حقوق الصورة: Samuel Velasco/Quanta Magazine
تم تحويل هذه التجربة الذهنية إلى تجربة حقيقية يستخدمها الفيزيائيون لدراسة فيزياء المعلومات
يراهن الكون على الفوضى. تخيل على سبيل المثال وضع صبغة حمراء في حمام سباحة. ستنتشر كل جسيمات الصبغة ببطء في جميع أنحاء الماء. يحدد الفيزيائيون هذا الميل للانتشار عن طريق حساب عدد الطرق الممكنة التي يمكن أن تترتب بها جسيمات الصبغة. هناك حالة واحدة محتملة تتزاحم فيها جسيمات الصبغة. وهناك حالة أخرى، على سبيل المثال، تتجمع فيها الجسيمات على قاع البركة. ولكن هناك مليارات لا حصر لها من التباديل حيث تنتشر الجسيمات بطرق مختلفة في جميع أنحاء الماء. إذا “اختار” الكون من بين جميع الحالات الممكنة بشكلٍ عشوائي، فيمكنك المراهنة على أن ذلك سيقود إلى مجموعة كبيرة من الاحتمالات المضطربة.
بهذه الطريقة، فإن الارتفاع الكبير في الانتروبيا، أو الفوضى، وفقاً للقانون الثاني للديناميكا الحرارية، يأخذ شكلاً رياضياً بدرجة كبيرة من اليقين. لذلك يحاول الفيزيائيون بالطبع باستمرار كسر ذلك.
كاد أحدهم أن يفعل ذلك. أذهلت تجربة فكرية ابتكرها الفيزيائي الاسكتلندي جيمس كليرك ماكسويل James Clerk Maxwell عام 1867 العلماء لمدة 115 عاماً. وحتى بعد إيجاد حل لها، استمر الفيزيائيون في استخدام “شيطان ماكسويل” لدفع قوانين الكون إلى أقصى حدودها.
في التجربة الفكرية، تخيل ماكسويل تقسيم غرفة مليئة بالغاز إلى جزأين باستخدام جدار ببابٍ صغير. مثل كل الغازات، يتكون هذا الغاز من جسيمات مفردة. يتناسب متوسط سرعة الجسيمات مع درجة حرارة الغاز – كلما زادت حرارتها زادت سرعتها. ولكن في أي وقت من الأوقات، تتحرك بعض الجسيمات ببطء أكثر من غيرها.
ماذا لو افترضنا، كما اقترح ماكسويل، وجود مخلوق خيالي صغير يجلس عند الباب – شيطان، كما سُمي لاحقاً. في كل مرة يرى الشيطان جسيماً سريع الحركة يقترب من الجانب الأيسر للباب، سيقوم بفتح الباب ويسمح له بالدخول إلى الحجرة اليمنى. وفي كل مرة يقترب فيها جسيم بطيء الحركة من اليمين، سيسمح له الشيطان بالدخول إلى الحجرة اليسرى.
بعد فترة من الوقت، ستكون الحجرة اليسرى مليئة بالجسيمات الباردة البطيئة، بينما ستكون الحجرة اليمنى مليئة بالجسيمات الساخنة السريعة. يبدو أن هذا النظام المعزول أصبح أكثر تنظيما، وليس أقل، لأنه الحجرتين المختلفتين أكثر تنظيماً من الحجرتين المتطابقين. أنشأ ماكسويل نظاماً بدا أنه يتحدى ارتفاع الانتروبيا، وبالتالي قوانين الكون.
تقول لايا ديلجادو كاليكو Laia Delgado Callico، فيزيائية في كلية كينجز لندن: “لقد حاول إثبات وجود نظامٍ تنخفض فيه الإنتروبيا. إنها مفارقة.”
ساهم تطوران علميان في حل مفارقة شيطان ماكسويل. كان الأول من قبل عالم الرياضيات الأمريكي كلود شانون Claude Shannon، الذي يعتبر مؤسس نظرية المعلومات. في عام 1948، أظهر شانون أن محتوى المعلومات لرسالة معينة يمكن أن يُقاس كمياً بما أسماه إنتروبيا المعلومات. قال تاكاهيرو ساجاوا Takahiro Sagawa، فيزيائي في جامعة طوكيو: “في القرن التاسع عشر، لم يكن أحد يعرف شيئاً عن المعلومات. بزغ الفهم الحديث لشيطان ماكسويل من عمل شانون.”
الجزء الثاني الحيوي من اللغز هو مبدأ المحو principle of erasure. في عام 1961، أظهر الفيزيائي الألماني الأمريكي رولف لانداور Rolf Landauer أن أي حسابٍ غير قابلٍ للعكس، مثل محو المعلومات من الذاكرة، سيؤدي إلى تحويل قدر ضئيلٍ من الشغل إلى حرارة تنتشر في البيئة المحيطة، وبالتالي زيادة في الانتروبيا. قدم مبدأ المحو رابطاً محيراً بين المعلومات والديناميكا الحرارية. قال لاحقاً لانداور أن “المعلومات مادية”.
في عام 1982، جمّع الفيزيائي الأمريكي تشارلز بينيت Charles Bennett قطع اللغز لحل المفارقة. لقد أدرك أن شيطان ماكسويل هو في جوهره آلة لمعالجة المعلومات: فهو بحاجة إلى تسجيل وتخزين المعلومات حول الجسيمات الفردية من أجل تحديد وقت فتح وإغلاق الباب. يحتاج الشيطان بشكلٍ دوري إلى محو هذه المعلومات. وفقاً لمبدأ المحو الذي وضعه لانداور، فإن زيادة الانتروبيا الناجمة عن المحو من شأنها أن تعوض النقص في الانتروبيا الناجم عن فرز الجسيمات. قال جونزالو مانزانو Gonzalo Manzano، فيزيائي في معهد البصريات والمعلومات الكمومية في فيينا: “عليك أن تدفع” مقابل النقص في الانتروبيا. تؤدى حاجة الشيطان لإفساح المجال لمزيدٍ من المعلومات بشكلٍ مستمر إلى زيادة الفوضى.
في القرن الحادي والعشرين، بعد حل التجربة الفكرية، بدأت التجارب الحقيقية. قال ساغاوا: “أهم تطور هو قدرتنا على تحويل تجربة شيطان ماكسويل الفكرية إلى تجربة حقيقية في المختبرات”.
في عام 2007 استخدم العلماء بوابة تعمل بالطاقة الضوئية لإثبات فكرة شيطان ماكسويل؛ في عام 2010، ابتكر فريقٌ آخر طريقةً لاستخدام الطاقة التي تنتجها معلومات الشيطان لدفع خرزة نحو الأعلى؛ وفي عام 2016 طبق العلماء فكرة شيطان ماكسويل على حجرتين تحتويان على ضوءٍ بدل الغاز.
قال فلاتكو فيدرال Vlatko Vedral، فيزيائي في جامعة أكسفورد وأحد المشاركين في الدارسة: “لقد بدلنا دور المادة بالضوء”. تمكن الباحثون في النهاية من شحن بطارية صغيرة جداً بتلك الطريقة.
تساءل آخرون عما إذا كانت هناك طرقٌ أخرى لاستخدام المعلومات لاستخراج طاقة شغلٍ مفيدة من نظام مماثل. ويبدو أن بحثاً نُشر في فبراير في مجلة Physical Review Letters قد وجد طريقةً للقيام بذلك.
تساءل الفريق، بقيادة مانزانو، عما إذا كانت هناك طريقةٌ لابتكار شيءٍ مثل شيطان ماكسويل ولكن بدون متطلبات المعلومات. لقد تخيلوا نظاماً مكوناً من حجرتين مع باب، مثل تجربة شيطان ماكسويل. لكن في هذه الحالة، سيفتح الباب ويغلق من تلقاء نفسه. في بعض الأحيان، تفصل الجسيمات نفسها بشكل عشوائي في حجرات أكثر سخونة وبرودة. يمكن للشيطان فقط مشاهدة هذه العملية وتحديد وقت إيقاف تشغيل النظام. من الناحية النظرية، يمكن أن تولد هذه العملية اختلالاً بسيطاً في درجة الحرارة، وبالتالي محركاً حرارياً مفيداً، إذا كان الشيطان ذكياً بما يكفي لمعرفة موعد إنهاء التجربة وتثبيت اختلال الحرارة في مكانه، تماماً كما يعرف المقامر الذكي متى ينسحب من طاولة القمار. قال إدغار رولدان Édgar Roldán، فيزيائي في المركز الدولي للفيزياء النظرية في إيطاليا وأحد المؤلفين المشاركين في الدراسة: “يمكنك إما اللعب طوال الليل على طاولة الروليت، أو يمكنك التوقف بعد ربح 100 دولار. لسنا بحاجة إلى جهاز معقدٍ مثل شيطان ماكسويل لاستخراج طاقة الشغل في القانون الثاني للديناميكا الحرارية، يمكننا أن نكون أكثر استرخاء”. قام الباحثون بعد ذلك بتطبيق فكرة الشيطان المقامر في جهاز إلكتروني نانوي، لإثبات إمكانيته.
يمكن أن تكون هذه الأفكار مفيدةً في تصميم أنظمة حرارية أكثر كفاءة، مثل الثلاجات أو حتى في تطوير رقائق كمبيوتر أكثر تقدماً، التي قد تقترب من الحد الأساسي الذي يمليه مبدأ لانداور.
في الوقت الحالي، على الرغم من ذلك، فإن قوانين الكون الخاصة بنا آمنة، حتى عندما تخضع لأعلى درجة ممكنة من التدقيق. ما تغير هو فهمنا للمعلومات في الكون، ومعه تقديرنا لفكرة شيطان ماكسويل، التي كانت مفارقةً مزعجةً في البداية، وأصبحت الآن مفهوماً مهماً للغاية – مفهومٌ ساعد على إلقاء الضوء على الصلة الرائعة بين العالم المادي والمعلومات.