درج في العربية، استعمال البدوي كصفة للشاعر، أو لشعراء ونحاة. ويشار بالبدوي الشاعر، إلى كل من سكن البادية، يقابله شعراء الحضر. وهو عرْفٌ بات من مصطلحات التصنيف، للإشارة، مرة إلى نوعية هذا الشعر وفصاحته، وأخرى إلى طبيعة الحياة التي عاشوها، ومرة إلى المقابلة الاجتماعية، مع أهل الحضر.
وركن مؤلفو العربية الأوائل، إلى البداوة، باعتبارها مصدرا من مصادر الفصاحة الأولى. وعلى ذلك انخرط كبار العربية، ومنذ بدء التصنيف، في البدو، ونهلوا منهم، الألفاظ والاشتقاقات، كالفراهيدي، صاحب أول المعجمات، وكسَيبوَيْه، صاحب أول كتاب نحو.
البادية والفصاحة
وتشتهر العربية، بشعراء البدو. ومنهم الشعراء الكبار، من عصر الجاهلية، ومنهم الكبار في عصر الإسلام، ثم في الخلافة الأموية، وبعدها العباسية، وما بعدهما. وفيما يشار إلى كثير من شعراء الجاهلية، بشعراء البداوة، تحولت مفردات حياة تلك البيئة، إلى مختلف الشعر الحضري، وصار لا يمكن التمييز بين بدوي وحضري، في وقت لاحق. حيث تركت البادية، أثرها، بمفرداتها وتجاربها، في نصوص اللاحقين، ودخلت خصائص الحضر، في تلك المفردات البدوية، فبات الشعر العربي اللاحق، بدويا حضريا، أو حضرياً بدويا، مهما اطمأن النقاد إلى مصطلحات المولدين والمحدثين، للتفريق بينهم، ومن سبقوهم في عصور الفصاحة الأولى.
في المقابل، بقيت الإشارة إلى شعر البدو، مستمرة، في القرون اللاحقة، ذلك أنها إشارة إلى موطنهم الذي هو بدوره، إشارة إلى عنصر نقاء أول، شمل نقاء الفصحى ذاتها، كما قال رؤساء العربية، ولذلك سيستمر العمل والبحث عند المصنفين، للبحث عن شعراء البدو أو البادية، وتصنيفهم، كل بما يجتمع به، مباشرة، أو يأخذه من طريق رواية راوٍ.
ترجم للبدو وذهب دمه هدراً
وكان كتاب “دمية القصر وعصرة أهل العصر” أحد أهم الكتب المتأخرة التي رصدت شعر البدو، بل يعد بحسب دارسين، واحداً من أهم كتب التصنيف والتراجم كافة التي شكلت صلة وصل ما بين الأقدم، ثم الأحدث.
و”دمية القصر” وضعه الباخرزي، نور الدين علي بن الحسين الباخرزي، أفغاني الأصل، إلا أنه لشدة تعلقه بالعرب، آثر أن يفتتح مصنفه، بما سماه “طبقة شعراء البدو والحجاز” وابتدأ بهم.
يعد الباخرزي المتوفى في القرن الخامس الهجري، من أصحاب اللسانين، العربي والفارسي، إلا أن لسانه العربي، كان حجة، ولا أدل على ذلك، إلا دميته، وعموم شعره. ويشار إليه بحسب دارسيه ومحققيه بأنه: “سنّي المذهب، غير متعصب لسنيّته” وبأنه كان رأساً في الكتابة والإنشاء والفضل، وأوحد عصره في ذهنه، بحسب أحد أشهر محققيه، الدكتور محمد التونجي.
وبعد أن فرغ من دميته، تأليفا وجمعاً وأسفارا وتصنيفاً، فاجأه شابٌ تركيّ وطعنه بسكين، مما أدى إلى مقتله، على الفور، ولم يعرف سبب قتله، وذهب دمه هدراً في مسقط رأسه “باخرز” في العام 467 للهجرة، يقول أصحاب ترجمته.
دمية القصر
“دمية العصر وعُصرة أهل العصر” كتاب تراجم في المقام الأول، ترجم فيه لأكثر من 500 شاعر وأديب ومن ليس في هذا المنحى. إلا أنه ترك للعربية، أحد الاكتشافات والوثائق الهامة، عن شعراء البادية الذين افتتح بهم، كتابه.
لكن شعراء البدو المشار فيه، إلى الأصل البدوي، لم يعد يعني جملة الألفاظ المستمدة من العلاقة مع الطبيعة، أو اتباع أسلوب الأقدمين، بحرفيته، بل صار مجرد إشارة إلى الأصول العائلية أو القبلية الأصلية، فيما المادة الشعرية، بطبيعة السياق التاريخي، صارت مزيجاً بدويا حضريا، أو العكس. وهو ما يبدو في إحدى التراجم الهامة، عن أحد من صنفهم، تحت بند: طبقات شعراء البدو والحجاز.
شعر البدو أعذب من الزلال
وقال الباخرزي، في شعراء البدو، ما قاله رؤساء العربية، من قبله. إذ يمهّد لقسم شعراء البدو والحجاز بالتالي: “أقول في هذه الطبقة: إن أحسن أبيات الأشعار، ما طلعت من أبيات الأشعار، ورَعَت مع الظباء، الشيحَ، وتزوّدت، مع الضباب، الريحَ، مستغنية بحسنها، عن التصنّع والتعمّل، حلوة إذا ذاقها الناظرُ بحسن التأمّل” ويضيف: “لقد وقع لي من حُسن هذه الطبقة، ما هو أعذب من الزلال”.
و”أعذب” من الزلال التي وصف فيها، شعر تلك الطبقة، تنطبق بالكامل، على أحد الذين ترجم لهم، في دميته، وهو شاعر كان من الممكن أن يعد من الطبقة الأولى، لو كان في عصور أسبق، وهو الشيبي المكي.
لا يقدم الباخرزي كثير تفصيل، عن هذا الشاعر الموهوب المصنف ببند شعراء البدو والحجاز، إلا بأنه شاعر شاب. وهذا الشاعر الشاب وقع عليه، كما وقع على سواه، من اختلاف بالاسم أو النشأة أو الأصل، حتى لتضيع ملامحه وتصبح ترجمته، اقتصارا على شعر، دون معرفة أي تفصيل شخصي آخر، سوى أنه من شعراء البدو.
أسماء كثيرة والشاعر المجهول واحد!
والشاعر الشاب الشيبي، يسمى أيضا، الشبيبي، ويسمى أيضا، أبا طالب الرامشي، ويسمى أبا الفضل، ومن أسمائه، جعفر، وهكذا حتى وبعد أن يترجم له، في مصنف متأخر ذائع الصيت ومنذ القرن الثامن للهجرة، وهو الوافي بالوفيات، للصفدي، 696-764 هـ، وهو من أهم كتب وأوسع مصنفات التراجم، سنجد المؤلف الكبير ينقل حرفيا عن الباخرزي ما قاله بالشيبي، دون أي حرف إضافة، سوى بمدحه الشعر المقتبس، فينهي كلامه بالقول: “وأقول: هذا شعر جيد!”.
وبتلك اللغة المعجبة، يتحدث الباخرزي، عن الشاعر الشيبي أو الشبيبي أو جعفر أو المكي أو الرامشي أو أبي الفضل، بعدما أطرب السامعين بدفق قصيدته: “شابٌ، حسن الرواء والرواية، رأيته بين يدي الشيخ صاحب الحضرة، مدلياً إليه بحُرمة العربية، مدلا عليه بهذه الداليَّة، يطرب الحاضرين بنشيدها، ويرقص ذوائبهم بأغاريدها”.
و”الداليّة” من حرف الدال، قافية القصيدة، مديح لو كتب له، أن يكون في عصر الأوائل ورؤساء العربية، لصنف في أوائل الطبقات، ومنها:
تَولاَّكَ بالإحسان عن حسن خِبرةٍ
وأعطاكَ ما لم يُعْطَهُ أحدٌ بَعْدُ
فأبشرْ بتصريف الأمور ودولةٍ
نَظَمتَ معانيها كما ينظَم العقدُ
ثم ينتهي إلى بيت فخم لا يذكر إلا بمعالجات المتنبّي الذي هو الآخر دخل في البادية ردحا من الزمن ثم عاد بشعره الذي ملأ به الدنيا:
كأني بكَ استوليتَ من كلِّ وُجهةٍ
عليها كما استولى على الجسدِ الجِلْدُ
ويكمل:
تُجلّك ساداتُ البريةِ كلّها
ويأتي إليك الوفدُ يتبعه الوفدُ
وتبلغ أقصى ما تريد ميسَّراً
وما لك عن شيء تحاوله رَدُّ
ويقول في قصيدة أخرى:
وأوحشني الخيالُ وكان أُنسي
لَوَ اْنَّ العين كان لها هجوعُ
أرى أُدم الظباء لها امتناعٌ
وأطيب ما يفاز به المَنوعُ!
وفي العشاق مفتونٌ بمعنى
وموضع فِتنتي منك الجميعُ
ومنهم من يشير ولا يسمّي
ومنهم في المحبة من يذيعُ
يطير القلبُ من شوقٍ إليه
فتمسكه لشقوتيَ الضلوعُ.