حقوق الصورة: agsandrew / Shutterstock.com
من غير المعتاد أن يتسبب ممثلٌ كوميدي بالقشعريرة لعالم فيزياء عند مناقشة قوانين الفيزياء، ولكن نجح الكوميدي تشاك نايس Chuck Nice بفعل ذلك الأمر بحذافيره في الحلقة الأخيرة من برنامج حديث النجوم StarTalk بعد شرح مقدم البرنامج، نيل ديغراس تايسون Neil deGrasse Tyson، لتوّه فرضية المحاكاة -أي فكرة أننا يمكن أن نكون كائناتٍ افتراضية تعيش في محاكاةٍ حاسوبيّة.
إذا كان الأمر كذلك، فمن المرجح أن تخلق المحاكاة تصوراتٍ للواقع عند الطلب بدلًا من محاكاة الواقع طوال الوقت، أي تمامًا مثل لعبة فيديو مطوّرة لعرض أجزاء المشهد للاعب فقط.
وبحسب ضيف الحلقة نايس، ربما هذا هو السبب في أننا لا نستطيع السفر أسرع من سرعة الضوء، لأننا إذا استطعنا فسنكون قادرين على الوصول إلى مجرةٍ أخرى، ما دفع تايسون، عالم الفيزياء الفلكية، للمقاطعة بامتنانٍ للفكرة المطروحة بقوله: “قبل أن يتمكنوا من برمجة اللعبة، ولهذا وضع المبرمج هذا الحدّ”.
قد يبدو مثل هذا الحديث مجرّد هراء، لكن منذ أن كتب الفيلسوف نيك بوستروم Nick Bostrom من جامعة أكسفورد ورقةً بحثية مؤثرة حول فرضية المحاكاة في عام 2003، لا يزال الفلاسفة والفيزيائيون والعاملون في المجال التقنيّ وحتى الكوميديون يتصارعون مع فكرة أن واقعنا هو محاكاة.
حاول البعض تحديد الطرق التي يمكننا من خلالها التمييز إذا ما كنا كائناتٍ خاضعةً للمحاكاة، وحاول آخرون حساب فرصة كوننا كياناتٍ افتراضية، ويُظهرُ تحليلٌ جديد الآن أنّ الاحتمالات التي نعيشها في الواقع الأساسي تعني وجودًا لم تتم محاكاته بالقدر الكافي.
وتُوضح الدراسة أيضًا أنه إذا كان على البشر أن يطوروا القدرة على محاكاة الكائنات الواعية على المدى البعيد، فإنّ الاحتمالات ستميل بدورها إلى حدٍ كبير لصالحنا، لكوننا مقيمين افتراضيين داخل حاسوب شخص آخر. والتحفظ في هذا الاستنتاج هو أنه لا يوجد اتفاقٌ يذكر حول معنى مصطلح “الوعي”، ناهيك عن الطريقة التي يمكن للمرء أن يحاكيه بها.
في عام 2003، تخيّل بوستروم حضارةً بارعةً من الناحية التكنولوجية تمتلك قوة حاسوبية هائلة وتحتاج إلى جزء بسيط من تلك القوة لمحاكاة حقائق جديدة مع كائناتٍ واعية فيها. بالنظر إلى هذا السيناريو، أظهرت فرضية المحاكاة التي قدمها الفيلسوف أنّ اقتراحًا واحدًا على الأقل في الثلاثية التالية يجب أن يكون صحيحًا: أولًا: عادةً ما تنقرض الحضارات قبل تطوير القدرة على إنشاء محاكاة الواقع، ثانيًا: عادةً لا تهتم الحضارات المتقدمة بإنشاء محاكاة للواقع، ثالثًا: يكاد يكون من المؤكد أننا نعيش داخل محاكاةٍ حاسوبيّة.
قبل بوستروم، روّج فيلم الماتريكس The Matrix لمفهوم محاكاة الواقع. كما أنّ للفكرة جذور عميقة في التقاليد الفلسفية الغربية والشرقية، من قصة رمزية كهف أفلاطون إلى حلم جوانج زو Zhuang Zho بالفراشة. وأما عن الآونة الأخيرة، فقد أعطى إيلون ماسك Elon Musk مزيدًا من الدعم لمفهوم أن واقعنا هو محاكاة بعد أن صرّح في مؤتمرٍ عُقِد عام 2016 بأنّ احتمالات أننا في الواقع الأساسي الوحيد هي واحدة من مليارات الاحتمالات.
بدوره أوضح عالم الفلك بجامعة كولومبيا ديفيد كيبينغ David Kipping أنّ ماسك محقّ إذا ما افتُرِض أنّ الافتراضين الأولّ والثاني من الافتراضات المعروفة أيضًا باسم ثلاثية بوستروم خاطئان، ولكن كيف يمكنه أن يفترض ذلك؟
للحصول على معالجة أفضل لحجة المحاكاة التي يقدمها بوستروم، قرر كيبينج اللجوء إلى التفكير البايزيBayes’s theorem ويستخدم هذا النوع من التحليل نظرية بايز، التي سميت على اسم توماس بايز Thomas Bayes، الإحصائي والوزير الإنجليزي من القرن الثامنة عشر، إذ يسمح تحليل بايز للفرد بحساب احتمالات حدوث شيء ما (يسمى الاحتمال “اللاحق”) من خلال وضع افتراضات أولًا حول الشيء الذي يُحلَّل (تعيين الاحتمال “المسبق” له).
بدأ كيبينج بتحويل المأزق الثلاثي إلى معضلة، بعد أن انهار الافتراضين الأول والثاني في بيان واحد، لأنه في كلتا الحالتين، فإنّ النتيجة النهائية هي عدم وجود محاكاة. وبالتالي، فإن المعضلة تضع فرضية فيزيائية (لا توجد محاكاة) ضد فرضية المحاكاة (هناك حقيقة أساسية، وهناك محاكاة أيضًا).
يقول كيبينغ: “إنك تعيّن فقط احتمالًا مسبقًا لكل من هذه النماذج. نحن نفترض فقط مبدأ اللا مبالاة، وهو الافتراض الافتراضي عندما لا يكون لديك أي بيانات أو ميول في كلتا الحالتين”.
لذلك، تحصل كل فرضية على احتمال مسبق بمقدار النصف، كما لو كان على المرء أن يقلب عملة ليقرر رهانًا.
تطلبت المرحلة التالية من التحليل التفكير في الحقائق “الأولية” -تلك التي يمكن أن تولد حقائق أخرى- والحقائق “العديمة الولادة” -تلك التي لا تستطيع محاكاة حقائق الأبناء. إذا كانت الفرضية الفيزيائية صحيحة، فسيكون من السهل حساب احتمال أننا كنا نعيش في كون خالٍ من الولادة: وسيكون كيبينغ قد أظهر 100%. بعد ذلك أنه حتى في فرضية المحاكاة، فإن معظم الحقائق المحاكاة ستكون عديمة الولادة. ويرجع ذلك إلى أنه نظرًا لأن عمليات المحاكاة تنتج المزيد من عمليات المحاكاة، فإن موارد الحوسبة المتاحة لكل جيل لاحق تتضاءل إلى درجة أن الغالبية العظمى من الحقائق ستكون تلك التي لا تتمتع بالقوة الحاسوبية اللازمة لمحاكاة حقائق الأبناء القادرة على استضافة كائنات واعية.
بإمكانك أن تقوم بتوصيل كل هذه الأمور في معادلة بايزي، وستخرج الإجابة: الاحتمال اللاحق الذي نعيشه في الواقع الأساسي هو تقريبًا نفس الاحتمال اللاحق بأننا محاكاة، مع ميل الاحتمالات لصالح الواقع الأساسي بمقدار سميدجن smidgen.
ستتغير هذه الاحتمالات بشكل كبير إذا أنشأ البشر محاكاة مع كائنات واعية بداخلها، ما سيغير الفرص التي خصصناها سابقًا للفرضية الفيزيائية. ويقول كيبينغ: “يمكنك استبعاد تلك [الفرضية] فورًا لتتبقى لك فقط فرضية المحاكاة. اليوم الذي نخترع فيه تلك التكنولوجيا، ستُقلب الاحتمالات من 50-50 أننا حقيقيون إلى شبه تأكيد أننا لسنا حقيقيين، وفقًا لهذه الحسابات. سيكون احتفالًا غريبًا جدًا بعبقريتنا في ذلك اليوم”.
نتيجة تحليل كيبينج هي أن، في ضوء الأدلة الحالية، ماسك مخطئ بشأن احتمالات واحد في المليارات التي ينسبها لنا للعيش في الواقع الأساسي ويوافق بوستروم على النتيجة، ولكن مع بعض التحذيرات بقوله أنّ هذا لا يتعارض مع حجة المحاكاة، التي تؤكد فقط شيئًا ما حول الانفصال وفكرة أن أحد الافتراضات الثلاثة للمثلثية صحيحة.
لكن بوستروم يعترض على اختيار كيبينغ لتعيين احتمالات سابقة متساوية للفرضية الفيزيائية وفرضية المحاكاة في بداية التحليل، ويقول: “إن التذرع بمبدأ اللامبالاة هنا مهزوز نوعًا ما ويمكن للمرء أن يستدعيها بنفس القدر على البدائل الثلاثة الأصلية، والتي من شأنها أن تمنحهم فرصة الثلث لكل منهم. أو يمكن للمرء اقتطاع مساحة الاحتمال بطريقة أخرى والحصول على أي نتيجة يتمناها”.
هذه المراوغات صحيحة لأنه لا يوجد دليل يدعم واحدة منهم على الأخرى، وسيتغير هذا الموقف إذا تمكنا من العثور على دليل على محاكاة. هل يمكنك اكتشاف خلل في المصفوفة؟
لقد فكر حومان أوهادي Houman Owhadi، خبير الرياضيات الحسابية في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، في هذا السؤال، وقال: “إذا كانت المحاكاة تتمتع بقوة حوسبة لا نهائية، فلا توجد طريقة يمكنك من خلالها رؤية أنك تعيش في واقع افتراضي، لأنه يمكن أن تحسب ما تريد إلى درجة الواقعية التي تريدها. إذا كان من الممكن اكتشاف هذا الشيء، عليك أن تبدأ من المبدأ القائل بأنه [لديه] موارد حسابية محدودة”. فكر مرة أخرى في ألعاب الفيديو، التي يعتمد الكثير منها على البرمجة الذكية لتقليل الحسابات المطلوبة لبناء عالم افتراضي.
بالنسبة لأوهادي، فإن الطريقة الواعدة للبحث عن المفارقات المحتملة الناتجة عن مثل هذه الاختصارات الحاسوبية هي من خلال تجارب فيزياء الكم حيث يمكن أن توجد الأنظمة الكمية في تراكب الحالات، ويوصَف هذا التراكب بواسطة تجريد رياضي يسمى دالة الموجة.
في ميكانيكا الكم القياسية، يتسبب فعل المراقبة في انهيار وظيفة الموجة هذه بشكل عشوائي إلى واحدة من العديد من الحالات الممكنة، وينقسم الفيزيائيون حول ما إذا كانت عملية الانهيار أمرًا حقيقيًا أم أنها تعكس فقط تغييرًا في معرفتنا بالنظام، ويقول أوهادي: “إذا كانت مجرد محاكاة بحتة، فلا يوجد انهيار. كل شيء يتقرر عندما تنظر إليه. الباقي هو مجرد محاكاة، مثل عندما تلعب ألعاب الفيديو هذه”.
تحقيقًا لهذه الغاية، عمل أوهادي وزملاؤه على خمسة اختلافات مفاهيمية لتجربة الشق المزدوج، كل منها مصمم لرحلة محاكاة، ولكنه يقر بأنه من المستحيل في هذه المرحلة معرفة ما إذا كانت مثل هذه التجارب يمكن أن تنجح ذاكرًا: “هذه التجارب الخمس مجرد تخمينات”.
استمتعت أيضًا زهره داودي Zohreh Davoudi، عالمة الفيزياء في جامعة ميريلاند بكوليدج بارك، بفكرة أن المحاكاة بموارد حوسبة محدودة يمكن أن تكشف عن نفسها يركز عملها على التفاعلات القوية، أو القوة النووية القوية التي هي إحدى القوى الأساسية الأربعة للطبيعة.
تعتبر المعادلات التي تصف التفاعلات القوية، والتي تربط جسيمات دون الذرية معاً لتشكيل البروتونات والنيوترونات، معقدةً للغاية بحيث لا يمكن حلها تحليلًا. ولفهم التفاعلات القوية، يضطر الفيزيائيون إلى إجراء عمليات محاكاة عددية. وعلى عكس أي حضارات خارقة مفترضة تمتلك قوة حوسبة لا حدود لها، يجب أن تعتمد على طرق مختصرة لجعل تلك المحاكاة قابلة للتطبيق حسابيًا – عادة من خلال اعتبار الزمكان منفصلًا وليس مستمرًا وكانت النتيجة الأكثر تقدمًا التي تمكن الباحثون من إقناعها من هذا النهج حتى الآن هي محاكاة نواة واحدة من الهيليوم تتكون من بروتونين ونيوترونين.
بطبيعة الحال ووفقًا لداوودي، تبدأ سلسلة من التساؤلات، إذا قمت بمحاكاة نواة ذرية اليوم، ربما في غضون 10 سنوات، يمكننا عمل نواة أكبر. ولربما في غضون 20 أو 30 عامًا، يمكننا صنع جزيء. وفي غضون 50 عامًا، من يدري، ربما يمكنك القيام بشيء بحجم بضع بوصات من المادة. وربما في غضون 100 عام أو نحو ذلك، يمكننا صنع العقل البشري.
وبحسبب داوودي، فإن أجهزة الكمبيوتر الكلاسيكية ستصطدم قريبًا بالحائط. وتقول: “ربما في السنوات العشر إلى العشرين القادمة، سنرى في الواقع حدود عمليات المحاكاة الكلاسيكية للأنظمة الفيزيائية”. وبالتالي، فإنها تحول أنظارها إلى الحساب الكمي، الذي يعتمد على التراكب والتأثيرات الكمية الأخرى لجعل مشاكل حسابية معينة يمكن تتبعها، والتي ستكون مستحيلة من خلال الأساليب الكلاسيكية وإذا تحققت الحوسبة الكمومية فعليًا، بمعنى أنها خيار حوسبة موثوق به على نطاق واسع بالنسبة لنا، فسندخل حقبة مختلفة تمامًا من المحاكاة وذكرت داوودي أنها بدأت تفكر في كيفية إجراء عمليات المحاكاة الخاصة بها لفيزياء التفاعل القوي والنواة الذرية إذا كان لديها كمبيوتر كمي قابل للتطبيق.
كل هذه العوامل دفعت داوودي إلى التكهن بفرضية المحاكاة. إذا كان واقعنا عبارة عن محاكاة، فمن المحتمل أن يقوم المحاكي أيضًا بتقدير الزمكان لتوفير موارد الحوسبة (على افتراض، بالطبع أنه يستخدم نفس الآليات التي يستخدمها علماء الفيزياء لدينا لتلك المحاكاة). يمكن رؤية بصمات مثل هذا الزمكان المنفصل في الاتجاهات التي تصل منها الأشعة الكونية عالية الطاقة: سيكون لها اتجاه مفضل في السماء بسبب كسر ما يسمى التناظر الدوراني.
تقول داوودى إن التلسكوبات لم تلاحظ أي انحراف عن ثبات الدوران هذا حتى الآن وحتى لو شوهد مثل هذا التأثير، فلن يشكل دليلًا قاطعًا على أننا نعيش في محاكاة ويمكن أن يكون للواقع الأساسي نفسه خصائص مماثلة.
وإنّ كيبينج، وعلى الرغم من دراسته الخاصة، قلقٌ من أن مزيدًا من العمل على فرضية المحاكاة يتم على مهل، وبحسب قوله: “يمكن القول إنه لا يمكن اختبار ما إذا كنا نعيش في محاكاة أم لا. إذا لم يكن من الممكن تزويره، فكيف تدعي أنه علم حقًا؟”.
بالنسبة له، هناك إجابة أكثر وضوحًا: شفرة أوكام Occam’s razor التي تقول إنه في حالة عدم وجود أدلة أخرى، فمن المرجح أن يكون التفسير الأبسط صحيحًا ففرضية المحاكاة متقنة، تفترض الحقائق المتداخلة في الواقع، بالإضافة إلى الكيانات المحاكاة التي لا يمكنها أبدًا أن تخبر أنها داخل محاكاة وذكر أنه: “نظرًا لأنه نموذج معقد للغاية ومتطور في المقام الأول. بواسطة شفرة أوكام ، يجب حقًا أن يكون محبطًا، مقارنة بالتفسير الطبيعي البسيط”.
ربما نعيش في الواقع الأساسي بعد كل شيء، إذا غضضنا النظر عن المصفوفات وماسك وفيزياء الكم الغريبة.