في حين أن كوفيد-19 كان يُعتبر في الأشهر الأولى فيروسًا تنفسيًا بشكل أساسي، إلا أن هناك حاليًا تقديرات متزايدة لتأثيره على الأعضاء الأخرى، بما فيها المخ. بالإضافة إلى ذلك، بدأت وسائل الإعلام بشكل متزايد في لفت الانتباه إلى محنة المتعافين من كوفيد-19 على المدى البعيد وأعراضهم المعرفية، بحسب ما جاء في تحقيق موسع نشرته مجلة “نيوزويك” الأميركية.

مشكلة طبية ملحة

بدأ القلق بشأن التأثير طويل المدى لكوفيد-19 على الدماغ بعدما أطلع خبراء في المخ والأعصاب على تقارير مبكرة من ووهان بالصين في يناير الماضي، أشارت إلى أن المتعافين فقدوا حاستي الشم والذوق. ثم تحول القلق إلى جرس إنذار عندما أخبرت إحدى مريضات كوفيد-19، وهي أم شابة اضطرت إلى البقاء في الحجر الصحي لمدة شهر، أنها “لم تعد تهتم كثيراً” بالانفصال عن أطفالها.

عند هذه النقطة، أصبح هناك معطيات تشمل فقدان حاسة الشم والانفصال العاطفي والاضطرابات المعرفية الأخرى بين المتعافين من كوفيد-19، مما فرض مؤخرًا التعامل مع الحالات على أنها مشكلة طبية ملحة.

“ضبابية المخ”

يعاني بعض المرضى من حالات ذهانية ويعاني البعض الآخر من أعراض عصبية غريبة، مثل رعشة وإرهاق شديد وشم روائح وهمية ودوار ونوبات من الارتباك العميق، وهي حالة تعرف باسم “ضباب الدماغ”. في دراسة مبكرة لأكثر من 200 مريض في ووهان، تم تحديد المضاعفات العصبية في 36% من جميع الحالات وفي 45% من الحالات الشديدة. وأفادت دراسة أخرى في فرنسا، تم نشرها في دورية “نيو إنغلاند” الطبية بأن هناك أعراضا عصبية لدى 67% من المرضى.

على الرغم من أنه من السابق لأوانه معرفة الآثار طويلة المدى لكوفيد-19 على الصحة الإدراكية للمتعافين، لكن يخشى العلماء في الوقت الحالي من أن المرض يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع حاد في الخرف والأمراض العصبية التنكسية الأخرى في العقود المقبلة.

متلازمة التعب المزمن

إن هناك أيضا عدداً متزايداً من المتعافين من فيروس كورونا المُستجد ينطبق عليهم بالفعل المعايير السريرية لمتلازمة التعب المزمن (CFS)، وهي حالة غامضة تسمى أيضًا التهاب الدماغ والنخاع العضلي، ومن أعراضها المعاناة من التعب الشديد وعدم تحمل التمارين الرياضية، بالإضافة إلى مجموعة كاملة من الأعراض العصبية الغريبة والمنهكة الأخرى، والتي كانت قد أصابت نحو 2 مليون أميركي قبل الجائحة.

ويقول دكتور أفيندرا ناث، المدير السريري للمعهد الأميركي للاضطرابات العصبية والسكتة الدماغية NINDS، إنه إذا كانت الآثار طويلة المدى لكوفيد-19 تتطابق مع نفس الأعراض التي يعاني منها أولئك المصابون بمتلازمة التعب المزمن CFS، فإنه من المرجح أن ما بين 10 إلى 30% من المتعافين من عدوى فيروس سارس-كوف-2 في نهاية المطاف ستظهر لديهم مجموعة كبيرة من الأعراض طويلة المدى، وبالتالي فإن ملايين إضافية من المصابين بـ CFS ستمثل عبئًا جديدًا على نظم الرعاية الصحية.

التدخل العلاجي في مراحل مبكرة

يبذل علماء الأعصاب كل ما في وسعهم ويركزون جهودهم على التوصل إلى طرق للتدخل مبكرًا في بداية ظهور أعراض كوفيد-19 من خلال العلاجات التي تقلل الضرر طويل المدى للدماغ، لأنه بمجرد أن يعيش المريض شهورًا أو حتى سنوات مع أعراض متلازمة CFS، يصبح العلاج أكثر صعوبة.

يقول دكتور والتر كوروشيتز، مدير NINDS: إن صعوبة العلاج هي المرحلة التي “نحرص على تجنب الوصول إليها. وكلما أمكن التدخل بشكل أسرع، زاد التأثير الإيجابي المحتمل للتدخل،” مشيرًا إلى طريق العلاج للأشخاص، الذين مضى على تاريخ إصابتهم بالأعراض عامان وثلاثة أعوام، ولا يزالون مرضى، يكون أكثر صعوبة.

روابط مثير للحيرة

وفقا لتقرير “نيوزويك”، فإنه لطالما حيرت العلاقة بين الحالات العصبية المزمنة والفيروسات المعدية العلماء، ففي أعقاب الإنفلونزا الإسبانية عام 1918، أصيب ما يصل إلى حوالي مليون شخص في جميع أنحاء العالم بمتلازمة عصبية تنكسية غامضة تُعرف باسم التهاب خمول الدماغ، والتي تسببت في تصلب عضلي شبيه بمرض باركنسون والذهان. وتطرق طبيب الأعصاب أوليفر ساكس إلى هذه المتلازمة في كتاب كان أساسًا لفيلم الصحوة عام 1990. ومازال سبب هذه الحالة، التي استمرت لعقود، غير مفهوم بالكامل.

فيروس الإيدز

كما أنه قبل التوصل إلى بعض العلاجات المضادة لفيروس نقص المناعة البشرية في الثمانينيات، تم رصد حالات الخرف لدى حوالي 25% من المرضى المصابين بالإيدز، حيث رجح العلماء أن فيروس الإيدز غزا الدماغ خلال الأسبوعين الأولين من الإصابة. وبحسب ما ذكرته دكتور لينا الحارثا، من كلية راش الطبية بشيكاغو، يُعتقد أن الفيروس هاجم الجسم من خلال الخلايا المناعية المصابة وقام بغمر المخ بالبروتينات السامة العصبية.

سارس وميرس وإيبولا

وفي أعقاب تفشي فيروس SARS عام 2003 وفيروس MERS في عام 2012، تبين بعد تشريح جثث المتوفين أن مسببات الأمراض اخترقت أدمغة بعض الضحايا. وفي غضون ذلك، يتابع دكتور ناث من مركزNINDS حاليًا حالات لـ200 مريض سابق بالإيبولا في ليبيريا لا يزالون يعانون من مجموعة غامضة من الأعراض العصبية المزمنة التي لا يبدو أنها تتحسن مع مرور الوقت.

أدمغة ضحايا كوفيد

ويبدو أن الجهود المبكرة للتحقيق في التأثير الغريب لكوفيد-19 على دماغ بعض الضحايا تعرضت لبعض الإعاقة بسبب مخاطر إجراء تشريح الجثث على المرضى المتوفين المصابين بمسببات الأمراض القاتلة التي تنتشر في الهواء. وفي الأشهر التسعة الأولى من الوباء، أجرى الأطباء 24 دراسة فقط تشمل تشريح أدمغة جثث 149 شخصًا، ولكن بدأت تلك الدراسات إلى جانب الجهود الأحدث في الآونة الأخيرة في تقديم بعض الأدلة.

استعدادات خاصة

تقول دكتور كلير بريس، اختصاصية علم الأمراض في كلية إيكان للطب في ماونت سيناي، وهي أحد أعضاء فريق تمكن حتى الآن من فحص أدمغة 63 مريضًا تم تشريحهم، إنها وزملاءها يعملون في غرفة مغلقة بشكل خاص، ومجهزة بنظام تهوية مصمم لمنع الهواء من التسرب، ويتواجد فيه طبيب واحد في كل مرة وأنهم يرتدون زيا واقيا لكامل الجسم ودرع للوجه.

تعطش خلايا للأكسجين

في أبريل 2020، وصف دكتور بريس وزملاؤها حالة رجل من أصول إسبانية يبلغ من العمر 74 عامًا وصل إلى غرفة الطوارئ مرتبكًا بعد تعرضه للعديد من السقوط في المنزل، وعلى مدار الأيام التالية، كانت تنتابه حالات اضطراب بشكل متنوع. وبعدما توفي المريض في اليوم الحادي عشر، قامت دكتور بريس وفريقها بفحص مخ المتوفى، حيث تبين وجود بقع ميتة من الخلايا العصبية المتقلصة والمتغيرة اللون بسبب التعطش للأكسجين.

خلايا تالفة بـ25% من الأدمغة

وذكرت دكتور بريس أنه تم معاينة نفس العلامات في حوالي 25% من أدمغة 62 أخرى تم فحصها في الأشهر التالية. وفي 11 مريضًا إضافيًا، اكتشفت دكتور بريس وفريقها وجود أدلة على مناطق دمار وموت للخلايا في المخ يصل عمرها إلى أسبوعين على الأقل، علاوة على أن بعض الأدمغة كانت منتفخة أو مصابة بأوعية دموية متخثرة.

alarabiya.net