حقوق الصورة : Johan Swanepoel

إنَّ الدماغَ البشريَّ بكلِّ تعقيداته المذهلة هو نتاج ملايين السنين من التطوُّر، ولكن ما الذي يجعلُ أدمغتَنا مُمَيَّزة؟

يقول البعض إنَّ أدمغتَنا لا تتميَّز من غيرها كثيرًا، لكن الأبحاث الجديدة عادت لتلقي الضوء على تفرُّد الدماغ البشريّ.

أحد أسباب تمكُّن العلماء الآن من كشف هذه الاختلافات الدقيقة بين دماغ الإنسان والأنواع الأخرى هو ظهور تقنيَّاتٍ أكثر تطوُّرًا لجمع البيانات. على سبيل المثال: طوَّر العلماءُ في معهد ألين لعلوم الدماغ أطالسَ أنماطِ تعبيرٍ مفصَّلةً لآلاف الجينات ولمختلف الأنواع، بما في ذلك الفئران البالغة وأدمغة البشر.

ولكن ما الذي يجعل أدمغتَنا مُميَّزةً فعلًا؟ دلَّت بعض الدراسات على أن أدمغتَنا تحتوي على عددٍ أكبر من الخلايا العصبية وتنفق طاقةً أكثر مما هو متوقَّع بالنسبة إلى حجمنا، وأن المساحة التي تشغلها القشرة الدماغية المسؤولة عن الإدراك كبيرةٌ بشكلٍ غير متناسب مع حجم الدماغ، إذ تمثِّل أكثر من 80% من إجماليِّ حجمه.

أما على المستوى الجينيِّ فيتشابه البشر مع الحيوانات الأخرى مثل الشمبانزي والبونوبو والغوريلا، إذ نتشارك في أكثر من 90% من حمضنا النوويِّ كما تشترك الفئران والبشر أيضًا في العديد من الجينات، ولهذا يستخدمها العلماء نموذجًا لدراسة العديد من الأمراض البشرية.

ولكن كشفت الدراسات التي أُجرِيَت في السنوات الأخيرة أن الطريقة التي يُعبَّرُ بها عن الجينات وأجزاء الحمض النوويِّ التي ترمز إلى بروتينات معيَّنةٍ يمكن أن تكون مختلفةً تمامًا بين البشر والحيوانات الأخرى.

عندما قارن الباحثون البشر بالفئران؛ وجدوا أنه رغمَ أنَّ الجينات المرتبطة بالخلايا العصبية كانت متشابهةً جدًّا بين الأنواع، فإنَّ تلك المرتبطة بالخلايا الدبقية لم تكن كذلك. ووجدوا أيضًا أن أنماط الجينات المرتبطة بالخلايا الدبقية تتداخل مع تلك المساهمة في اضطرابات الدماغ، مثل مرض الزهايمر. وهذا يدعم البيانات الأخيرة التي كشفت أن الخلايا الدبقية -والتي كان يُعتقد لفترةٍ طويلةٍ أنها ببساطة خلايا داعمة للدماغ- في الواقع لاعبٌ رئيسيٌّ في كلٍّ من التطوُّرِ والمرض.

من ناحيةٍ أخرى، وجد باحثون أن السمات التي كانت يُعتقد في السابق أنها تخصُّ البشر فقط توجَدُ أيضًا عند الكائنات الأخرى في المملكة الحيوانيَّة، فلدى القرود إحساسٌ بالعدالة، كما ينخرط الشمبانزي في الحروب وتُظهر الجرذان شعورًا بالإيثار والتعاطف!

ولكن ربما تكون اللغةُ السمةَ الرئيسيَّةَ التي تميِّزُنا من الكائنات الأخرى. فبفضل مهاراتنا اللغويَّةِ المتطوِّرةِ نستطيعُ نقل المعلومات بسرعة وكفاءة إلى الآخرينَ من جنسنا البشريّ، كما تمكِّننا من تنسيق ما نقوم به، وهذه الأشياء وفّرت ميزةً كبيرةً في وقت مبكر من تطوُّرنا.

اللغة معقدةٌ، وقد بدأنا توًّا فَهمَ مكوناتها المختلفة. على سبيل المثال: علينا النظرُ في الجوانب الحسِّيَّة للُّغة. ولنفهم ما يقوله شخص ما، نحتاج إلى اكتشاف كلامه ونقل هذه المعلومات إلى الدماغ، ثم يتوجب على الدماغ معالجة هذه الإشارات لفهمها. إذ تتعامل أجزاء من دماغنا مع بناء الجملة (كيفية تأثير ترتيب الكلمات على المعنى) ودلالات الكلمات (ما تعنيه الكلمات في الواقع).

تُعتَبَرُ الذاكرة أيضًا مهمةً جدًّا لأننا نحتاج إلى تذكر معنى الكلمات. ثم هناك نظام النطق الكامل الذي يشارك في إنتاج ما نريد قوله والتأكد من أننا نقول ذلك بوضوح من خلال التنسيق العضلي ليُصدر الأصوات الصحيحة.

دراسة اللغة من خلال مقارنة الأنواع المختلفة أمرٌ صعبٌ، لأنه لا توجد حيوانات أخرى قريبة من قدراتنا اللغوية. بعض الطيور موهوبة ومقلدة لنا، لكن لا يمكننا التحدث مع الطيور! حتى عندما يُنشَّأُ الشمبانزي في أسر بشرية، فإنهم لا يكتسبون أبدًا مهاراتٍ لغويةً لفظيةً. على الرغم من أن الشمبانزي يمكن أن يتعلم فهم لغتنا واستخدام الرموز الرسومية، فإنه يُظهر القليل من الميل إلى توصيل أي شيء آخر غير المعلومات الأساسية، مثل طلبات الطعام. على النقيض من ذلك، يبدو أن البشر مدمنون على التواصل.

وقد لوحِظَ تطوُّرُ اللغة عند البشر عبر الأبحاث التي أُجريَت على جين (FOXP2). إذ يلعب هذا الجين دورًا رئيسيًّا في اللغة والنطق، ويسمح لنا باستكشاف التغيُّرات التي تدعم تطور اللغة المعقدة لدينا.

تتشارك الأنواع المختلفة من الكائنات في وجود هذا الجين (FOXP2)، وهذا يعني أن الجين له تسلسل DNA متشابه جدًّا في الأنواع المختلفة، مما يشير إلى أنه لم تطرأ عليه تطورات كثيرة بمرور الوقت. فبروتين (FOXP2) عند الفأر يختلف عن النسخة البشرية بثلاثة أحماض أمينية ويختلف إصدار الشمبانزي عن الإصدار البشري باثنين من الأحماض الأمينية. ولكن هذه التغييرات البسيطة في الأحماض الأمينية لهذا الجين قد تعدُّ مفاتيحَ رئيسةً في تطور اللغة لدى البشر.

لكن ما الفرق الذي تُحدثه هذه التغيُّرات الصغيرة في التسلسل في وظيفة بروتين (FOXP2)؟ تُظهر الدراسات التي أجريت على الفئران أن التغير في نسخة الفئران من جين (FOXP2) ليكون نفس تسلسل النسخة البشرية له تأثيرات طفيفة فقط. من اللافت للنظر أن صغار الفئران الناتجة كانت طبيعيةً ولكنها أظهرت تغيراتٍ طفيفةً في وتيرة أصواتهم، إذ أصبحت عالية النبرة. كما أنها أظهرت تغيراتٍ مميزةً في الاتصال العصبي بأجزاء معينة من الدماغ.

لن يؤدي إدراكنا للمواضع التي تميزنا والمواضع التي لا تميزنا إلى إلقاء الضوء على كيفي كوننا الأنواع المهيمنة على الكوكب فحسب، إنما يمكن أن يساعدنا أيضًا على فهم أنفسنا بشكل أفضل. كما يمكن أن تساعد معرفة أين تكمن أوجه التشابه بين البشر والأنواع الأخرى العلماءَ في تطوير علاجاتٍ أكثر فعاليةً للاضطرابات والأمراض.
 

nasainarabic.net