كيف شكّلت الطاقة المظلمة عالمنا؟ حقوق الصورة: NASA’s Goddard Space Flight Center
يخبرنا علماء الكونيات أن تلك القوة وراء التّوسع المتسارع للكون، والتي نسميها بالطاقة المظلمة، تبقى ثابتة ولا تتغير. ولكن هذا ما نرصده في الوقت الحاضر فحسب، فوفقًا لبحث جديد، فمن المحتمل أن الطاقة المظلمة قد تغيرت في الماضي، وأن هذا التغير ملأ الكون بالجزيئات التي نعرفها.
دعونا نبدأ بما يحدث في الحاضر، هناك شيء غريب يحدث في الكون، إنه يتوسع، ولكنه أيضًا مليء بالمادة، فيجب أن تبطئ جاذبية كل هذه المواد من وتيرة توسع الكون مع مرور الوقت، ومع ذلك فإن التوسع لا يتباطأ، إنه حتى لا يبقى على الوتيرة نفسها، بل إن سرعته تزداد مع مرور الوقت.
مع مرور كل يوم، يصبح كوننا أكبر وأكبر بشكل أسرع وأسرع، ويطلق علماء الكونيات على هذا التّوسع المتسارع اسم (الطاقة المظلمة)، وتعود تسميتها بهذا الاسم إلى أنه ليس لدينا أدنى فكرة عن سببها، أو من أين تأتي، أو ماذا ستسبب في المستقبل. كل ما نعرفه أن هذه الطاقة ظهرت منذ 5 مليارات سنة وبقيت تحوم في كوننا حتى هذه اللحظة. بالإضافة إلى أن قوة الطاقة المظلمة (قياسًا على كثافتها) ظلت ثابتة إلى حد كبير أثناء تلك الخمسة مليارات سنة الماضية، فلا يبدو أنها تزداد قوةً أو ضعفًا مع مرور الوقت، مما يجعلها ثابتًا كونيًا.
ولكن الكون المبكر كان مكانًا للعجائب، فمن الممكن حدوث أمور أكثر غرابة قبل فترة طويلة. وإن كانت قد حدثت فمن الممكن أن تكون لها تأثيرات كبيرة على بقية التاريخ الكوني.
ثم كان هناك ضوء
في حين أننا بالكاد نفهم طبيعة أو سبب الطاقة المظلمة، فإننا نعلم أنها لا تستطيع أن تفعل أكثر من تسريع توسع الكون، ذلك لأن الكون في أيامنا هذه (من وجهة نظر فلكية) عتيق وبارد، وفي الغالب مميت.
وعندما نقول أنَّ الكون عتيق، نعني بذلك أنه لا توجد طاقة كبيرة (مظلمة أو غير ذلك) كافية لتملأه، فإذا قامت الطاقة المظلمة بفعل غريب الآن، مثل أن تتغير مع مرور الوقت، لن يكون لها تأثير كبير، لأن الطاقة المظلمة ضعيفة بشكل لا يصدق. صحيح أنها تقوم بتسريع توسع الكون، ولكنها تقوم بذلك بشكل طفيف للغاية، ولهذا السبب استغرق الأمر وقتًا طويلًا قبل أن نرصد تأثيراتها. هذا الضعف يحد ما يمكن أن تفعله الطاقة المظلمة اليوم وما يمكننا أن نعرفه عنها، فلا تترك الطاقة المظلمة الكثير من الآثار لكي يرصدها علماء الكونيات. ولكن الكون المبكر كان أكثر سخونة وكثافة وتراصًا، وبشكل خاص أكثر نشاطًا.
صحيح أن الطاقة المظلمة ظهرت في المشهد الكوني منذ 5 مليارات سنة فقط، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن يكون هذا ظهورها الأول. فمن الممكن أن يكون للطاقة المظلمة تأثيرٌ خلال المراحل المبكرة للكون، وذلك قبل أن تستقر في الخلفية بشكل مؤقت.
لذلك بحث فريق من علماء الفيزياء النظرية ما كان يمكن أن تفعله هذه الطاقة المظلمة المبكرة، ونشروا نتائج بحثهم في نوفمبر 2019 في ورقة عبر منصة أركايف arXiv.org.
وجد الباحثون أن تلك الاختلالات الطفيفة في الطاقة المظلمة قد تكون غمرت الكون بالجسيمات الغريبة مثل الكواركات والغلونات والليبتونات التي في النهاية كوّنت الذرات التي نعرفها ونحبها.
كونٌ أفضل
وفقاً لهؤلاء الباحثين، فإن فيضان الجسيمات التي تسببت به الطاقة المظلمة، لا بد أنه حدث بعد (التضخم)، الوقت الذي نما فيه الكون المبكر بشكل هائل في فترة قصيرة جدًا. بعد هذا التضخم، كان الكون خاليا تماما، فتناثرت جميع الجسيمات بعد التضخم، مثلما يتناثر الغبار في مهب الريح. كان يجب أن يأتي شيء بعد ذلك لإعادة تسخين الكون لخلق جسيمات جديدة. ذلك الشيء جاء بالفعل، ونطلق عليه (الانفجار العظيم).
يعتقد معظم العلماء النظريين أن ما سبب ذلك التضخم هو الشيء نفسه الذي سبب الانفجار العظيم. لكن هذا البحث الجديد يقترح أن الطاقة المظلمة المبكرة يمكن أن تكون خلقت فيضان الجسيمات بواسطة فقدانها لطاقتها. مع أنها قصة مثيرة لكن يجب أن يدعم هؤلاء العلماء فرضيتهم بأدلة تناسب عمليات الرصد السابقة التي وطدت فهمنا للانفجار العظيم والتضخم. إذا كانت الطاقة المظلمة مسؤولة عن الانفجار العظيم، عندها يجب أن نرى تغييرات بسيطة للنموذج القياسي لإشعاع الخلفية الكونية الميكروي، الذي بدوره سيؤثر في نمط المجرات في الكون الحديث.
توافق النموذج الجديد للانفجار العظيم مع كل عمليات الرصد الحالية حتى الآن، وبطريقة أفضل من النظريات التقليدية للتضخم. مع ذلك، ليس لدينا معلومات كافية للتأكد، فربما تكون هذه النتائج الإيجابية مجرد صدفة إحصائية. قد تساعد الأجيال الجديدة من أدوات الفيزياء الفلكية، مثل تلسكوب ناسا الماسح بالأشعة تحت الحمراء Wide-Field Infrared Survey Telescope أو اختصاراً (WFIRST) في منح العلماء فهمًا أفضل للطاقة المظلمة ودورها في الكون المبكر والكون الحالي.