مداخن أحد المصانع وهي تُطلق كمياتٍ هائلةً من الغازات الدفيئة إلى الجو. (حقوق الصورة: © Shutterstock)


كشف لنا وباء كوفيد-19 عن انعدام المساواة التي نواجهها في الرعاية الصحية. آمل أن نتمكّن من خلق مجتمع أكثر عدلًا وأقل تلوثًا.

بدأت سُحب الضباب الدخاني حول العالم بالتلاشي؛ نتيجة التزام الناس منازلهم، وتوقّف المصانع عن العمل، إلّا أن ذلك لن يدوم.

شهدت مستويات تلوّث الهواء انخفاضًا ملحوظًا على مستوى العالم؛ نتيجة التزام الناس منازلهم أثناء تفشّي جائحة كوفيد-19. من جهة أخرى، أشارت دراسات أُجريَت حديثًا: “بأن تخفيف بعض الدول للقيود، واستئناف الحياة الطبيعية فيها سيعيد مستويات الانبعاث للارتفاع، كما أن انبعاثات الغازات الدفيئة ودرجات الحرارة في مختلف أنحاء العالم آخذة في الارتفاع هي الأخرى”.

فرضت دول عديدة حول العالم قيودًا في مختلف مدنها ومناطقها بعد تفشّي وباء كوفيد–19 (الذي يسببه فيروس كورونا المُستجد) في محاولةٍ منها للحدّ من انتشار الفيروس على أراضيها؛ حيث اتبعت جُملةً من الإجراءات والتدابير؛ منها على سبيل المثال: فرض قيود على السفر، وإيقاف المصانع عن العمل، وإلزام السكّان بالعمل عن بُعد.

سجّلت الأقمار الصناعية التابعة لوكالة الفضاء الأمريكية ناسا، ووكالات الفضاء الأخرى -في أوائل شهر مارس/آذار من هذا العام- انخفاضًا في مستويات انبعاث الغازات الدفيئة فوق الدول التي فُرِضت فيها القيود، وتحديدًا غاز ثاني أكسيد النيتروجين الناتج عن حرق الوقود الأحفوري في محركات المركبات وآلات المصانع، والذي أثبت العلماء بأنه يؤثّر سلبًا على صحة الإنسان.

يبقى السؤال الأهم في ظلّ هذه المُعطَيات هو: إلى متى ستستمر مستويات الانبعاثات في الانخفاض؟ وهل سترتفع مُجددًا في حال عاد البشر لممارسة نشاطاتهم الاعتيادية؟

تراجع الانبعاثات


أظهرت عمليات الرصد التي نفذّتها الأقمار الصناعية التابعة لوكالة الفضاء الأمريكية (ناسا)، ووكالة الفضاء الأوروبية في بداية عام 2020 انخفاضًا في مستويات التلوّث حول العالم بالرغم من التحديات الكثيرة التي واجهتها الأقمار في رصد هذه الانبعاثات؛ بسبب الأحوال الجوية وغيرها من العوامل. من جهتهم، أكّد العلماء -بناءً على هذه النتائج- أن القيود التي فُرِضت على حركة الناس في مختلف دول العالم قد ساهمت بشكل جزئي في تراجع الانبعاثات.

إضافةً إلى ذلك، كشفت دراستان حديثتان نُشِرتا مؤخرًا في مجلة Geophysical Research Letters: “أن مستويات ثاني أكسيد النيتروجين قد انخفضت بنسبة 60% فوق شمال الصين، وأوروبا الغربية، والولايات المتحدة الأمريكية في بداية عام 2020 مقارنةً بالفترة نفسها من عام 2019”.
ليس هذا فحسب، بل أظهرت هاتان الدراستان أيضًا أن مستويات التلوث الناجمة عن الجُسيمات الدقيقة المعروفة بـ PM2.5 (وهي جسيمات سائلة وصلبة مُلوِّثة ضارة بالصحة لا يتجاوز حجمها 2.5 ميكرون) قد انخفضت هي الأخرى بنسبة 35% فوق مناطق شمال الصين.

قالت إيري سايكاوا Eri Saikawa -الأستاذة المساعدة في مجال دراسة جودة الهواء في الصين وقضايا المناخ في كلية رولينز للصحة العامة التابعة لجامعة إيموري- تعليقًا على هذا الأمر، مُتحدثةً لموقع Space.com: “أعتقد أن انخفاض مستويات التلوث ناجم عن تراجع مستويات انبعاثات الغازات من عوادم السيارات والانبعاثات الصناعية؛ التي حدثت بسبب كوفيد-19”.

مستويات التلوّث تعود لسابق عهدها


بالرغم من أن عمليات الرصد التي أُجرِيت على مدار الفترة الماضية قد أظهرت انخفاض مستويات انبعاث غاز ثاني أكسيد النيتروجين بشكلٍ ملحوظٍ بالتزامن مع القيود التي فرضتها العديد من الدول؛ نتيجة جائحة كوفيد-19، إلا أن ذلك لن يدوم للأبد.

في الواقع، لقد أفادت وكالة فرانس برس: “أن مستويات تلوّث الهواء في الصين قد عادت للارتفاع؛ نتيجة قيام مصانع البلاد بمضاعفة إنتاجها لتعويض ما فاتها أثناء فترة توقفها عن العمل”. وبينما سجّلت مستويات التلوث الناتج عن غاز ثاني أكسيد النيتروجين والجسيمات الدقيقة انخفاضًا ملحوظًا بعد تقييد الحركة والتنقل ضمن إجراءات الاستجابة لتفشّي وباء كوفيد-19؛ إلّا أن هذه المُلوّثات قد سجّلت مستوياتٍ أعلى -في شهر نيسان/إبريل من هذا العام- مقارنةً بالفترة ذاتها من عام 2019 بحسب بياناتٍ جديدةٍ أصدرتها مؤسسة (السلام الأخضر) في الصين في 8 مايو/أيار.

قالت سايكاوا في هذا الصدد: “أخشى أن انبعاثات الغازات الضارة ستشهد ارتفاعًا كبيرًا نتيجة قيام المصانع بمضاعفة إنتاجها لتعويض الخسائر الاقتصادية التي تسبب بها كوفيد-19″، وأضافت: “لا أعتقد بأن انبعاثات الغازات الصادرة عن المركبات سترتفع بشكل كبير، ولكن من المحتمل أن تعود الانبعاثات الصناعية للارتفاع، وقد تصل لمستوياتٍ أعلى مما كانت عليه”.

من الجدير بالذكر أن مستويات غاز الأوزون التروبوسفيري قد شهدت ارتفاعًا منذ بداية عام 2020، في حين يستمر تركيز الغازات الدفيئة بالازدياد في طبقات الغلاف الجوي للكوكب، كما لا تزال درجات الحرارة العالمية في ارتفاع مستمر؛ مما يُشكل تهديدًا كبيرًا لمناخ الأرض.

قالت سايكاوا في حديثها حول غاز الأوزون في طبقة التروبوسفير (وهي أدنى طبقة في الغلاف الجوي للأرض): “لاحظنا ارتفاعًا في مستويات غاز الأوزون التروبوسفيري فوق الصين، والمملكة المتحدة نتيجة انخفاض انبعاثات غاز ثاني أكسيد النيتروجين”.

التطلع إلى المستقبل


مع استمرار العلماء والأقمار الصناعية التابعة لوكالات الفضاء برصد انبعاثات المُلوّثات، وفي ظلّ التغييرات التي طرأت على أسلوب حياة الناس نتيجةً للجائحة؛ يبقى أمر واحد ثابتًا وهو: أن بالإمكان اعتبار هذه الأزمة فرصة للتعلم.

تقول سايكاوا: “باعتقادي، أظهَر وباء كوفيد-19 أننا كبشر لسنا مُستعدين أبدًا للتعامل مع صدمةٍ بهذا الحجم، وهو ما قد يحدث مُجددًا في حال لم نقم بحلّ مشكلة التغيّر المناخي”، وأضافت: “كما كشف هذا الوباء عن انعدام المساواة في الرعاية الصحية. آمل أن نتمكّن من خلق مجتمع أكثر عدلًا وأقل تلوثًا”.

أضافت وكالة فرانس برس: “أن المعارف التي نكتسبها اليوم من مواجهتنا لهذه الأزمة ستمنحنا خياراتٍ أفضل في المستقبل، وستُسهّل علينا التعامل مع الأزمات القادمة. أعتقد بأن الوقت قد حان لإعادة النظر في المواد التي نستخدمها في حياتنا اليومية. علينا أن نسعى للحدّ من هدر الموارد الطبيعية عبر استخدامها بحكمة وبطريقة مدروسة. يملك الجيل الحالي وعيًا أكبر بأهمية التغيير الذي يجب إحداثه في المجتمع، وكلّي أمل بأن ذلك سيساعدنا على خلق مجتمعات عادلة ومُستدامة في المستقبل”.

nasainarabic.net