يحظى قطاع الرعاية الصحية بأهمية متزايدة إقليمياً وعالمياً وانعكست آثاره على واقع الاستثمار المحلي فيه نظرا لتوفر العديد من الفرص الاستثمارية المجدية التي يولدها هذا القطاع لتعزيز قدرته التنافسية ولتمكينه من مواكبة المتغيرات المتلاحقة في عالم الطب والاستشفاء.
وتشير الإحصائيات إلى توقع ارتفاع حجم الإنفاق على الخدمات الطبية في منطقة الخليج من 76.1 مليار دولار في 2017 إلى 104.6 مليار دولار في 2022، أي بمعدل نمو سنوي بـ6.6% بفعل ارتفاع الطلب على المجالات التخصصية النادرة، فضلاً عن زيادة طلب فئة كبار السن على الخدمات العلاجية وأسرّة المستشفيات، وفقا لتقرير صادر عن بنك الاستثمار “ألبا كابيتال”.
وتنفق دول الخليج أكثر من 12 مليار دولار سنوياً على العلاج في الخارج، بما يعادل 15% من سوق السياحة الطبية العالمي وهو ما يشكل استنزافاً كبيراً للموارد. وتتطلع دول الخليج إلى أن تقلص نفقات العلاج بالخارج من خلال إنشاء أكثر من 700 مشروع رعاية صحية على أراضيها، لكن ندرة التخصصات الطبية المحلية تبقى عائقاً و خاصة في مجالات دقيقة مثل طب الأورام والقلب وجراحة العظام، والتي تشكل 45% من نسبة الخليجيين الذين يتطلب علاجهم السفر إلى الخارج.
الإبتكار الطبي
وقال الدكتور مثنى سرطاوي لـ”العربية.نت” “تلعب التقنية الحديثة والابتكار دوراً مهماً في الارتقاء بتقديم الخدمات الطبية محلياً وتحسين جودة مخرجاتها، ومن أهمها التشخيص الدقيق للحالة المرضية في وقت مبكر وبحث سبل الوقاية منها. وتتمثل أبرز التقنيات الحديثة في توفير الأجزاء المصنعة بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد التي نعتمدها كثيراً في الجراحات الحديثة للركبة، بالإضافة للرعاية الصحية عن طريق الاتصال والتطبيب عن بُعد، والتي أثبتت فاعليتها خلال جائحة كورونا.
وأكد الدكتور مثنى سرطاوي، مدير مركز جراحة استبدال المفاصل للشفاء العاجل في مستشفى “كينغز كوليدج لندن” في دبي أن دول الخليج دعمت العديد من المبادرات المحلية التي تضمن تواجد كوادر طبية عالمية مؤهلة في المنطقة وذللت العديد من المعوقات لتكون بيئة منافسة وجاذبة لنخبة العقول الخليجية المهاجرة وتشجيعها على العودة للجذور. لقد عزز الدعم الحكومي الواسع الثقة في استقطاب الاستشاريين الزائرين من الكوادر الطبية المتخصصة لدول الخليج وساهم بنقل أفضل الخبرات العالمية في معظم التخصصات الطبية للمواطنين. ولاشك أن نجاح التجربة الطبية الحديثة ساهم بشكل كبير في خفض النفقات العلاجية الذاتية والحكومية للمرضى من الخليجيين ووفر الكثير من الوقت والجهد ومشقة السفر على المرضى وذويهم.
وحول ندرة المتمرسين في جراحة العظام، قال د. سرطاوي إن تخصص جراحة العظام من التخصصات الشائعة والمطلوبة لكن الندرة تكمن في الطرق الحديثة والمبتكرة التي ينتهجها كل جراح، وهي عوامل تصقلها الخبرة والتمرس والإلمام التام بكافة المتغيرات العلمية ورصدها عن طريق البحث والمتابعة والتقييم المستمر. فالمريض يقصد طبيباً معيننا لثقتة في التشخيص الصحيح والأسلوب الجراحي الذي يتبعه وليس لأية اعتبارات أخرى. وأضاف “فعلى سبيل المثال، يعد مرض هشاشة عظام الركبة بسبب التهاب مفاصل الركبتين من الأمراض الشائعة جداً في مجتمعاتنا ويصيب 60% ممن تزيد أعمارهم عن 50 عاماً، وهو مرتبط بأمراض التقدم في العمر وانتشار أنماط غذائية غير صحية تسبب داء السمنة. لذلك تعد جراحة استبدال الركبة الخيار الأمثل والجذري الوحيد لعلاج التهاب مفاصل الركبة في الوقت الحالي.
وعلى مدى العقد الماضي، ارتفع معدل جراحة استبدال الركبة بالكامل بنسبة 210% تقريباً وتشير التوقعات لزيادة المعدلات بنسبة 410% بحلول عام 2040، وهو ما سيشكل عبئاً إضافياً على نفقات الرعاية الصحية، لذلك نرى أن تنفيذ استراتيجيات خفض التكلفة بات أمراً ملحاً أكثر من أي وقت مضى”.
نمو الطلب
وارتفع الطلب على خدمات الرعاية الصحية في السعودية بمعدل نمو سنوي مركب قدره 1.4% خلال الفترة من عام 2015 إلى عام 2018، ذلك مع النمو السكاني، حيث بلغ العدد الإجمالي للمرضى المنومين ومراجعات العيادات الخارجية نحو 145.9 مليون حالة في عام 2018.
وزاد عدد مرضى العيادات الخارجية بمعدل نمو سنوي مركب قدره 1.5%، بينما انخفض عدد حالات استقبال المرضى المنومين بمعدل نمو سنوي مركب قدره 1.7% خلال الفترة من عام 2015 إلى عام 2018.
كما شهدت الفترة نفسها ارتفاعا في نسبة مراجعة العيادات الخارجية إلى نسبة استقبال المرضى المنومين من 41 إلى 45 حالة، ما يشير إلى التحول في طريقة العلاج وتطبيق إجراءات أكثر كفاءة لعلاج الحالات الممكنة من خلال العيادات الخارجية وجراحة اليوم الواحد.
جراحة اليوم الواحد
وعن جراحات تركيب المفاصل الصناعية في الركبة يؤكد د. سرطاوي، أنها تعتبر من أنجح الجراحات وهي الحل الأمثل لعلاج خشونة الركبة المتقدمة، ويلجأ إليها الأطباء بعد استنفـاد الطرق الأخرى من العلاج مثل الأدوية، أو العلاج الطبيعي، وذلك في الحالات التي يكون فيها تآكل شديد بغضاريف مفصل الركبة، ما يعيق المريض من أداء أنشطة الحياة اليومية بطريقة طبيعية.
ولقد أظهرت العديد من الدراسات الطبية أنه عندما يتم تجنب قطع وتر العضلة الرباعية – وهو الوتر الرئيسي للركبة – والذي عادة ما يتم قطعة أثناء عملية استبدال الركبة التقليدي خلال الجراحة للوصول للركبة، فإن تعافي المريض يكون أسرع وبأقل ألم ممكن. وهذا هو السبب في أن العديد من الجراحين المتمرسين في المؤسسات الأميركية البارزة قد تحولوا إلى طرق تحافظ على وتر العضلة الرباعية، ومع ذلك لا يزال معظمهم يقطعون العضلة المجاورة.
“لتفادي المخاطر المحتملة، قمنا بتطوير نهج جديد في جراحة استبدال مفصل الركبة يحافظ على جميع العضلات والأوتار المحيطة – والذي حاز على براءة اختراع دولية – وبالتالي يسارع في تعافي المريض ويقلل آلام ما بعد الجراحة. كما أن هذه التقنية الحديثة تمكن المريض من المشي بعد ساعات قليلة من إجراء العملية دون مساعدة تُذكر وباستقلالية تامة، وأغلبية المرضى يتمكنون من الخروج من المستشفى بعد ساعات من العملية الجراحية وفي نفس اليوم – جراحة اليوم الواحد- “.
وتابع د. سرطاوي “أحدثت التقنية المبتكرة في استبدال مفصل الركبة ثورة طبية في المنطقة منذ بدأ تطبيقها في الولايات المتحدة في مركز راش الطبي بمدينة شيكاغو في “ولاية إلينوي”، وبسبب الإقبال الواسع من المرضى في منطقة الشرق الأوسط آنذاك افتتحنا مراكز متعددة لهذا النوع من الجراحة في دبي و السعودية، وتعتبر دبي التي تمتاز بموقع مميز في المنطقة وتطور البنية التحتية الطبية العالية المركز الامثل لتعزيز تواجدنا لخدمة مرضانا محلياً ودولياً، وبلا شك تعد مدينة دبي منطقة جذب للسياحة العلاجية بشكل عام، وبالأخص لهذا النوع من الجراحة بسبب ندرته وتفرد طاقمنا الطبي به”.
ساهم تحويل جراحة استبدال المفاصل إلى العيادات الخارجية (حيث لا حاجة لإقامة المريض في المستشفى) في خفض كبير في تكاليف نظام الرعاية الطبية. وأظهرت العديد من الدراسات في أميركا الشمالية أن إجراء عملية تبديل المفصل في العيادات الخارجية (أي أن مدة الاقامة في المستشفى تقل عن 24 ساعة) نتج عنه انخفاض تكلفة هذه العملية بحوالي 30% مقارنة بجراحة استبدال المفاصل التقليدية ،وهذا يعادل توفير ما بين 3100 دولار الى 8527 دولارا تقريبا في كل عملية تبديل مفصل. أضف إلى ذلك قدرة المريض على ممارسة حياته الطبيعية والعودة للعمل في فترة وجيزة وهذا يوفر تكاليف إضافية أيضا قد تتحملها الشركات عند منح إجازات طويلة للمرضى وبالأخص لمن يخوضون عمليات ركبة تقليدية والتي عادة ما تستغرف فترة تأهيل طويلة نسبياً. وأضاف د. سرطاوي “لاشك أن الفوائد التي ترتبط بجراحات العيادات الخارجية سيكون لها تأثير كبير على خفض الميزانيات التشغيلية للمستشفيات العامة وعدم مكوث المرضى في المستشفيات، وارتفعت أهمية هذا النوع من الجراحات مع تفشي وباء كورونا وحاجة المستشفيات لتوفير أسرة للمرضى الأكثر تضرراً بالجائحة”.
توقعات مستقبلية
وفق الخصائص السكانية والتوقعات المستقبلية للمملكة، فإنه من المتوقع ارتفاع حجم الإنفاق على الرعاية الصحية من 150 مليارا إلى 220 مليار ريال، بمعدل نمو سنوي مركب قدره 5% خلال الفترة من عام 2018 إلى عام 2025.
وتستند توقعات ارتفاع الإنفاق الصحي في المملكة إلى عدة عوامل رئيسة، من بينها الزيادة الكبيرة في عدد السكان وما يصحبها من ارتفاع في نسب المسنين والمواطنين المصابين بالأمراض نتيجة اتباع بعض الممارسات غير الصحية، إذ إنه من المتوقع أن يرتفع عدد سكان المملكة إلى 45 مليون نسمة بحلول عام 2030، أي بزيادة تقدر بنحو 35% عن التعداد الحالي للسكان.
إضافة إلى ما سبق، فإن ارتفاع الرعاية الصحية في المستقبل سيتأثر بصورة أكبر بالحالة الصحية للسكان عامة، دون الاقتصار على المسنين منهم فقط، أخذا في الحسبان أن نحو 35% من البالغين يعانون السمنة المفرطة ونحو 18.5% يعانون السكري و60% منهم تقريبا مصنفون كأشخاص يعانون النشاط البدني، وفقا لبيانات منظمة الصحة العالمية.