حقوق الصورة: beingpatient

من الصَّعب التَّخلص من الذكريات الزائفة رغم علمنا بأنها غير صحيحة!

• في دراسةٍ صَدرَت عام 2021، اكتشف الباحثون أن التَّخلُّص الكامل من الذكريات المزيّفة ليس مُمكنًا على الدَّوام.

• قد يتوقَّف الناس عن الإقرارِ بصِدق ذكرى ما، ورغمًا عن ذلك تبقى الصُّور والسَّرد الخاص بها في الذّاكرة. تُسمَّى في هذه الحالة بالذكرى غير المُصدَّقة (non-believed memory).

• يُعد خلق ذكرى مزيّفة أمرًا مزعجًا، وخاصةً عندما تؤدِّي الذكرى إلى تفكُّك الأسرة، أو إلى إرسال أحدهم إلى السِّجن.

تُسبِّب الذكريات المزيّفة مشكلاتٍ حقيقةً، فقد يتسبَّب الخطأ في التَّعرف على رجلٍ ما في الإيداع بأحدهم في السّجن ظلمًا، وقد تتسبب ذكرى مُزيفة من أيّام الطفولة إلى تفكُّك العائلة. لكن ماذا لو كان هناك طرقٌ لإبطالِ الذكريات المزيفة؟

ماذا تكشف لنا الدراساتُ عن الذكريات المُزيفة؟
في دراسةٍ جديدةٍ، تكشف لنا آيلين أوبريست (Aileen Oeberst) وزملاؤها بعضَ التِّقنيات التي تُمكِّنُنا من مَحو ذكرياتنا المُزيفة. إن كُنت ترغبُ في التَّخلُّص من الذِّكريات المُزيفة فيجب عليك أولًا صُنعُ البعضِ. قامت أوبريست وزملاؤها بذلك بطريقةٍ مثيرةٍ للاهتمام. كغيرِها من الباحثين، فقد طلبت من آباءِ أولئك المشاركين في الدِّراسة سَردَ أوصافٍ قصيرةٍ لأحداثٍ حقيقيَّةٍ، ثم طلبت من الآباءِ سَرد حدثين آخرَين مُحتمَلين ولكن زائفين؛ أي أحداثٍ منطقيَّة الحُدوث ولكن لم تحدُث بالفِعل. كان هذا الطلبُ ابتكارًا جيدًا، ففي مُعظم الدِّراسات، استخدم الباحثون حدثًا زائِفًا واحدًا مع المشاركين كلِّهم، لكنّ هذه الطريقة وفَّرت أحداثًا منطقيّة بشكلٍ فرديٍّ.

عقب ذلك، عقد المُحاوِرون المُدرَّبون – والجاهلون بكون أيِّ الأحداثِ حقيقيًّا وأيها مُزيَّفًا- جَلَساتٍ مُتكرِّرة للطلبِ من المشاركين مُحاولة تذكُّرِ الأحداثِ كلّها. دائمًا ما تنفع هذه التقنية، إذ يبدأ النّاس بابتكارِ ذكرياتٍ مُزيَّفة في هذا النوعِ من النَّماذج. خلقت أوبريست وزملاؤها العديدَ من الذكرياتِ المُزيّفة. في منهجيّتهم الأقوى، اختلَقَ أكثر من 50% من المشاركين ذكرياتٍ مُزيَّفة، وزعموا أنها تخصُّهم.

ولكن هل من المُمكن مَحو الذكريات؟
في مُحاولةٍ لإبطالِ هذه الذكريات، استخدمت أوبريست وزملاؤها طريقتين. أُولاهما إخبارُ المشاركين بأن الجميعَ يملكُ ذكرياتٍ أتت من مصادرَ أُخرى كقصةٍ أو صورٍعائليَّةٍ تبنَّيناها كأنها تخصُّنا، أمّا الثانية فهي إخبارُهم أن تعرّضَنا المُتكرّر للسؤالِ عن حدثٍ زائفٍ بعَينِه قد يودي بنا إلى تَصديقِ وجودِه، وبناءِ ذكرياتٍ مُزيفة عنه.

دفعَت كلتا الطّريقتين البعض إلى تناقصِ ثِقتهم بِذِكرياتِهم المزيَّفة التي صَنعوها، وادّعى بعضُهم أنه ما عاد يتذكّر حدوث تلك الأحداث المُزيفة، رغم إيمانهم بأنّها حقيقيّة. بهذه الطريقة، كانت للتقنيات القدرةُ على محوِ ادّعاءاتِ التَّذكر. كانت تأثيراتُ المَحو قليلةً، ولكن مُعتَد بها.

بعد عدّة شهور، قامت أوبريست وزملاؤها بجلسةِ مُتابعةٍ للمشاركين، وتُعد هذه الخطوةُ ابتكارًا رائعًا. ليس من المعروف وجودَ أيِّ دراساتٍ أخرى تابعت مُتابعةً طويلةِ المَدى للذكريات المُخلَّقة أثناء الدِّراسة.

خلال المُتابعة لمدّة عامٍ واحدٍ، ادَّعى القليلُ جدًا من المُشاركين تذكُّرَ أو قُبولَ أن تلك الأحداثَ المُزيفة قد حدثَت بالفِعل، وقد تتسائل إن كان محوُ الذكريات الزائفة استغرقَ ببساطةٍ المزيدَ من الوقتِ، ولكن تضمّنت الدِّراسةُ تلاعُبًا آخرًا، ففي نهاية الجزءِ الأولِ من الدِّراسة، استُجوِبَ المُشاركون، ونظرًا لأن الباحثين مُلزمون –كجزءٍ من الكودِ الأخلاقي- بتفسيرِ الدِّراسة عند انتهائها؛ أخبرت أوبرست وزملاؤها جميعَ المشاركين أن بعضَ الذكرياتِ كانت مُزيَّفةً، وعلى الأغلَب أُعلِم المشاركون أيها المُزيّف على وجهِ التَّحديد. تطلَّب مَحو الذكرياتِ إخبارَ المشاركين صَراحةً أيًّ الذكرياتِ هي المُزيَّفة.

لكن هل يُعدّ هذا دليلًا فعالًا على محوِ الذكرياتِ المُزيفة؟ لا، على الأغلب.

الذِّكريات غير المُصدَّقة
عندما أعلُم المشاركون بأنَّ إحدى الذكريات كانت مُزيَّفة لأغراضٍ بحثيَّةٍ، تقبَّلوا ذلك. ولكنهم على الأرجَح لم يتخلَّصوا من الصُّور المُصاحبة لخَلقِ تلك الذِّكرى، كما أنهم لم يتخلصوا فجأةً من السَّرد الذي بنوه، فما زالت تلك الصورُ والقصصُ في رؤوسهم.

بدلًا من محوِها، أعادوا تقييم تلك المعلومةِ، إذ قرروا أنهم لم يعودوا يصدِّقون تلك الصور، وأن تلك القصص كانت من وحيِ خيالهم الخاص. سمّى آلان سكوبوريا (Alan Scoboria) وزملاؤه هذه الذكريات بالذّكريات غير المُصدَّقة. نحن جميعًا نملكُ البعضَ منها. تلك الأحداث التي نشعُر بكونِها جزءًا من ذاكرتِنا، لكننا واثقون -بشكلٍ كبير- بعدمِ حدوثِها.

فشلت الجهودُ المبذولة لمحوِ الذّكريات في محو الصُّور والقصص الخاصة بها، لكنها نجحت في التّخلص من الاعتقادِ بصدقِ حُدوثِها. يمكن اعتبارُ ذلك نجاحًا جزئيًّا في محوِ الذكرياتِ المُزيفة.

تضعُنا الذكرياتُ غير المُصدَّقة في وضعٍ مثيرٍ للاهتمام والإحراجِ كليهما. فهي تبدو لنا كالذكريات الحقيقيّة، ولكننا نفقد ثقةِ الاعتقادِ بصِدقِها، فقد يكون الناسُ واثقين تمامًا بعدم صحّة وجود تلك الذكرى، ومع ذلك تبقى الصور والسَّرد في أذهانِهم.

لننظر إلى هذين المِثالَين، أحدهما هو مثالٌ مشهورٌ لتحديد هويةٍ خاطئةٍ لمُتهمٍ ما، فمن خلالِ تكرارِ صورِ رجلٍ بريء وتشكيلاتِها، تعرفت جينيفر طومسون (Jennifer Thompson) على الشخص الخطأ على أنه مُغتصبِها. نتيجةً لذلك أُرسِل رونالد كوتون (Ronald Cotton) للسجنِ ظُلمًا في جريمةٍ لم يرتكبها مُطلقًا. ثم بُرِّئَ لاحقًا بناءً على نتائِج الحِمض النَّووي.

والأمر المُربك هو أنه عند إعلام جينيفر بأنّها تعرَّفت على الرَّجلِ الخاطئ باعتباره مُغتصبها، لم تتغيَّر ذكراها عنه. تغيَّر اعتقادُها بصحَّة تلك الذكرى، ولكن بقيت ذكرى رونالد كمُغتصبِها على حالِها. كوّنت جينيفر ذكرى غير مُصدّقة.

المثالُ الآخر للذكرى غير المُصدقة يأتي من دراسةٍ أجراها كاتب المقال الباحِث إرا هايمان (Ira Hyman). إذ أجرى دراسةً أصليّةً بمُشاركةِ طُلابه حول خلقِ الذكريات المُزيّفة في فترة الطفولة. كوّن المُشاركون ذكرى عن سكبِهم الكأس على والدي العَروس في إحدى حفلاتِ الزَّفاف، ودائمًا ما يَحكي إرا قصةَ هذه الدِّراسة في فُصولِه لمادَتي الذَّاكرة وأخلاقِيات البَحث العِلمي. بعد أحدِ الفُصول، حدّثته طالبةٌ يافعة عن رَوعة تجربةِ مُشاركتِها في تلك الدِّراسة. وحدَّثته أنها ما زالت تَرى نفسها تسكُب ذلك الكأسَ. ذكّرها إرا أن ذلك لم يحدُث فعليًّا وأنها كانت ذكرى مُختلقَة فحسب. وافقتهُ الطالبة على ذلك، ولكنّها أقرّت بأن تلك الذكرى ما زالت موجودةً.

تبقى الذكريات، حتى وإن كنا توقّفنا عن تصديقِ حدوثها فعليَّا. يمكننا التّوقف عن الاعتقاد بأنها حقيقيّة، لكن قد تبقى الصور والقصص في ذاكرتنا رغمًا عن ذلك. كانت الدِّراسة التي أجرتها أوبريست وزملاؤها جيَّدة، لكنهم تخلَّصوا من اعتقادٍ لا ذكرى. لا يُمكِن الجَزم إن كانت لدينا القُدرة على مَحوِ الذِّكرى نَفسِها، ويشكِّلُ هذا خطرًا إضافيٌّا للذكرياتِ المُختَلَقَة؛ أنها ستظلُّ موجودةً رغم إيمانِنا بزَيفِها.

nasainarabic.net