يتناول الكاتب عبد السلام انويكة، من مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث، في مقال جديد له، حدثا وطنيا هاما وفاصلا من الأمس، حيث تاريخ المغرب المعاصر وزمن الحماية الأجنبية تحديدا.
ويتعلق الأمر بوثيقة مطالبة المغرب والمغاربة بالاستقلال، “التي شكلت منعطفا جوهريا في العلاقة بين العرش والشعب والاستعمار”.
وبالنظر لما للحدث من رمزية في الذاكرة الوطنية، ومن أهمية بالنسبة للأجيال الجديدة الناشئة، من أجل ربط الماضي بالحاضر والسلف بالخلف والعبر التاريخية الوطنية بتطلعات المستقبل، يتناول الكاتب مجموعة من تفاصيله في مقاله الجديد.
وهذا نص المقال:
غير خاف على كل باحث ومؤرخ ومهتم بحقل التاريخ، أن هذا الأخير ليس سوى مساحة تأمل وتنقيب وترتيب وإغناء وإضافة دوماً مع كل تفكير ونهج جديد ووثيقة وحاجة، ما لا يعني عيباً ولا تكراراً بقدر ما يدخل في خانة اجتهاد وإعادة كتابة تجاه أمر ما يخص صورة ماضٍ ما. ولعل كتابة تاريخ ما ومقاربة وقائع وأحداث ومنعطفات تاريخية تهم مجتمعاً ما ممتداً في الزمن كما المجتمع المغربي، يقتضي تجاوز كل نظر فوقي والغوص فيما هو أعمق من جوانب للوقوف على دوافع واتجاهات وتفاعلات واختلافات.. قصد إبراز ما هناك من عناصر محركة خفية، علماً أن ما كتب ولا يزال حول تاريخ المغرب على أهمية تراكمه وقيمته لا يغدو أن يكون مجرد اجتهاد قد يطول نَفَسُه وقد يقصر، ولا عيب فيمن سيأتي لاحقاً كخلَفِ من باحثين ومؤرخين لتدارك ما فات السلف.
بهذه القناعة ارتأينا تسليط بعض الضوء على وثيقة مطالبة باستقلال المغرب، كواقعة فاصلة في زمن الحماية وزمن الحركة الوطنية، رغم ما أحيطت به من تناول من قِبل باحثين متخصصين ومؤرخين مغاربة وأجانب. ولعل عريضة الاستقلال كما يختصرها البعض والتي يتم إحياء ذكراها سنويا لا تزال حية في ذاكرة المغاربة الوطنية، مناسبة للوقوف على موقفٍ ورفضٍ ورد فعل وطني في تاريخ المغرب المعاصر إن لم نقل الراهن.
باعتبارها ملحمة وبادرة أيقظت ضمير المغاربة وجعلته أداة تحرير وسبيل استقلال. ومع كل نظر عميق فيما حصل من روح وطنية والتفاف وتلاحم وموقف موحد صوب المستعمر، يتبين أنه لا غنى عن الرجوع لرمزيتها دوما كحدث وسياق ونبل أهداف خدمة لحاضر بلاد وعباد ومَعالمِ مستقبل. هكذا ارتأينا بعض الضوء حول ملحمة وثيقة المطالبة باستقلال المغرب قبل أكثر من سبعة عقود تنويراً لقراء ومهتمين وناشئة أيضاً، لجعل تاريخ البلاد الوطني بأثر في تقوية روح انتماء وإنماء اعتزاز بماضٍ وتراثٍ رمزي وذاكرة وطن.
ولعل من المفيد الإشارة إلى أن وضع الحركة الوطنية بالمغرب أواسط ثلاثينات القرن الماضي وإلى غاية الأربعينات منه لم يكن يسمح بأي تصعيد تجاه سلطات الحماية، ومسألة الانتقال إلى مطلب الاستقلال لم يكن وارداً بتاتاً لكون هذه الفترة الدقيقة تاريخياً كانت فترة تراجع للعمل الوطني بالنظر لطبيعة القبضة الاستعمارية. علما أن الوطنيين المغاربة خلالها تعرضوا لحملة قمع شرسة واسعة وعنيفة، بحيث بسبب مطالب وطنية بسيطة فقط جعلت تعرض هؤلاء لعمليات نفي وإبعاد وهو ما كان وراء انكماشهم ومن خلالهم الحركة الوطنية، ناهيك عما حصل من تمزق في كتلة العمل الوطني ومن ظرفية أمنية فرضت عدم القيام بأي شيء من شأنه إزعاج وضع فرنسا في جبهاتها.
وغير خاف على الباحثين والمؤرخين والمهتمين بتاريخ المغرب الوطني المعاصر، ما عرفته البلاد من وقائع خلال الحرب العالمية الثانية كانت بدور معبر في دفع الوطنيين المغاربة لتجاوز سقف مطالبة بإصلاحات إلى مطالبة بالاستقلال، مساحة التفكير والموقف والمبادرة التي بقدر ما تقاسمت تفاعلاتها كل جهات البلاد من منطقة احتلال اسباني ومنطقة احتلال فرنسي، بقدر ما انتهى الفعل الوطني على إثرها بعريضة الحادي عشر من يناير ألف وتسعمائة وأربعة وأربعين حيث فاس.
ولعل من العوامل التي كانت بأثر في دفع الوطنيين المغاربة للمطالبة بالاستقلال وانتفاضهم على المستعمر، ما كان من دعاية ألمانية أظهرت فرنسا منهزمة ضعيفة غير قادرة على أية مواجهة لشدة ما تعرضت له بالجبهات. دون نسيان ما كان لفرنسا من أثر فيما عانى منه المغاربة من جوع وعري وخصاص وميز وقمع..، ناهيك عما نادى به الميثاق الأطلسي صيف ألف وتسعمائة وواحد وأربعين من حق للشعوب في تقرير مصيرها، وما ترتب عن الإنزال الأمريكي في الشواطئ المغربية من تقزيم للوجود الفرنسي في المغرب كدولة حامية. فضلاً عما حصل من إشارات قوية صوب المغرب، إثر محادثات السلطان محمد بن يوسف مع الرئيس الأمريكي روزفيلت والوزير الأول البريطاني تشرشل والمقيم العام الفرنسي نوكًيس.
وكانت سنة اندلاع الحرب العالمية الثانية قد اعتبرت مرحلة جديدة في طبيعة العلاقة والاتصال بين السلطان محمد بن يوسف والحركة الوطنية، بالنظر لما حصل من نضج وطني وحيوية وإقبال سلطاني على معركة تحرير وفق سلوك خاص وبعد ورؤية جديدة كانت مفتقَدة. علماً أن معركة الحركة الوطنية لهذه الفترة لم تكن سهلة، بالنظر لِما كان عليه الاستعمار من قبضة على البلاد.
وبما أن السلطان كان المؤتمن على سيادة البلاد والمخول شرعاً ودولياً للاعتراض على الإقامة العامة الفرنسية على أساس مضمون اتفاقية الحماية، فقد كانت له تحفظات حول عدد من إجراءات المستعمر وفي نفس الوقت اتصالات مع نخبة من الوطنيين الملتفين من أجل قضايا الوطن.
يذكر أن هزيمة فرنسا عام ألف وتسعمائة وأربعين سمحت بصفحة جديدة في تاريخ الحركة الوطنية المغربية وعمل السلطان، فبقدر ما كانت فرنسا الحامية تستحضر قوتها وقدرتها لسحق كل معارضة شعبية بقدر ما كانت هزيمتها أمام الألمان متنفساً لإبداء الموقف والمضي في المطالبة بالحقوق وتأكيد الشخصية المغربية. مع أهمية الإشارة لِما طبع السنوات الثلاث لاندلاع الحرب الثانية من عمل وطني خفي وجهد في التنظيم ووعي في المجتمع، وهو ما أفرز جيلاً جديداً وطنياً استثمر جوانب وجهات عدة شملت ما هو رياضة وثقافة وكشفية وغيرها خدمة للقضية الوطنية، وهو ما كان بأثر أسهم في تحول الكفاح الوطني من المطالبة بالإصلاح في إطار الحماية إلى المطالبة بالاستقلال.
وكان عبد الرحيم بوعبيد قد أورد بعد اللقاء المغربي الأمريكي في أنفا خلال يناير من سنة ألف وتسعمائة وثلاثة وأربعين، أن العمل الوطني عرف دينامية جديدة وأن مرحلة الإصلاحات باتت متجاوزة وإنهاء معاهدة فاس بات وارداً والمطالبة بالاستقلال أصبحت هي الهدف.
مشروع ورهان كان وراء خلق حزب الاستقلال، إثر ما كان من اتصال سري بين الحزب الوطني والسلطان عام ألف وتسعمائة وثلاثة وأربعين، وما كان من استقبال خاص وتنسيق في مخبئ خاص بالقصر الملكي حيث تم القسم على الإخلاص لخدمة الوطن. وكان ما حصل من تحالف وعمل مشترك بين الوطنيين الذين تزعموا توقيع وثيقة الحادي عشر يناير وبين السلطان، هو ما جعل هذا الأخير ينعت بزعيم الحركة الوطنية.
وإذا كانت عريضة المطالبة بالاستقلال هذه قد أدانت نظام الحماية وأكدت رغبة المغاربة في تجاوز واقع حال وطالبت بتفاوض مع الفرنسيين والإسبان معاً للاعتراف باستقلال البلاد والانضمام إلى الميثاق الأطلسي، فإن رد فعل الإقامة العامة كان معاكساً لكل هذا وذاك برفضها العريضة من جهة وزيادة ضغطها على السلطان من جهة أخرى، فضلاً عما أقدمت عليه من قمع وإلقاء للقبض على قادة الحزب ومنهم أحمد بلافريج ومحمد اليزيدي وأحمد مكوار وعبد العزيز بن إدريس والهاشمي الفيلالي بتهمة اتصالهم بالألمان وإعدادهم لثورة مسلحة بالمغرب.
هكذا بعد حدث الإنزال الأمريكي وما كان له من تداعيات، انتعش العمل الوطني من جديد بعد فترة جمود بفعل القمع الاستعماري، وبات جلياً أن مطلب الوطنيين بعد ما حصل ليس سوى الاستقلال عبر التنسيق مع السلطان. وهكذا تم الإقدام على خطوة تاريخية حاسمة وفاصلة تمثلت في تقديم عريضة الاستقلال في الحادي عشر يناير ألف وتسعمائة وأربعة وأربعين.
وهكذا أيضاً تم تفجير قنبلة هزت أركان المستعمر في المغرب، والتي بقدر ما كانت مفاجأة بالنسبة للشعب المغربي وللفرنسيين الاستعماريين والمتعاونين معهم، بقدر ما أبانت عن موقف سلطاني صدم الإقامة العامة بالمغرب والتي تجددت على إثره آلتها القمعية لدرجة إعلان حرب على شعب بعدد من المدن كفاس والرباط وسلا وأزرو ووجده وغيرها، بحيث تم اعتقال آلاف الوطنيين واستشهاد العشرات منهم وإعدام ونفي آخرين.
وفي الوقت الذي كان فيه السلطان محمد بن يوسف يتصل وينسق سرياً مع الوطنيين حول سبل مواجهة تعنت السلطات الفرنسية، كانت دعايتها تقول بأن السلطان لم تكن له أية علاقة بحركة الاستقلال هذه وأنه كان ساخطاً عليها.
وكان قد تم تهيئ عريضة الحادي عشر من يناير للمطالبة بالاستقلال في سرية تامة وتكتم من قِبل الجميع، مع ما حظي به هذا المشروع من بحث دقيق لأسابيع مع عرض ما كان يتم التوصل إليه في كل اجتماع مع السلطان، إلى أن تمت الموافقة على صيغته النهائية في بداية يناير من سنة ألف وتسعمائة وأربعة وأربعين، حيث جاء دور استنساخها وتوقيعها في سرية تامة أيضاً، ثم الاتفاق على الطريقة واليوم والساعة التي تقدم فيه الوثيقة للسلطان.
وكانت الجهة التي تكلفت بإعداد خطوط الوثيقة العريضة تحت إشراف أحمد بلافريج، تتكون من شباب طموح متشبع بروح وطنية ومستعد لكل موقف وتطورات. بحيث بعد عرض ما كان يتم التوصل إليه من قبل هؤلاء على السلطان وبعد تجميع ما كان يسجل من ملاحظات وأفكار داعمة، كان يتم عرضها من جديد لمزيد من التدقيق والإغناء على بعض الوطنيين في سرية تامة لتجنب أي تسريب.
من هنا يعتقد أن الوثيقة في مسارها كانت بصيغة أولى، تطورت من خلال ما كان ينضاف لمضمونها بعد ما كان من نقاش قائم واتصال مع السلطان. وفي هذا الإطار ورد أن ما انتهت إليه الوثيقة كان تسوية لجملة نقاط أفرزتها نقاشات ومفاوضات بين كل الأطراف ذات الصلة، مع أهمية الإشارة إلى أنها كانت في البداية عبارة عن أكثر من مشروع ورؤية قبل ما حصل من توافق ومصادقة في نهاية المطاف على نص مختصر أكثر تركيزاً. بل من الإشارات التي وردت حول ما تم التوصل إليه وما تم اختصاره وعرضه على السلطان، إلى أنه كان ينص على ضرورة إقامة نظام ديمقراطي وملكية دستورية من خلال الدعوة إلى انتخاب مجلس وطني بالاقتراع العام ومجالس محلية أو جهوية منتخبة أيضاً بنفس الطريقة، وهو ما تحفظ عليه السلطان كتعبيرات بالنظر لِما قد تثيره من ردود فعل.
يذكر أن وثيقة الحادي عشر من يناير للمطالبة بالاستقلال، كتبت في منزل محمد الزغادي بالمطاحن الإدريسية بفاس وضربت على الآلة الكاتبة باللغة الفرنسية التي تطوع بها محمد الغزاوي، وكان ممن قام بعملية توثيقها فضلاً عن محمد الزغادي كل من أحمد باحنيني وأحمد لحمياني ختات وإدريس المحمدي وعبد الكريم بن جلون التويمي وعمر بن عبد الجليل التلمساني.
ولعل اختيار هذا المكان لكتابتها وتوثيقها كان أمراً مقصوداً حرصاً من المعنيين على سريتها وتجنب تسرب المعلومة حولها لجواسيس الإقامة العامة. وفي هذا الإطار من المفيد الإشارة إلى أن من نقل الوثيقة للسلطان وهو مقيماً آنذاك بالدار البيضاء هو محمد الغزاوي، وأن من ملاحظاته وأوامره بعد الاطلاع عليها التصريح بشكل واضح بمطلب الاستقلال. هكذا أضيفت لفظة استقلال بعدما كانت الوثيقة مبنية فقط على فكرة المطالبة باستبدال معاهدة الحماية بأخرى تليق بالمغرب وسيادته.
وكانت الوثيقة قد وضعت في الأصل كما سبقت الإشارة لذلك باللغة الفرنسية قبل ترجمتها للعربية، والذي تم تكليفه بنسخها باللغة العربية نظراً لجمال خطه كان هو عبد الوهاب الفاسي الأزعر الذي كان معلماً بالقرويين.
وتجدر الإشارة إلى أنه إلى حد هذه اللحظة لم يكن حزب الاستقلال قد ولد وتأسس، بحيث عندما تم الاتفاق على صياغة الوثيقة حدثت فكرة من سيرفعها إلى السلطان وغيره من الجهات، وهنا ورد أنه ما دام أن الوثيقة خاصة بالمطالبة بالاستقلال فمن الأحسن أن يُطلَق على الجمع الذي أعدها اسم “حزب الاستقلال”، وقد تضاربت الآراء حول من كان سباقاً لهذا الاسم “حزب الاستقلال” هل هو أحمد باحنيني أم أحمد بلافريج.
هكذا إذن ظهر للوجود حزب الاستقلال الذي قيل أنه حل محل الحزب الوطني عندما بات الأمر يتطلب تقديم وثيقة الاستقلال، وهكذا تم جمع توقيعات الوثيقة وعددها ستة وستون توقيعاً وتم تعيين أربعة وفود لتقديمها في تاريخ واحد موحد، لكل من السلطان أولاً ثم الإقامة العامة والمفوضية الأمريكية والمفوضية الانجليزية ثانياً.
ولعل اختيار يوم الحادي عشر من يناير لتقديم الوثيقة وتسليمها للسلطان، ارتبط قصداً بيوم جرت العادة أن يستقبل فيه السلطان محمد بن يوسف أسبوعياً مستشاراً فرنسياً معتمداً كواسطة بينه وبين الإقامة العامة، وما تم الترتيب له بدقة وحرص هو ما حدث فعلاً وقد شاهد هذا الأخير أن هناك وفداً من الوطنيين في قاعة الانتظار تم استقباله قبله ودامت مقابلته للسلطان مدة ساعة، وبعد استقبال السلطان للمستشار الفرنسي هذا أطلعه بأنه توصل بعريضة تطالب بالاستقلال وأمره بإبلاغ المقيم العام بذلك.
وبقدر ما أثارته هذه الوثيقة من حماس شعبي كبير أربك إدارة الحماية والإقامة العامة، بقدر ما جعلت هذه الأخيرة تختار لغة التهديد والاستفزاز الذي بلغ أوجه ومداه مع اعتقال أحمد بلافريج ومحمد اليزيدي بعد حوالي أسبوعين عن تقديم الوثيقة. بحيث كان كل هذا وذاك سبباً من اندلاع مظاهرات شعبية شملت الرباط وسلا وفاس خاصة، وهو ما واجهته سلطات الحماية بقمع واسع لم ينل من قوة العمل الوطني الذي زادت قوته مع عودة علال الفاسي من منفاه في الكًابون، وإلقاء السلطان لخطابه الشهير في طنجة عام ألف وتسعمائة وسبعة وأربعين والذي أعلن فيه صراحة انحيازه إلى صف الوطنيين المطالبين بالاستقلال.
تبقى عريضة المطالبة بالاستقلال للحادي عشر من يناير ألف وتسعمائة وأربعة وأربعين، محطة تأمل في زمن مضيء من زمن الحركة الوطنية المغربية، وملحمة نضال احتوت صور كفاح وطني حابل بالعبر التاريخية والسياسية. ولعل بقدر ما يعود سياق ما حصل مع هذه الوثيقة إلى بداية ثلاثينات القرن الماضي، حيث تأسيس كتلة العمل الوطني كرد فعل على نوايا ودسائس المستعمر من خلال ما عرف بـ”الظهير البربري” الذي استهدف تخريب البلاد والعباد. بقدر ما كانت هذه الوثيقة نِتاج صف وطني وفعل توافقي تبلورت على إثره جملة مبادرات على درجة من الوعي في علاقتها برهان الانتقال لِما هو أعمق في معركة المغاربة الوطنية ضد الحماية. وهو ما ترتب زمنياً وانتقل من مطالب إصلاحات أواسط ثلاثينات القرن الماضي إلى مطالب إصلاحية استعجالية، ثم فيما بعد إلى حراك وطني أنتج وضعاً جديداً وشكل انتقالاً من عريضة مطالب إصلاحية إلى عريضة مطلب استقلال من خلال وثيقة تاريخية صريحة وفاصلة عام ألف وتسعمائة وأربعة وأربعين.
ولعل وثيقة المطالبة بالاستقلال هذه بالنظر لطبيعة مسارها وكيفية تبلورها، شكلت استراتيجية عمل دقيقة بأهداف واضحة منشودة تأسست على تلاحم عرش وشعب لخوض معركة تحرير بلاد. هكذا كانت وثيقة الحادي عشر من يناير البنزين الذي بقدر ما قوى روح كفاح وطني، بقدر ما كان وراء تهيئة شروط ما حصل لاحقاً من مقاومة مسلحة وعمليات لجيش التحرير خاصة بعدما تطاول المستعمر على سلطان البلاد الشرعي.
ومن هنا فإن ما طبع المغرب من أحداث معبرة خلال غشت ألف وتسعمائة وثلاثة وخمسين، لا يمكن عزله عن فحوى وأثر وثيقة الحادي عشر يناير ألف وتسعمائة وأربعة وأربعين، والتي اعتبرتها الإقامة العامة بادرة ملكية وجناية لا يمكن تجاوزها، وبالتالي ما حصل من تهيئ لشروط خلع سلطان البلاد وتنزيل ما تم حبكه من مؤامرة. انتهت بعكس نيات المستعمر المبيتة عندما خرج الشعب المغربي رافضاً ما فرض من أمر واقع، حيث اتسعت ردود فعله في كل الجهات وتشكلت خلايا مقاومة مسلحة تكللت بانطلاق عمليات جيش التحرير بشمال البلاد، تلك التي زعزعت الاستعمار وهزت أركانه.