- سمية نصر
- بي بي سي نيوز عربي
قبل 8 دقيقة
يقال إن ممثلة جميلة عرضت الزواج على الكاتب المسرحي الأيرلندي الشهير جورج برنارد شو، قائلة إنها تمتلك جمالا ساحرا وهو يمتلك أعظم عقل في العالم لإنجاب طفل مثالي يرث جمال الشكل والعقل. لكن شو رفض العرض، متساءلا: “ماذا لو ورث الطفل شكلي أنا وعقلك أنت؟”.
عادة ما يأتي الحديث عن الزواج من شخص ما “لتحسين النسل” على سبيل الممازحة، لكنه كان في وقت من الأوقات جزءا من مجموعة من الأفكار “العلمية” التي استخدمت لتدعيم فكرة سيادة جنس أو عرق بعينه، وكان لها نتائج كارثية في الغرب.
فرانسيس غولتون أبو اليوجينيكس
كلمة يوجينكس eugenics (“علم” تحسين النسل) من ابتكار فرانسيس غولتون (1822-1911)، وهو عالم إنجليزي درس العديد من الفروع العلمية كالإحصاء والأنثروبولجيا والجغرافيا وعلم النفس والأرصاد.
كان غولتون مولعا بمراقبة الطبيعة والسلوك البشري، وبشكل خاص قياس وتوصيف كل شيء، بما في ذلك الصفات الجسمانية والقدرات العقلية للبشر.
شرع العالم الإنجليزي في تطبيق الطرق الإحصائية في دراسته للاختلافات البشرية، واهتم بشكل خاص في أواخر سنوات حياته بالذكاء والموهبة اللذين كان يرى أنهما من الصفات التي تورث من جيل لآخر، وفعل ذلك من خلال تتبع ودراسة أنساب طبقة النبلاء.
النتائج التي توصل إليها أشارت إلى أن الذكاء والموهبة تتحكم فيهما العوامل الوراثية أكثر ما تتحكم فيهما المؤثرات البيئية. ألف غولتون كتابين في هذا المجال هما Hereditary Genius (العبقرية الوراثية)، و English Men of Science: Their Nature and Nurture (العلماء الإنجليز: طبيعتهم وتنشئتهم) الذي منح زخما جديدا لنقاش “الطبيعة مقابل التنشئة” الذي تعود أصوله للعصور الوسطى، والذي يدور حول ما إذا كانت العوامل البيولوجية والوراثية أم التنشئة الاجتماعية هي التي تتحكم في سلوك الإنسان.
تأثر غولتون بنظرية “التطور من خلال الانتقاء الطبيعي” لابن خاله عالم الأحياء تشارلز داروين التي تنص على أن الكائنات الحية التي تتكيف بشكل أفضل مع بيئتها ومحيطها يكون لها الحظ الأوفر في البقاء والاستمرار. في أواخر القرن التاسع عشر، ظهرت “الداروينية الاجتماعية”، وهي مجموعة متنوعة من العقائد التي استخدمت نظرية داروين لتبرير أفكار سياسية واجتماعية واقتصادية.
كان معتنقو الداروينية الاجتماعية يؤمنون بفكرة “البقاء للأصلح” – أي أن بعض الأشخاص يكتسبون قوة ونفوذا في المجتمع لأنهم أفضل بالفطرة، وكانوا يعارضون فكرة مساعدة الفقراء والضعفاء والمرضى العقليين، بل كانوا يرون أن التنافس الاجتماعي والاقتصادي بين الأفراد أداة فعالة لتخليص المجتمع من الضعفاء.
في كتابه Inquiries into Human Faculty and its Development (استكشاف القدرات الجسدية والعقلية للبشر وكيفية تطورها)، ابتكر غولتون كلمة eugenics المشتقة من كلمة eugenes اليونانية التي تعني “من سلالة جيدة”. وكتب في شرح ذلك المصطلح الجديد:
كان غولتون يرى أن المجتمع ينبغي أن يشجع التزاوج بين الأشخاص الذين يتمتعون بصفات محمودة كالذكاء والموهبة والجمال، وهي صفات كان يؤمن بأنها تنتقل من الآباء إلى لأبناء بدون أن يطرأ عليها أي تغيير. وزعم في كتابه أن “الأجناس الأرقى” هي فقط التي يكتب لها النجاح. وأشار إلى أن البشر “العباقرة” لا يوجدون بشكل عشوائي، بل يتركزون في الطبقات العليا في شمال أوروبا. وفقا لغولتون، اليونان القديمة وإنجلترا هما البلدان اللذان خرجت منهما النسبة الأعلى من العباقرة، في حين أن العرق الأسود لم ينتج ولو شخصا واحدا عبقريا على مر التاريخ.
يضاف إلى تحليل غولتون للاختلافات الوراثية مخاوفه من أن الأجناس الأدنى والطبقات الأفقر كانت تتكاثر بمعدل أسرع من الطبقات العليا، وتأييده لبرنامج يهدف إلى تقليص عدد الأفراد الذين ينتمون إلى أجناس وطبقات “دنيا” و”معيوبة”.
وكان لأفكار غولتون دور كبير في ظهور الحركة اليوجينية التي سعت إلى “تحسين السلالة البشرية”.
في عام 1907 تأسست رابطة تعليم اليوجينيكس في بريطانيا (التي تغير اسمها إلى الرابطة اليوجينية في عام 1926)، بناء على مبادرة من غولتون. كان من بين أعضائها عدد من المثقفين والمصلحين الاجتماعيين من أمثال إتش جي ويلز وأُلديس هاكسلي وماري ستوبس، فضلا عن شخصيات سياسية من أمثال وينستون تشرتشل. كان هؤلاء يشعرون بالقلق إزاء الاكتظاظ السكاني وما يشكله من خطر على المجتمع.
في عام 1912 عقد المؤتمر الدولي الأول لليوجينيكس، وكان تشرتشل الذي أصبح فيما بعد رئيسا لوزراء بريطانيا من بين الحضور. كان تشرتشل يؤيد عزل وتعقيم “ذوي العقول الضعيفة” الذين ارتأى أن تكاثرهم السريع يشكل “خطرا وطنيا وعرقيا [على المجتمع البريطاني] من المستحيل المبالغة فيه”.
رغم محاولات البعض، ومنهم تشرتشل الذي كان نائبا في البرلمان وتولى عدة مناصب حكومية آنذاك، تمرير قانون يجيز التعقيم الإجباري للمرضى العقليين، لم يقنن ذلك الأمر مطلقا في بريطانيا، بعكس الحال في بلدان غربية أخرى على رأسها الولايات المتحدة وألمانيا.
اليوجينيكس في أمريكا
لعبت الأفكار اليوجينية دورا بارزا في تاريخ الولايات المتحدة من أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين.
راجت تلك الأفكار بشكل كبير في البلاد بعد أن أدى اكتشاف قوانين مندل حول كيفية توريث الصفات من جيل إلى جيل إلى اهتمام واسع بفكرة التزاوج بين البشر للحفاظ على خصائص بعينها. كان اليوجينيون الأمريكيون يؤمنون بتفوق الأعراق “النوردية” أو الشمالية (الاسكندنافية والفنلندية والأيسلندية) والجرمانية والأنغلوساكسونية.
أفضت تلك الأفكار إلى صدور قوانين تفرض قيودا على المهاجرين من جنسيات معينة، مثل قانون استبعاد الصينيين الصادر عام 1882، وقانون الهجرة لعام 1924 (المعروف بقانون جونسون-ريد) الذي أغلق الحدود الأمريكية في وجه الآسيويين باستثناء اليابانيين والفلبينيين، وقلص عدد المهاجرين من أفريقيا وشرق أوروبا وجنوبها. يرى مؤرخون أن الكونغرس الأمريكي ربما كان سيمرر تلك القوانين على أية حال، ولكن الأفكار اليوجينية أعطته ذريعة “علمية” لوقف “زحف الأجناس الأدنى” على البلاد، وهو ما كان يشكل برأي مؤيدي تلك القوانين خطرا على عرقهم الأسمى.
تلقت الحركة اليوجينية الأمريكية تمويلا ضخما من عدة جهات من بينها مؤسسة كارنيغي للعلوم ومؤسسة روكفلر (لدعم الأبحاث الطبية والفنون)، فضلا عن رجل الأعمال والمخترع الشهير جون هارفي كيلوغ الذي شارك في تأسيس “مؤسسة تحسين العرق”.
وفي عام 1911، أسس عالم الأحياء الأمريكي الشهير تشارلز دافنبورت مكتب السجلات اليوجيني في نيويورك، والذي قام بالتعاون مع رابطة اليوجينيكس الأمريكية بجمع كمية ضخمة من المعلومات عن أنساب العائلات وتدريب عمال ميدانيين على تحليل نزلاء مستشفيات الأمراض العقلية ودور الأيتام في الولايات المتحدة.
مع ظهور الحركة النسوية في عشرينيات القرن الماضي، ورغبة النساء في الحصول على وسائل لتحديد النسل لكي يتمكنّ من العمل والتعليم، أراد اليوجينيون التحكم فيمن يجب أن يستخدم تلك الوسائل. وكانت الناشطة الشهيرة مارغريت سانغر “أم وسائل تحديد النسل” من بين من أيدوا تعقيم المرضى العقليين وتقليل عدد الأطفال الذين ينجبهم الفقراء.
وبينما كانت ترغب سانغر في توفير وسائل منع حمل آمنة لكافة النساء، كان يوجينيون آخرون يعارضون الفكرة لأن نساء الطبقة المتوسطة من البيض الذين كانوا يريد اليوجينيون أن ينجبن عددا كبيرا من الأطفال كن أكثر من يقبلن على وسائل تحديد النسل.
ولتشجيع أسر تلك الطبقة على الإنجاب، ظهر ما يعرف بـ “Fitter Family Competitions” (“منافسات الأسر الأصلح”) التي كانت تستغل المعارض الزراعية التقليدية للترويج لـ “تكاثر أفضل” ونشر الأفكار اليوجينية.
كان يطلب من المشاركين تعبئة استبيانات حول تاريخهم الطبي، وتؤخذ منهم عينات من الدم والبول، وتقاس أوزانهم وأطوالهم ويسألون عن نوعية الطعام الذي يتناولنه والتمرينات الرياضية التي يؤدونها، كما كانت تجرى لهم اختبارات لتحديد معدل الذكاء.
كانت صور الفائزين تنشر في الصحيفة المحلية ويحصلون على ميدالية “التفوق اليوجيني”.
الطبقية والعنصرية كانت في لب تعريف اليوجينيين لمن يصلح ومن لا يصلح للبقاء والاستمرار. وكان اليوجينيون الأمريكيون يصرون على أن القدرة على الارتقاء الاجتماعي والطبقي دلالة على الكفاءة الجينية، في حين أن الفقر من خصائص الدونية الجينية.
من المفارقة أن الولايات المتحدة، التي تفتخر بأنها تأسست على الحريات الفردية والشخصية، كانت أول دولة في العالم تسن قانونا للتعقيم القسري للفقراء وذوي الإعاقات الجسدية والعقلية و”اللا أخلاقيين”.
في عام 1907، أصدرت ولاية إنديانا أول قانون للتعقيم القسري في العالم، وسرعان ما حذت حذوها 30 ولاية أمريكية أخرى.
وكان يتم تعقيم النساء والرجال لأسباب مختلفة: الرجال للتخلص من سلوكهم العدواني والإجرامي، والنساء للسيطرة على قدرتهن على الإنجاب. وفي الفترة من ثلاثينيات إلى ستينيات القرن العشرين، تم تعقيم عدد كبير من كل من الرجال والنساء من نزلاء مستشفيات الأمراض العقلية.
كما استهدف اليوجينيون النساء من أصول أفريقية وأمريكية لاتينية، إذ تم تعقيم الآلاف منهن بدون موافقتهن أو علمهن.
حالات التعقيم المسجلة في الولايات المتحدة تبلغ أكثر 60 ألف حالة، لكن مراقبين يرون أن العدد الفعلي قد يكون أكبر من ذلك بكثير.
استمرت عمليات التعقيم القسري المسموح بها قانونا في الولايات المتحدة حتى سبعينيات القرن الماضي، ولكن ثمة تقارير تشير إلى تعرض نحو 150 من نزيلات اثنين من سجون ولاية كاليفورنيا لتلك العملية بين عام 2006 و2010. كما كانت هناك مزاعم في عام 2020 حول التعقيم القسري لمهاجرات في مراكز تابعة لوكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك الأمريكية.
اليوجينكس والنازية
في عام 1916، صدر في الولايات المتحدة كتاب The Passing of the Great Race: Or, The Racial Basis of European History (“نهاية العرق العظيم: أو القاعدة العرقية للتاريخ الأوروبي”) للمحامي ومؤيد الأفكار اليوجينية ماديسون غرانت.
يزعم المؤلف أن الولايات المتحدة دولة “نوردية”منذ البداية مكونة من مهاجرين جاءوا من إنجلترا واسكتلندا وهولندا وأيرلندا وألمانيا، وأن هؤلاء المهاجرين الأوائل معرضون لخطر وجودي من قبل عرقيات وطبقات “أدنى” من البيض القادمين أوروبا الشرقية – الكاثوليك واليهود بالأساس – الذين يتكاثرون بسرعة أكبر ويشكلون، على حد قوله، عصابات إجرامية ومجموعات إثنية منفصلة داخل أمريكا تقوض الهيكل السياسي-الاجتماعي للبلاد ومن ثم الأعراق النوردية والأنغلوساكسونية. يطالب غرانت بأهمية منع هؤلاء من “تلويث” الجنس الأرقى والتفوق عليه من حيث العدد.
حقق الكتاب نجاحا كبيرا وترجم إلى لغات منها الفرنسية والسويدية والنرويجية والألمانية، وكان أدولف هتلر من بين من تبنوا الرسالة التي تحملها صفحاته – وقد أرسل خطابا إلى غرانت يعرب فيه عن إعجابه بالكتاب. كما تبنت الرسالة حركة “النظافة العرقية”(Rassenhygiene ) العنصرية في ألمانيا في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، ولكنها استخدمت مصطلح “الجنس الآري” بدلا من الجنس الشمالي أو “النورديك”.
في يوليو/تموز عام 1933، بعد بضعة شهور فقط من وصول الحزب النازي إلى الحكم في ألمانيا، صدر قانون يسمح بالتعقيم القسري للأشخاص الذين يعانون من أمراض جسمانية أو عقلية يقرر الأطباء أنها تنتقل بالوراثة. شمل القانون حالات مثل الصمم والانفصام في الشخصية والصرع، و”الضعف العقلي” والعمى وإدمان الكحول. كان ذلك إحدى أولى الخطوات التي اتخذها النازيون بهدف “حماية السلامة العرقية” للأمة الألمانية.
بحلول الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، يعتقد أن عدد الأشخاص الذين تم تعقيمهم قسريا في ألمانيا بلغ نحو 400 ألف شخص.
وبعد أن وضع النازيون اليهود في قاع هرمهم العرقي، صدر قانون يحظر الزواج من اليهود. كان ذلك القانون مبنيا على قانون مشابه في الولايات المتحدة يحظر الزواج بين البيض والسود.
لم يتوقف الأمر عن التعقيم القسري، بل نفذ النازيون حملة قتل جماعية لأفراد يعتبرونهم عديمي الفائدة ويشكلون عبئا على الدولة بسب عيوبهم الوراثية المزعومة، مستخدمين مصطلح Euthanasia (القتل الرحيم) لتبرير أفعالهم.
بالتأكيد كانت سياسات هتلر النازية تستند إلى العديد من المعتقدات والأيديولوجيات الملتوية، وإيمانه بسيادة الجنس الآري ومعاداته للسامية، لكن هذه الأفكار عززتها أفكار تحسين النسل التي اعتبرها النازيون والأمريكيون من قبلهم “حقائق علمية”.
اليوجينيكس اليوم
المواقف السائدة في كثير من أنحاء العالم حاليا، سواء داخل المؤسسات الطبية أم السياسية، تؤيد حق الأفراد في الاختيار فيما يتعلق بالقرارات الإنجابية.
صحيح أن الأطباء قد ينصحون الأمهات في بعض الحالات بإسقاط الجنين إذا ما تبين إصابتهم بحالات معينة كمتلازمة داون أو القزامة، لكن يبقى القرار في يد الأمهات، وشتان ما بين ذلك وما كان يحدث في الماضي من ممارسات يوجينية.
لكن هناك من يخشون من أن النتائج قد تكون متشابهة في الحالتين: فماذا لو قررت جميع الأمهات إجهاض أجنتهن إذا ما اكتشفن أن بها اختلالات جينية؟ ألن يكون ذلك أشبه بما أراده اليوجينيون؟
الاتجاه داخل المؤسسات الطبية هو إعطاء كافة المعلومات للأمهات كي يتخذن قرارا مبنيا على معرفة، بدون التأثير على ذلك القرار بأي شكل من الأشكال، وتأييد ذلك القرار ومساعدتهن على تنفيذه.
هناك مخاوف أيضا من أن تؤدي تقنيات الهندسة الوراثية و”التحرير الجيني” إلى حقبة جديدة من اليوجينكس تمكن الأثرياء من إنجاب أطفال يتمتعون بسمات مرغوب فيها، وهناك شائعات بأن ذلك يحدث بالفعل بشكل سري في أنحاء مختلفة من العالم.
توصل العلم الحديث إلى أن جدلية “الطبيعة مقابل التنشئة” تنطوي على تبسيط شديد للأمور، والشيء نفسه ينطبق على قوانين مندل الوراثية. فالبشر لديهم تنويعات واختلافات جينية لا حصر لها، والاختلافات بين الفرد والآخر تتحكم فيها العشرات، وربما المئات، من الجينات التي تتفاعل مع بعضها بعضا ومع العوامل البيئية الخارجية. لا ينبغي أن يكون هناك صراع بين الطبيعة والتنشئة، فهما يعملان جنبا إلى جنب.
اليوجينيكس أو تحسين النسل ليس علما، بل مجموعة من الأفكار يخشى البعض أن تُبعث من جديد وسط التطورات السريعة التي يشهدها علم الجينات. ولكن يبقى هناك أمل في أن دراسة التاريخ ستفضي إلى التعلم من أخطاء الماضي وعدم تكرارها.