متى يبدأ التعلم؟ عند سماعِ هذا السؤال قد يعتقدُ البعض أن التعلم يبدأ في اليوم الأول من المدرسة، أو الحضانة، أو في مرحلة الطفولة التي يتعلمُ فيها الطفل المشي والكلام؛ أي أن معظمنا يركز على فترة ما بعد الولادة. في الواقع، سنقدمُ اليوم فكرةً قد تبدو مُفاجئةً، أو حتى لا تُصدق، وهي أنَّ بعضًا من أهم ما تعلمناهُ في حياتنا حدثَ قبل أن نُولد؛ عندما كنا لا نزالُ داخل الرحم!
يقترحُ البحثُ الجديدُ أن استيعابَ الأطفالِ للغة يبدأ في الأسابيع العشرةِ الأخيرة من الحمل وهم داخل الرحم، وأنَّهم بعد ساعاتٍ قليلةٍ من ولادتهم يكونون قادرين على التفريقِ بين لغة أمهم الأصلية واللغاتِ الأجنبيةِ الأُخرى. في الواقع، نتعلمُ العديد من العملياتِ الاجتماعية، واللغوية، والعاطفية بالاستماع لأصواتِ أمهاتنا، وأظهرت الدراسات أن صوت الأم يكون ذا وصولٍ سريعٍ إلى العديد من أنظمة الدماغ المختلفة. بناءً على هذا، فإنَّ الرسالةَ الأساسية للأمهاتِ الجديدات هي أن أطفالهنَّ يستمعون، ويتعلمون، ويتذكرون أثناء المراحل الأخيرة من الحمل.
كيفَ تمكنَ الباحثون من معرفةِ ذلك؟
استخدموا مصاصةً عاليةَ التقنية، مُتصلةً بحاسوبٍ يقيسُ تفاعلَ الأطفال مع الأصوات. شملت الدراسة 80 رضيعًا من بلدان مختلفة تبلغُ أعمارهم وسطيًا 30 ساعةً. أسمعهم الباحثون الأحرفَ الصوتية بلغتهم وبلغةٍ أُخرى أجنبية أثناءَ مصِّ اللهّاية، والسبب في ذلك أن الأحرف الصوتية هي أعلى وحداتِ الكلام. يشيرُ عدد مراتِ مصِّ المصاصة إلى أصواتِ الأحرف التي جذبت انتباههم. تشيرُ النتائج إلى أن الأطفال استغرقوا وقتًا أطول في المص حين سمعوا الأحرف الصوتية بلغةٍ أجنبية مقارنة مع سماعها بلغتهم الأم.
أُجريت تجربةٌ أُخرى على 24 طفلًا تتراوح أعمارهم بين 7 و12 سنة لمعرفة المناطق المتأثرة في الدماغ حين سماعِ الطفل صوتَ أمه. استنتج العلماء من هذه التجربة أنه حتى مع المقاطعِ الصوتيةِ القصيرة التي تقلُّ عن ثانيةٍ واحدة، تمكنَ الأطفال من التعرف على أصوات أمهاتهم بنسبة 97%، ومن المثيرِ للدهشة أن المناطق السمعيةَ ليست الوحيدة التي استجابت؛ إذ تفاعلت أيضًا مناطقُ الدماغ التي تتعامل مع العواطف، مثل اللوزة Amygdala، والمناطق التي تعالجُ معلوماتٍ عن الذات، بما في ذلك شبكة الحالة الافتراضية Default mode network، والمناطقُ المعنيةُ بإدراكِ ومعالجةِ رؤية الوجوه. يُعتبرُ هذا نموذجًا جديدًا مُهمًا للتحقيق في أوجهِ قُصورِ التواصلِ لدى الأطفال الذين يعانون من اضطراباتٍ مثل التوحد Autism. من المُثيرِ أن نرى صدى أصواتِ أمهاتنا يستمر في العديد من أنظمة الدماغ، إذ يمكنُ للجنين سماعُ صوت والدته بوضوح لأنه يُضَخَمُ داخلَ جسمِهَا، أما بالنسبة للآباء فإن أصواتهم ليست مسموعةً داخل الرحم.
لذلك، يجب على الأم الحامل أن تكون على يقين بأن طفلها يدرك ويفهم الأصوات التي توفرها له أثناء نموه داخل رحمها. إضافةً لذلك فإن الطفل يتأثرُ بطريقة الكلامِ أيضًا، لهذا يجبُ أن تحرصَ الأم على التحدث بطريقةٍ هادئة ومسترخية، وأن تتجنبَ الصراخَ والضجةَ ولغاتِ العنف الأُخرى.
كما أكد الباحثون على أن البيئةِ التي ينمو فيها الجنين -رحم الأم- مهمةٌ جدًا، وأن التأثيرات التي تتعرضُ لها يمكن أن تكون مدمرة كالتدخين والمخدرات، ولكن بعضها أقلُ وضوحًا، كالاكتئاب أو المجاعات أو الحروب التي قد تحيطُ بالأمِ الحامل.
يستمر الجنين في تلقي رسائل من والدته أثناء نموه داخل رحمها، ولا يقتصرُ الأمرُ على سماع دقات قلبها أو الموسيقى التي تُعزفُ على بطنها، بل ويتلقى إشاراتٍ كيميائية عبر المشيمة من ضمنها إشاراتٌ تعلقُ بالحالةِ النفسية للأم.
بعضُ الباحثين قلقون قليلًا من أنَّ الأمهاتِ قد يأخذن الموضوع إلى حدودٍ بعيدة، كالاشتراكِ في روزيتا ستون Rosetta Stone، وهي برمجيةٌ لتعليم اللغات عبر الحاسوب، أو شراءِ الأشرطةِ اللغوية لإعطاء أطفالهن قفزةً استباقية في مجال تعلم اللغات. نحنُ نعلمُ أن الأجنةَ قادرون على سماعِ أصواتِ أمهاتهم، لكن هذا لا يعني أنه على الأمهات الحصول على شرائط لغوية وتعليم الأطفال لغاتٍ جديدة أثناء وجودهم داخلَ الرحم. أجرى الباحثون اختبارات للأمهات وأجنتهم قبل وبعد الولادة لمعرفة مدى تأثير حالة الأم على تطور جنينها، ووجدوا شيئًا مثيرًا للاهتمام، فقد لاحظوا أُن الأجنة الأفضل والأسرعِ تطورًا تمتعت أمهاتهن بصحةٍ جيدةٍ قبل وبعد الولادة، أو كنّ مكتئباتٍ قبلَ وبعدَ الولادة، أما الأمهاتُ اللواتي كُنَّ مكتئباتٍ قبل الولادة وعولجن بعد الولادة، أو العكس، فقد كانت أجنتهنَّ الأبطأ تطورًا!
هكذا نلاحظُ أن ما يؤثرُ في تطور الجنين هو تغير الظروف. من السخريةِ أن نحلَّ هذه القضية بترك الأم المكتئبة قبل ولادتها على حالها، إنَّ الحل المنطقي هو إجراء فحوصٍ دائمةٍ للأمهات الحوامل لمعرفةِ فيما إذا كانت إحداهنَّ مكتئبةً بهدف معالجتها قبل الولادة، وهو ما يجعلُ الأمر صعبًا، فمن النادر إجراء هذا الفحص للحوامل.
خلاصةً، إنَّ الأطفال يتعلمون ويضبطون طريقة كلامهم في وقتٍ أبكر مما كان نعتقد، وهذا يشيرُ إلى أنّ أهمية كلامِ الأم مع طفلها لا يقتصر على المرحلة الأخيرةِ من الحملِ فحسب، بل يجب على الأم أن تستمر في التحدث إلى مولودها الجديد بعد ولادته بهدف تسهيل تطور اللغة لديه.