنظرية النسبية الخاصة بأينشتاين، فإن الأجسام ذات الكتلة الهائلة تسبب انحناء الزمان المكاني.

المثال التشبيهي الشائع لتقريب ذلك هو صفيحة مطاطية قابلة للتمدد، تحتوي على كرات ذات كتلة متزايدة، كلما زادت الكتلة، زاد “الانحناء” الذي تسببه في الورقة، وبالمثل، كلما زاد حجم الجسم الكوني، زاد انحناء الزمان المكاني الذي يسببه.

تتسبب الأجسام الضخمة مثل المجرات في انحناء الزمان المكاني بشدة، بحيث ينحرف الضوء القادم من مصادر خلف المجرة، تماماً كما ينحرف مسار الرخام المتدحرج عبر الصفيحة المطاطية المُمتدة.

هذا التأثير يغيّر موقع مصدر الضوء في السماء، وهي ظاهرة تسمى عدسة الجاذبية.

لدراسة توزيع المادة المظلمة في مجرة ما، يمكن لعلماء الفلك رصد كيفية تغير الضوء من مصدر خلف تلك المجرة أثناء مروره بما يُسمى “مجرة العدسة”، وكلما زادت المادة المظلمة في مجرة العدسة، زاد تشوّه الضوء الذي يمر بها، ولكن هناك حدوداً لهذه النظرية.

نظراً لأن المجرات الأولى والأكثر بُعداً خافتةٌ جداً، وأن علماء الفلك يراقبون الكون بشكل أعمق ويعودون بالزمن إلى الوراء، فإن تأثير العدسة أصبح أكثر دقة وتصعب رؤيته ما يحوج العلماء إلى الكثير من مصادر الخلفية والكثير من المجرات المبكرة لتحدد العدسة بالمادة المظلمة، حدّت هذه المشكلة من رسم خرائط توزيع المادة المظلمة على المجرات التي يتراوح عمرها بين 8 و10 مليارات سنة.

يوفّر إشعاع CMB مصدر ضوء أقدم من أي مجرة أخرى، إن إشعاع CMB هو إشعاع منتشر في كل مكان، حيث نشأ عندما تَبرّد الكون بما يكفي للسماح للذرات بالتشكّل، مما قلّل من عدد الإلكترونات الحرة المُشتتِة للفوتون في لحظة يطلق عليها علماء الكون “التشتّت الأخير”.

يمكن أن تحرف المجرات ذات المادة المظلمة إشعاع CMB بسبب عدسة الجاذبية، تماماً كما يفعل الضوء القادم من مجرات بعيدة.

قال البروفيسور المساعد بجامعة طوكيو يويتشي هاريكان في البيان: “يستخدم معظم الباحثين مجرات المصدر لقياس توزيع المادة المظلمة من الوقت الحاضر إلى 8 مليارات سنة مضت، ومع ذلك، فقد تمكنا من النظر إلى الماضي أكثر، لأننا استخدمنا إشعاع CMB الأبعد لقياس المادة المظلمة”.

قام الفريق بدمج تشوهات العدسة لعينة كبيرة من المجرات القديمة مع تلك الموجودة في الـCMB لاكتشاف المادة المظلمة التي يعود تاريخها إلى عمر الكون عندما كان 1.7 مليار سنة فقط، وهذه المادة المظلمة القديمة ترسم صورة كونية مختلفة تماماً.

قال هاريكان: “لأول مرة، كنا نقيس المادة المظلمة منذ اللحظات الأولى للكون تقريباً، قبل 12 مليار سنة، كانت الأمور مختلفة للغاية، تُرى مجرات في طور التكوين أكثر مما هي عليه في الوقت الحاضر، العناقيد المجريّة الأولى قد بدأت بالتشكل أيضاً”.

يمكن أن تشكّل الجاذبية تلك العناقيد أو المجموعات المجرية التي تتراوح بين 100 و1000 مجرة مرتبطة بكمياتٍ كبيرةٍ من المادة المظلمة.

هل المادة المظلمة متكتلة؟

أحد أهم جوانب نتائج الفريق هو احتمالية أن تكون المادة المظلمة أقل تكتلاً في بداية الكون مما تشير إليه العديد من النماذج الحالية.

على سبيل المثال، يشير نموذج Lambda-CDM المقبول على نطاق واسع، إلى أن التقلبات الصغيرة في الـCMB كان يجب أن تؤدي بالجاذبية لخلق ثغرات كثيفة التعبئة من المادة، تؤدي هذه التقلبات في النهاية إلى انهيار المادة لتشكيل المجرات والنجوم والكواكب، ويجب أن تؤدي أيضاً إلى ثغرات كثيفة من المادة المظلمة.

قال هاريكان “لا يزالُ اكتشافنا غير مؤكّد، ولكن إن كان هذا صحيحاً، فقد يشير ذلك إلى أن النموذج بأكمله يوجد به عيب مع العودة إلى الوراء، سيكون هذا اكتشافاً لافتاً للاهتمام، لأنه لو استمرت النتيجة هكذا بعد تقليل الشكوك حولها، فقد تؤدي إلى اقتراح لتحسين النموذج الذي قد يقدم نظرة ثاقبة لطبيعة المادة المظلمة نفسها”.

سيواصل الفريق جمع البيانات لتحديد ما إذا كان نموذج Lambda-CD يتوافق مع ملاحظات المادة المظلمة في الكون في بداياته، أو ما إذا كانت الافتراضات الكامنة وراء النموذج بحاجة إلى مراجعة.

نشأت البيانات التي استخدمها الفريق للوصول إلى نتائجهم من مسح Subaru Hyper Suprime-Cam، الذي يحلل البيانات من تلسكوب موجود في هاواي، إلا أن الباحثين استخدموا ثلث هذه البيانات فقط حتى الآن، ما يعني أنه يمكن تحضير خريطة توزيع أفضل للمادة المظلمة من خلال دمج بقية عمليات الرّصد.

يتطلع الفريق أيضاً إلى الحصول على بيانات من المسح القديم للفضاء والزمان (LSST) لمرصد فيرا سي روبن، الذي قد يسمح للباحثين برصد المادة المظلمة مرة أخرى.

قال هاريكان: “سيسمح لنا LSST برصد نصف مساحة السماء، لا أرى أي سبب لعدم تمكننا من رصد توزيع المادة المظلمة قبل 13 مليار سنة”.

نُشر بحث الفريق في 1 أغسطس الماضي في مجلة Physical Review Letters.

nasainarabic.net