- جوي سليم
- بي بي سي – بيروت
قبل 27 دقيقة
إذا كنت تقرأ هذا المقال، فهو ربما لأنك عثرت على الرابط على مواقع التواصل الاجتماعي، وسط سيلٍ من المنشورات التي كثيراً ما تتمحور حول موضوعٍ واحد.
قد تكون في الوقت الحالي مواضيع وتعليقات حول كأس العالم أو منشورات أخرى مرتبطة بجديد يشغل معظم المستخدمين، في ما كنّا نسمّيه في السابق “موضوع الساعة” قبل أن يتحوّل إلى “ترند” مع اجتياح وسائل التواصل الاجتماعي.
هل شاركت في التعليق على أخبار كأس العالم على الرغم من عدم اهتمامك بكرة القدم؟ هل انهممت قبل ذلك بحقيقة صورة الفنانة هيفا وهبي في السعودية؟ هل كتبت شيئاً على فيسبوك وتويتر عن اليوم العالمي للصحة النفسية؟ وقبل ذلك بفترة، هل أبديت رأيك في محاكمة جوني ديب وأمبر هيرد حتى وإن لم تكن تعلم الكثير حول القضية؟
قد تكون إجابتك هي “نعم” برغم أنك تذكّرت معظم هذه المواضيع الآن، بعدما محتها ذاكرتك بصورةٍ شبه تامة، حتى أنها ربما أصبحت تبدو بالنسبة لك تنتمي إلى زمنٍ سحيق.
في جميع الأحوال، من المرجّح أنك تتساءل باستمرار عن سرّ قوة الترند وتأثيرها على الأفراد.
ولكن كيف يحدث ذلك؟ كيف تخور مقاومتنا أمام قوة هذه الاتجاهات على مواقع التواصل التفاعلية؟ وما هي سلبيات “ثقافة الترند” التي نسمع على الدوام انتقادات لها؟ ولماذا، برغم وعينا بهذه السلبيات، نشارك فيها في معظم الأحيان؟
اقتصاد الانتباه
منذ نحو ثلاثة عقود، ظهر مجال جديد للبحث، وهو “اقتصاد الانتباه” الذي يدين بالكثير لمساهمة الفيلسوف والمعماري الألماني جورج فرانك.
لاحظ فرانك نوعاً من التكافؤ بين علاقة المصارف بالمال وبين علاقة وسائط الإعلام بالانتباه. بالنسبة لفرانك، مثّل توفير الانتباه أحد أهم الانقلابات الاقتصادية في القرن العشرين، وفاق أيضاً جميع العوامل الأخرى في الأهمية الاقتصادية.
ويعرف العديد من الاقتصاديين وعلماء الاجتماع أن انتباهنا أصبح بشكل متزايد سلعةً يتم تداولها في “السوق المعرفية” لوسائط التكنولوجيا الجديدة.
لقد ذُكر اقتصاد الانتباه للمرة الأولى في القرن التاسع عشر، قبل وقت طويل من ظهور وسائل التواصل الاجتماعي حيث يتنافس المعلنون على جذب انتباهنا.
بالنسبة للبعض فإن جذور هذا المجال مرتبطة بشكل أساسي بالثورة الصناعية. إنتاج كميات كبيرة من السلع التي يتوجب بيعها حتّم إعطاء أهمية كبرى لانتباه المستهلك، وهو ما ظهر بوضوح مع ازدهار مجال الإعلانات والتسويق لا سيما مع ظهور وسائل الإعلام المرئية والمسموعة في القرن العشرين.
يأتي الترند، إن كان على شكل “تحدّيات” على تيك توك أو كحدث يفرض نفسه مولّداً موضوع نقاش موحّد يشغل المستخدمين حول العالم أو في منطقة معينة، في صلب ثقافة جذب الانتباه. هذا الاتجاه الذي يتبنّاه الآلاف، وأحياناً الملايين، يساعد الخوارزميات على التعرّف إلى تفضيلاتنا (وأحياناً على خلقها) وبالتالي إدارة الإعلانات وتوجيهها بشكل شخصي يضمن إدامة استهلاكنا.
“إذا كنتَ لا تدفع مقابل منتجِ ما، فذلك على الأرجح لأنك أنت هو المنتج”. هذه الجملة أصبحت مفتاحيةً لفهم طبيعة العلاقات الاقتصادية التي ولّدتها وسائط الإعلام الجديد. هكذا، عبر لفت انتباهنا إلى محتواها، تقوم هذه المواقع والتطبيقات “ببيعنا” إلى المعلنين. فيسبوك وإنستغرام على سبيل المثال، هما ببساطة منصّتان إعلانيتان تنتزعان الأموال من انتباه المستخدمين ووقتهم. يمثّل الترند، في هذا السياق، وقود الانتباه. هو العجلة التي تبقيك شاخصاً لأطول وقت ممكن إلى الصفحة الرئيسية ومنجذباً إليها.
لكن الكاتبة الأمريكية شوشانا زوبوف ترى أن الحديث يجب أن يتخطى اقتصاد الانتباه إلى ما تسمّيه “الفائض السلوكي”. تقول إن “رأسمالية المراقبة” التي نعيش في ظلّها حالياً تهدف إلى تتبّع حركاتنا الانتباهية إلى الحدّ الذي يسمح بمراقبة سلوكياتنا المستقبلية والتنبؤ بها.
هذا ما يفسّر على الأرجح ظهور إعلانات لمنتجات فكّرنا فقط في شرائها حتى قبل البحث عنها على الإنترنت. هذا الواقع برأيها يؤكد أننا نعيش في نظام استغلال، نحن الضحية فيه.
النسيان وفقدان الحساسية
في رواية “البطء”، يُبرز الكاتب التشيكي الفرنسي ميلان كونديرا أن ثمّة رابطا سرّيا بين البطء والذاكرة، كما بين السرعة والنسيان. فإذا تخيّلنا رجلاً يسير في الشارع، ثم فجأة تذكّر أمراً ما لكن الذاكرة لا تسعفه في تلك اللحظة، فإنه بطريقة آلية يتمهّل في الخطو. أما من يسعى إلى نسيان طارئ شاق وقع له توّاً، على العكس يسرع لا شعورياً في مشيته كما لو أنه يروم الابتعاد عن أمرٍ ما زال من حيث الزمن قريباً جداً منه.
بالانطلاق من هذه المعادلة، نلاحظ الترابط الوثيق بين الترند والسرعة، وبالتالي بينه وبين النسيان. يصعب أن تكتب عن حدث بعد أكثر من أسبوع على وقوعه. يبدو ذلك وكأنك تنبش التاريخ. لن يهتم أحدٌ في العموم.
مهما كان الحدث عظيماً، لو كان انفجاراً دمّر نصف مدينة أو رجلا ذبح امرأةً على مدخل الجامعة، كل ذلك سيذهب طيّ النسيان بعد أيامٍ قليلة من انتهاء الحدث.
الوتيرة السريعة في الانخراط بالترند، السرعة في الانتباه والاهتمام والشعور والتعليق والتفكير والبحث، المحدودة كلها بين مهلتين (بين موعد وقوع الحدث وبين وقوع حدث آخر يثير الانتباه ويجذب الاهتمام)، هذه السرعة المهولة تفضي غالباً إلى النسيان.
وبالمثل، يحاجج باحثون في علم الأعصاب بكون التشتت الدائم في الانتباه، والاعتياد على الخوض السريع في المعلومات المتدفقة، يجعل من الصعب جداً على الذاكرة حفظ هذه المعلومات وتخزينها.
في سياق متصل، يؤدي الإفراط في استثارة الانتباه والحواس إلى فقدان الانتباه وانعدام الحساسية تماماً مثلما أدّى تشبّع المدن بأعداد السيارات، إلى الجمود والكسل على الرغم من أن السيارة مصنوعة من أجل زيادة الحركة والسرعة.
وبالمثل، تسبّب التقنيات الجماهيرية ما يشبه الخَدَر على مستوى الإحساس من خلال التشبّع العاطفي الذي تفضي إليه. هذه واحدة من المساوئ التي حذّر منها الفيلسوف الفرنسي برنار ستيغلر ضمن مقاربته لنتائج “الرأسمالية الإدراكية” التي تمثّلها تكنولوجيا الإعلام الحديثة على الإنسان.
بدوره رأى المنظر الأمريكي هربرت سايمون عام 1970، أنه كلما ولّدت المجتمعات المعلومات ونشرتها، قلت القدرة على استيعاب هذه المعلومات، والقدرة على تلقيها ومعالجتها وفهمها. لذلك خلُص إلى القول إن المجتمعات الغنية بالمعلومات هي مجتمعات تفتقر حكماً إلى الانتباه.
لماذا يجرفنا التيار السائد؟
على الرغم من شعورنا بسلبيات ثقافة الترند وانتقادنا أحياناً للسيل الجارف الذي تمثله المشاركات المكثفة في موضوع أو قضية واحدة، إلا أننا في الكثير من الأحيان نجد صعوبةً في ثني أنفسنا عن التأثر بهذا التيار. فما هو السبب؟
في عام 2004، ظهر للمرة الأولى مصطلح “فومو”(FoMO) وهو اختصار لعبارة “الخوف من تفويت شيء ما”. شاع استخدام المصطلح في البداية في مجال التسويق، لكنه عرف ذروة شعبيته مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي.
مثلما نقلق من أن يفوتنا اقتناص فرصة ما، أو المشاركة في حفلة مع أصدقاء، نقلق من أن نفوّت كل ما هو جديد، وإن كان عبر مجرد التعليق عليه.
ويظهر القفز في السيل، عوضاً عن الاكتفاء بالتفرج عليه، الضغط الذي تمثلّه قوة الحاضر علينا. يعكس الرغبة في القبض على اللحظة الحالية، وفي الحضور، من أجل مقاومة سير الزمن الذي يعبرنا دوماً فلا يلبث ما كان لتوّه راهناً أن يصبح من الماضي.
والرغبة في الحضور، في الوجود “الآن وهنا”، حتى ولو افتراضياً، هي في جوهرها قد تكون نابعة من الخوف من الموت، وإن كان “الموت الرمزي” باختفائنا من الفضاء العام.
إذ إن نيل الاعتراف من الآخر هو سبب محوري في وجودنا على هذه المواقع والتعبير عن أنفسنا بواسطتها. كما أن اعتراف الآخر هو، بالنسبة لكثيرين، وحدة قياس تقدير الذات.
يحيلنا ذلك إلى ما يعرف في علم النفس بـ”تأثير العربة” أو bandwagon effect، وهو حين يقوم الناس بشيءٍ ما في المقام الأول لأن الآخرين يفعلونه أيضاً، إذ تعزز المشاركة في الترند، أو في آخر صيحة، إحساس الانتماء إلى الجماعة. ويظهر ذلك بوضوح في الاتجاهات السياسية والاستهلاكية للبشر. ولقد عرف مجال الإعلانات تاريخياً اللعب على هذا التأثير لجذب المستهلك وتوجيه سلوكياته.
يقلق البعض من هذا الميل لأنه يهدد فردية الإنسان ويحقق أسوأ كوابيسها في جعل الفرد مجرد مرآة للحشد. كأنه يصبح ذلك الإنسان الذي حذّر منه نيتشه في الشذرات المنشوره بعد وفاته بقوله: “ينسى الإنسان أن يفعل؛ لا يعود يقوم سوى بردّ الفعل”.