مثّل مسلسل “الزير سالم” انعطافة جذرية، في مسيرة المخرج والفنان السوري حاتم علي، والذي توفي الثلاثاء الماضي، بنوبة قلبية في القاهرة.

وعلى الرغم من الأعمال التاريخية العديدة التي أخرجها وتميّز فيها، علي، كصلاح الدين الأيوبي، وعمر، وصقر قريش، والملك فاروق، وجميعها حازت على إعجاب المشاهدين الواسع، إلا أن “الزير سالم” بقي علامة فارقة، ووصف بأنه العمل العربي الذي حصد نجاحاً لم يقيض لغيره من أعمال درامية.

وأنتج “الزير سالم” عام 2000، ومرت عليه عشرون سنة، ولا يزال مثار إعجاب المشاهدين العرب، باعتباره العمل “الأول” و”الأفضل” والأكثر مشاهدة وشغفاً، ومن أشهر المسلسلات العربية. ومنذ إعلان وفاة مخرجه، حاتم علي، بدأ استذكار العمل، بمقاطع، أو جمل عربية فصيحة، أو صور ملتقطة من مشاهده، الأمر الذي عكس التأثر الواسع بتلك الدراما، التي تتحدث عن ملحمة عربية متعددة الدلالات، هي قصة الزير سالم المعتبرة من أفضل القصص وأروعها، وهو الشاعر والفارس الذي لا يشق له غبار، وطبيعة حياة العرب وقيمهم ومثلهم البطولية والأخلاقية، في الجاهلية، كما أن شخصية الزير نفسها، بسرديتها التاريخية، تتضمن تذكّر ديوان العرب عبر القرون، الشعر، فاسمه جزء أساسي في رواية الشعر العربي، بحسب الإخباريين العرب والمسلمين، مصنفين ونقاداً ورواة، فضلا من كونه نموذجا لمثل وقيم الشخصية العربية. سالم، المهلهل، الشاعر والفارس والإنسان العربي، في آن واحد، معاً.

صعوبة مواقع التصوير

عمل حاتم علي، للخروج بأفضل “صيغة” تنفيذية لتلك القصة التي كتبها الراحل ممدوح عدوان، على اختيار مواقع تصوير مشابهة، للبيئة العربية المفترضة التي جرت فيها الأحداث، وعلى اعتبار أنها متخيلة بعض الشيء، بحسب شروط درامية معينة، كيلا يكون العمل مجرد توثيق أو نسخ لمصادره التاريخية، فاستقرّ على مواقع تصوير في ريف العاصمة السورية دمشق، في منطقة بحيرة “زرزر” وجوارها، وهي المنطقة التي تحمل مزيجاً جغرافيا من الصحراء وأشكال الهضاب والصخور والمرتفعات، تتوزع عليها، بعض النباتات التي تقاوم المناخ المتطرف المتراوح ما بين البرودة الشديدة، والحرارة الشديدة، وهو الأقرب لمناخ الصحراء. ومثّل ذلك، ما يمثله لغالبية المخرجين من صعوبات جمة لا تتوقف، خاصة مع عدد الشخصيات الكبير، في المشهد، والوجود البارز للخيول، انتقالاً أو حرباً.

“الزير سالم” الذي جاء بأربعين حلقة، مثل تحديا بالنسبة لحاتم علي، فغالبية المشاهد، تصور خارجيا، مع تحريك للخيول والمعارك، نهارا أو ليلا، على أرض ما بين التلال أو المرتفعات أو المنحدرات، ترافقها كاميرات ما بين الثابتة والمتحركة أيضا، بزوايا تصوير تعكس مضمون اللقطة، إلى الحد الأقصى، لإعطاء جوّ تفاعلي أكثر، للمشاهد، والذي لا يزال منذ عشرين عاما، متعلقا بالعمل الذي قدم بأفضل المستويات التصويرية والبصرية والإخراجية، بدون مبالغات عادة ما تكون على حساب المصداقية.

البيئة العربية المتخيّلة

قصة الزير سالم، كاستعادة لتاريخ متخيّل، ومكتوب عبر مصادره العربية، بصيغ مختلفة، هي من أشهر قصص العرب التي تعكس قيم المجتمع العربي الأصلية، التضحية، حب الأهل، التعلق بالقبيلة، الدفاع عن القيم الإنسانية، وما يرافق ذلك من طبائع إنسانية عامة، يشترك فيها عامة البشر، يتطلب صورة مستلهمة من داخل البيئة التي مرت عليها القرون، إلا أن مصادرها لا تزال في بطون الكتب والمجلدات، وهو ما فعلته مصممة ملابس العمل، رجاء مخلوف.

عادت مخلوف، إلى المصادر التاريخية، من أجل اختيار الملابس المناسبة للقصة، فاختارت أقمشة الكتان والحرير التي صبغت أصلا من التراب الأصفر، والرمان والعنب، فصممت الملابس واختارت لها الألوان المستمدة من البيئة العربية، بفلسفة ملابس، كانت من عوامل نجاح الزير سالم، إذ ربطت ما بين طبيعة الشخصية، ونوع لباسها، لمنح انطباع أكبر بالتطابق والاستعادة، وبالتالي تصديق المشاهد بما يراه ويتفاعل معه.

الموسيقى والديكور واللغة لأفضل إخراج

رؤية حاتم الإخراجية، تطلبت دقة أكثر أو أقرب للبيئة العربية المستعادة، مع لمسة فنية بطبيعة الحال، كيلا تكون الدراما مجرد عمل توثيقي، فقام على الديكور، الفنان الدكتور أحمد معلا، والذي تناغم إلى الحد الأقصى مع فلسفة الملابس، ونص الحوار، ووحّدت موسيقى التصوير كل تفاصيلها، والتي وضعها طاهر مامللي، ومنحتها بعداً يستعيد البيئة المتخيلة أكثر، عبر صوت الرق، والإيقاع المستلهم من حركة الخيل، والانتقال السريع والمعارك.

وعملت لغة النص التي كتبها الراحل ممدوح عدوان، على تقريب المشاهد العربي أكثر، من روح القصة، فلم يكن اختياره للعبارات وقفا على الفصيح البعيد أو المهمل، في العربية، بل في العبارات الشائعة الأقرب للعربية الآن، والمعاصرة التي لا يصعب التفاعل معها، مع أي مشاهد عربي، خاصة وأن المؤلف كان يختار مفردات شائعة لأسماء الأشياء، أيضا، الأمر الذي تفاعل معه المشاهد العربي، أكثر، على غير الأعمال التي عادة ما تأتي بلغة تتضمن المهمَل أو المتروك، أو تتعمد “تفخيم” الكلمات بدون مناسبة، طيلة الوقت، أو اختيار مفردات وجمل “مقعّرة”.

كل شيء جاهز للتصوير

هكذا، أصبح كل شيء جاهزاً للتصوير ووضع اللمسات الأخيرة على العمل الذي سيصبح من أهم الأعمال الدرامية العربية، وبدأت رؤية حاتم علي الإخراجية، تركز على ملامح الزير سالم، كما تفترض الرؤية الفنية، ونقلت ملامح سلوم حداد، مؤدي الشخصية، المانحة انطباعاً، بالمزاجية والرجولة والقيمية، لتقف كاميرا علي، في اللحظات الأولى من الحلقة الأولى، من وراء وأسفل تلة عالية، يأتي من خلفها، موكب خيول الزير سالم، السائر ببطء، لمنح انطباع فوري، بقدوم الحكاية من البعيد البعيد، من الذاكرة. فيضع المشاهد، فورا، بالاستعادة والتخيّل، وعبر فريق عمل ضخم ضم إضافة إلى سلوم حداد، عابد فهد ورفيق علي أحمد وخالد تاجا ورياض وردياني وجهاد سعد ومصطفى الخاني وسمر سامي ونجاح العبد الله وقصي خولي وسعد مينا وبسام كوسا وتيم حسن وفاديا خطاب، وآخرين، ولدت حكاية المسلسل العربي الأكثر شهرة، الزير سالم.

alarabiya.net