في هذه الصورة الفنية، يَظهر ثقبان أسودان، كل منهما مع قرص تراكمي، قبل تصادمهما مباشرة. مع الإعلان الجديد عن إشارات الموجات الثقالية المُسمى GW190521، اكتشفنا أثقل ثقوب سوداء على الإطلاق مُكتشفة باستخدام الموجات الجاذبية، متجاوزةً عتبة 100 كتلة شمسية وكاشفةً عن أول ثقب أسود متوسط الكتلة. حقوق الصورة: MARK MYERS, ARC CENTRE OF EXCELLENCE FOR GRAVITATIONAL WAVE DISCOVERY (OZGRAV)
كل بضعة أشهر ينتشر عنوان جديد في جميع أنحاء العالم مُدَّعياً أنه يُحدث ثورةً في واحدة أو أكثر من أفكارنا العلمية الأكثر رسوخاً، ودائما ما تكون هذه التصريحات كاسحة وثورية بدءاً من «الانفجار العظيم لم يحدث أبداً» إلى «هذه الفكرة تلغي المادة المظلمة والطاقة المظلمة» إلى «الثقوب السوداء ليست حقيقية» إلى «ربما تكون هذه الظاهرة الفلكية الغير متوقعة حدثت بسبب الفضائيين»، ومع ذلك على الرغم من التغطية الرَنَّانة للاقتراحات الجديدة، فإنها غالباً ما تتراخى في الغموض، وتجتذب القليل من الاهتمام السائد بخلاف عدد لا يحصى من عمليات الرفض.
بشكل عام، يُصوَّر أن العلماءَ في هذا المجال بالذات هم دوغمائيون، ومتشبثون بالأفكار القديمة، ومنغلقون على التفكير. قد يكون هذا الأمر شائعاً بين العلماء المتناقضين أو أولئك الذين لديهم معتقدات هامشية، لكنه يرسم صورة خادعة للحقيقة العلمية. في الحقيقة، إن الأدلة الداعمة للنظريات السائدة ساحقة، والمقترحات الجديدة التي تتصدر العناوين الرئيسية ليست أكثر إقناعاً من فرضيات وتجارب العلماء.
فيما يلي نستعرض الأخطاء الأربعة الكبرى التي تحدُثُ عادةً مع الأفكار الجديدة، ولماذا لن تسمع عن معظمها مرة أخرى بعد طرحها لأول مرة.
1. عندما تعمل كل يوم بجدية حقيقة، فحينها يمكنك على الفور اكتشاف عيوب المحتالين
لقد جمَّعنا قدراً هائلاً من المعرفة في العلم – مجموعة من البيانات التجريبية والرصدية – ومجموعة من النظريات التي توفر إطاراً لوصف القواعد الحاكِمة لواقعنا بدقة. كانت العديد من النتائج التي حصلنا عليها في البداية غريبة وغير بديهية مع العديد من الاحتمالات النظرية المقترحة لشرحها. وبمرور الوقت تم تصفيتها من خلال المزيد من التجارب وعمليات الرصد، وكانت أكثر النظريات نجاحاً مع أعلى درجات المصداقية هي تلك التي بقيت حتى النهاية.
تواجه المقترحات التي تحاول إحداث ثورة في واحدة أو أكثر من نظرياتنا المقبولة مجموعةً كبيرة من العقبات التي يجب التغلب عليها، وعلى وجه الخصوص يجب عليها:
– إعادة إنتاج كل نتائج النظرية السائدة،
– شرح ظاهرة بنجاح أكبر مما تستطيع النظرية الحالية،
– تقديم تنبؤات جديدة يمكن اختبارها تختلف عن النظرية التي تحاول أن تحل محلها
في الواقع، من النادر جداً استيفاء جميع هذه المعايير الثلاثة؛ إذ تفشل الغالبية العظمى من هذه المقترحات حتى في النقطة الأولى.
لقد فشلت محاولاتُ تفسير الكونِ دون حدوثِ الانفجار العظيم في تفسيرِ وجود وخصائص إشعاع الخلفية الكونية الميكروي – وهو إشعاع متجانس في كل الاتجاهات معروف منذ أكثر من 55 عاماً. تتجاهل المزاعمُ القائلةُ بأن كواشفِ الموجاتِ التثاقلية تكشفُ ضوضاءً بدلاً من إشاراتٍ مجموعةً كبيرة من الأدلة التي تربط الأحداث المرصودة كهرومغناطيسياً بنظيراتها من الموجات التثاقلية، كما تؤدي فكرة أن الجاذبية قد تنشأ من كيان آخر مثل الإنتروبيا إلى نتائج غير معقولة لمسألة المادة المظلمة، وتفشل في الحفاظ على النسبة الثابتة بالضرورة للمادة المظلمة إلى المادة العادية.
ليس كافياً بالمعايير العلمية اقتراحُ فكرةٍ جامحةٍ تشرح خاصيةً واحدةً تَجِدُ النظريةُ السائدةُ والمقبولةُ حالياً صعوبةً فيها. يمكن دائماً تفسير ملاحظة جديدة أخرى من خلال «معامل حر» جديد، وهي طريقة لطيفة لقول «استدعاء شيء جديد تماماً». إذا كانت هذه الإضافة النظرية الجديدة تفتقر إلى القدرة على تفسير الظواهر الأخرى أيضاً، فمن غير المحتمل أن تكتسب تأييداً قوياً من أي نوع.
2. كثير من الأفكار الجديدة هي عبارة عن إعادة صياغة غير أصلية للأفكار القديمة التي فقدت مصداقيتها ولا تستحق إعادة النظر فيها
معظمنا – إذا كان لدينا أي نوع من الخيال على الإطلاق – لَعِبنا لُعبة «ماذا لو» حول بعض جوانب الواقع في مرحلة ما، وربما تساءلت عن هذا بنفسك وكان لديك أفكارٌ مثل:
– ماذا لو سافرت في خط مستقيم عبر الكون لمسافة طويلة بما يكفي، هل ستعود إلى نقطة البداية؟
– ماذا لو كانت الجسيمات التي نعتقد أنها أولية اليوم مثل الكواركات والإلكترونات والفوتونات وما إلى ذلك هي في الواقع جسيمات مركبة تتكون من مكونات أولية أكثر؟
– ماذا لو كان هناك نوع من الحقول الإضافية الجديدة في الكون التي تتخلل كل الفضاء، وأن هذا هو التفسير وراء ما نطلق عليه حالياً «المادة المظلمة» و«الطاقة المظلمة»؟
كل هذه الأفكارِ أفكارٌ جيدة، وهناك العديد من الأوراق العلمية التي كُتِبت عنها واستكشفتها بتفصيل كبير.
لكن كل واحدة منها لديها صعوبات أدت إلى التخلي عنها، ولم يظهر أي دليل جديدٍ لتفضيلها على النظريات السائدة. على سبيل المثال لا تزال فكرة تمتع الكون بطوبولوجيا غير بديهية مثيرةً للاهتمام، ولكن إذا كان الأمر كذلك، فإن الدليل يوضح أنه مهما كان «حجم» الكون، يجب أن يكون أكبر بكثير من الكون المرصود بأكمله. إذا كان أي من جسيماتنا الأولية عبارة عن جسيمات مركبة، فإنها لا تظهر هذا السلوك في ظل أيٍ من الظروف التجريبية التي تفحصناها على الإطلاق.
وإذا لم تكن هناك مادةٌ مظلمة أو طاقةٌ مظلمة بل تفسير حقلي بدلاً من ذلك، فإن هذا التفسير يتطلب على الأقل اثنين من العوامل المتغيرة الحرة الجديدة: أحدهما «مُتكتل» يتصرف مثل المادة المظلمة، والآخر «سلِس» يتصرف مثل الطاقة المظلمة. لن تكسب أي شيء من عمليات إعادة الصياغة هذه، وفي كثير من الحالات أنت فقط أضفت المزيد من التعقيد لحلّ اللغز بطريقة رديئة. لا يوجد سبب يمنعك من استكشاف هذه السُبل، لكن إذا لم تتمكن من شرح شيء لا تستطيع النظرية السائدة أن تشرحه أو تقليل عدد العوامل الحرة التي تتطلبها نظريتك، فلن تفعل شيئاً أكثر من الافتراض العبثي.
3. إنه من غير العلمي من الأساس البدء باستنتاج ذي دوافع أيدولوجية
هذه واحدة من أخطر الأخطاء التي يمكن أن يقع فيها العلماء وخاصة العلماء صغار السن وعديمي الخبرة. إذا كان لديك لغز أو مشكلة تزعجك أو تبهرك، فقد يكون لديك فكرة على النحو التالي، «ألن يكون من الرائع لو______ فَسَّر ما نراه؟» لا يوجد أي خطأ إطلاقاً في امتلاك هذا الفِكر، ولا يوجد حتى أي خطأ في استكشاف العواقب النظرية لفكرتك على فهم الكون الذي يمكننا رصده.
لكن هناك أيضا خطٍ بمجرد عبوره، ستتحول من عالمٍ حقيقي إلى غريبِ الأطوارِ: أي عندما تصبح مقتنعاً بأن فكرتك يجب أن تكون صحيحة. وبمجرد أن تتخذ هذه القفزة، ستصل إلى منطق «أنا أعرف ما هي النتيجة النهائية»، وهذا يعني أنك سوف تتلاعب بنظريتك حتى تعطيك النتيجة التي تعرف أنك بحاجة للوصول إليها. قد يمنحك هذا النوعُ من بناء النموذج عن طريق العمل رجوعاً نتيجةً تريدها لكنها لن تكون علمية.
وقع العديد من العلماء فريسةً لهذه المصيدة. أصبح فريد هويل Fred Hoyle مقتنعاً بأن الكون يجب أن يكون في حالةٍ مستقرة ولا يمكن أن يكون له أصلٌ كثيفٌ وساخن على الرغم من الأدلة الدامغة التي تدعم الانفجار العظيم. وكان آرثر إدينجتون Arthur Eddington مقتنعاً بأن النجوم في الكون لا يمكنها أبداً تحقيق خصائص تتجاوز حدوداً معينة على الرغم من الأدلة الرصدية التي تشير لتجاوز هذه الحدود في كثير من الأحيان. وحتى أينشتاين نفسه أصبح مقتنعاً بأن «العشوائية» الكمومية يجب أن يكون لها تفسيرٌ حتمي وأن الجاذبية والكهرومغناطيسية الكلاسيكية ستؤديان إلى قوة موحدة، لكن لم تسفر هذه الأفكار عن نتائج تبعية على مدار آخر عشرين عاماً من حياة أينشتاين العلمية.
في نواحٍ كثيرة، أعاق هؤلاء العلماءُ المؤثرون التقدمَ في مجالهم بشكل كبير حتى وفاتهم تاركين درساً ينص على أن البداهة الحسِيّة – بغض النظر عن هويتك أو ما أنجزته – ليست بديلاً عن المعلومات الحقيقية التي نحصل عليها من طرح أسئلة على الكون عن نفسه. هذا هو السبب في أن يوهانس كيبلر Johannes Kepler – الذي تخلص من نظريته «الجميلة» عن الكرات المتداخلة الصلبة المثالية لصالح النظرية «القبيحة» للمدارات الاهليجية التي تناسب البيانات بشكل أفضل من أي شيء آخر – هو نموذج رائع لكيفية القيام بالعلوم بشكل صحيح.
4. وظيفة العالِم هي الاختبار الصارم لفرضيته الخاصة، وغالباً ما يفشل «مؤيدو الأفكار الجديدة» في القيام بهذه المهمة بالذات
هل خطر في بالك فكرة ووقعت في حبها؟ كثير منا يفعل ذلك وهذه مشكلة هائلة بالنسبة لنا. في العلم يتحتم علينا أن نكون أقسى منتقدي أفكارنا؛ لأننا سنكون أول من يستكشفها بعمق قبل أن نقدم نتائجنا للعالَم حيث سيتم تقييمها من قِبَل الآخرين. وإذا فشلت في محاولة هدم أفكارك – أي العثور على نقاط ضعفها؛ لكشف أين ينتهي نطاق صلاحيتها، وتحديد أين تتعارض بشكلٍ غير ملائم مع النظرية التي تسعى إلى استبدالها – سيقوم الآخرون بهذا العمل نيابة عنك.
هذا بالطبع ليس قسوة أو انغلاق للفِكر ولا تمسكاً بعقيدةٍ معينة، هذا جزء ضروري من العلم؛ لإخضاع أي فرضية جديدة للتدقيق والتقييم الصارم. على الرغم من أنه قد يكون أمراً مؤسفاً، ستنهار معظم «الأفكار الجديدة» تحت وطأة الأدلة التي جُمعت بالفعل، تماماً كما أن معظم الأفكار التي تم اقتراحها في الأصل لتفسير ظاهرة جديدة قد فشلت بشكل مذهل في وصف المجموعة الكاملة من الأدلة التي يقدمها لنا الكون.
من السهل أن تفهم سبب إذا كانت لديك فكرة تحبها فأنت تريد أن يحبها الآخرون أيضاً لكن من الصعب جداً إقناع العلماء الآخرين – وخاصة العلماء الذين يؤيدون وجود مستوً مناسباً من الشك في الأفكار – بأن فكرتك تستحق الإعجاب إذا لم تخضعها للتدقيق اللازم. إذا كنت ترغب في اقتراح نظرية تختلف فيها سرعة الضوء باختلاف الأطوال الموجية له، فمن الأفضل ألا تتعارض مع عمليات رصد الأطوال الموجية المتعددة التي جمعناها بالفعل عن الضوء من الاجرام البعيدة على سبيل المثال.
إذا كانت لديك فكرة تقع خارج نطاق الاتجاه السائد، فهناك بعض الأسئلة التي سترغب بالتأكيد بطرحها:
– ما المشكلة التي تفكر فيها والتي حفزت هذه الفكرة؟
– كيف تقارن هذه الفكرة بالنظرية السائدة عند تطبيقها على هذه الظاهرة المحددة؟
– كيف تُقارن هذه الفكرة بالنظرية السائدة عند تطبيقها على النتائج الرئيسية الناجحة للنظرية السائدة؟
– وما هي بعض الاختبارات الحاسمة التي يمكنك إجراؤها بشكل حقيقي (باستخدام التكنولوجيا الحالية أو المستقبلية) لزيادة تمييز فكرتك عن النظرية السائدة؟
قال ريتشارد فاينمان Richard Feynman ذات مرة: «المبدأ الأول هو ألا تخدع نفسك، وأنت أسهل شخص يمكنك خداعه».
ليس قسوة أو انغلاق للفِكر ولا تمسكاً بعقيدةٍ معينة، بل على العكس هي علامة على النزاهة والالتزام بإيجاد الحقيقة العلمية المحيطة بأي قضية أو ظاهرة تبحث عنها. هناك العديد من الأفكار العظيمة والرائعة التي تم إقصاؤها في سلة المهملات التاريخية للنظريات الفاشلة لأفضل سبب ممكن: لأنها لم تتوافق بنجاح مع واقعنا المرصود. ومهما كانت الفكرة خيالية أو مقنعة، فإذا كانت لا تتفق مع التجربة والقياس والرصد، فهي خاطئة.
هناك الكثير من الأفكار الجذابة والمثيرة للاهتمام والقابلة للتطبيق، وسيكون هناك دائماً مجالٌ كبير للتخمينات حول المجهول. لكن عندما نفكر في فكرة جديدة بديلة، فعلينا أن نفعل ذلك من خلال عدسة الدقة العلمية. لا يمكننا ببساطة انتقاء واختيار الظواهر التي نرغب في الانتباه إليها مع تجاهل جوانب الواقع غير الملائمة لأفكارنا المُفضلة.
في الختام، سيكون الكون دائماً هو الحكم النهائي لما هو حقيقي، وللنظريات التي تصف واقعنا بشكل أفضل. لكن الأمر متروك لنا – الكائنات الذكية التي تدير مُغامرة العلم – لكشف هذه الحقائق بدقة. ما لم نفعل ذلك بمسؤولية، فإننا نجازف بخداع أنفسنا لتصديق ما نريد أن يكون صحيحاً. في العلمِ، النزاهةُ والصدقُ الفكري هي المُثُل التي يجب أن نتطلع إليها.