أثار فوز الروائي التنزاني عبدالرزاق قرنح بجائزة نوبل للآداب، جدلاً واسعاً بين أوساط اليمنيين، حول لقبه الحقيقي وجذوره وجيناته الأدبية، ما دفع أدباء وباحثين إلى النبش في جذوره الممتدة إلى أربعينات القرن الماضي، حيث تناقلوا وثائق أدبية تفيد بأصوله الحضرمية المنحدرة إلى بلدة الديس الشرقية التي لا تزال تحتضن بعض أفراد أسرته حتى اليوم، بحسب ما كتبه الدكتور خالد بلخشر في مجلة حضرموت الثقافية عام 2016 في مقالة نُشرت له قبل خمس سنوات في مجلة حضرموت الثقافية حملت عنوان “حكايتي مع عبدالرزاق قرنح”، ووصف ناشطون مسيرة قرنح الروائية بأنها قوة إبداعية ناعمة فرضت سطوتها وتأثيرها على العالم.
وفي السياق ذاته، تلقف يمنيون على السوشيال ميديا، خبر فوزه بحماسة كبيرة، وتغنوا بأصوله الحضرمية، مستندين إلى شهادات ومعلومات موثقة عن عبد الرزاق سالم قرنح المولود في زنجبار بتنزانيا، حيث تعود أصول عائلته إلى آل قرنح بالديس الشرقية في حضرموت، شرق اليمن، التي تقع على بعد 100 كلم إلى الشرق من مدينة المكلا، إلى جزيرة زنجبار القريبة من الساحل الشرقي لأفريقيا في أربعينيات القرن الماضي، والتي تكونت منها هي وتنجانيقا دولة تنزانيا فيما بعد.
عبر تغريدة مثبتة الزنجباري العالمي يتجاهل اليمن ويهدي نوبل للأفارقة
تناقل الناشطون معلومات تاريخية تفيد بأن أهله ما يزالون يقطنون الديس الشرقية حتى اليوم، وعبدالرزاق هو أخ غير شقيق لـطبيب الأسنان د.سعيد سالم قرنح رحمه الله.. ويشار إلى أن والديه حضرميان؛ وتنتسب والدته أمه إلى عائلة باسلامة الحضرمية.
إلى ذلك، أكد ناشطون يمنيون بأن عبدالرزاق قرنح هو من مواليد زنجبار عام 1948، أمه سلمى عبدالله أيضا حضرمية من عائلة باسلامة. وقد أهدى أحدى رواياته لها. ثم هاجر إلى بريطانيا عام، 1966 بعد المجزرة المشهورة في زنجبار في عام 1964 التي ألقت بظلالها على وضع العرب هناك خاصة العمانيين والحضارم.
عبدالرزاق الذي لا يزيد عدد متابعيه على تويتر عن 3000 متابع، ولا ترافق اسمه شارة التوثيق الزرقاء، فلم يبحث أستاذ الأدب الإنجليزي عن الأضواء ولا الشهرة، ولم يسع يوماً إلى مجد أدبي عالمي، اكتفى فقط بالكتابة، مكرساً حياته وفكره مخلصاً من أجلها. لكنه ثبت تغريدة كتب فيها “أهدي جائزة نوبل إلى أفريقيا والأفارقة وجميع قرائي”. من دون أن يشير إلى اليمن أو للعرب على الرغم من أنه جذوره منحدرة من أسرة يمنية.
مسيرة الروائي التنزاني عنوان ندوة أدبية يمنية منذ 5 سنوات
صاحب رواية “الجنة” أصبح اليوم اسماً لن ينساه التاريخ، فهو أول عربي من أصول يمنية يحصل على نوبل للأدب، وثاني مسلم يحصل على نوبل للأدب بعد نجيب محفوظ وثالث شخص مسلم يفوز بنوبل بكل فروعها بعد نجيب محفوظ “الأدب” والدكتور أحمد زويل “الفيزياء”.
وعلى الرغم من أن كثيرين لا يعرفونه، فالروائي العالمي 73 عاماً، لم تترجم رواياته إلى العربية، لم يسبق لأي جامعة عربية أن قدمت بحثاً نقدياً أكاديمياً حول أعمال هذا الأديب العالمي، باستثناء جامعة حضرموت اليمنية حيث قدم الدكتور خالد بلخشر أستاذ الأدب الإنجليزي المشارك في جامعة حضرموت بحثاً نقدياً تناول فيه أحد أعماله. كما عقدت إحدى المنتديات الأدبية في حضرموت في العام 2016 ندوة أدبية تناولت مسيرة عبدالرزاق قرنح الروائي التنزاني من أصول حضرمية يمنية.
الأدب حق لكل الشعوب ليس له وطن وينسب للإنسانية فقط
إلا أنه بات نجماً يحتفل بعالميته اليوم، ورمزاً لجوهر الأدب الإفريقي والعربي معاً، فمن خلال 10 روايات منها: ذاكرة الرحيل، ودوتي، وإعجاب بالصمت، وعبر البحر، وأولها صدرت عام 1987 وآخر رواية له صدرت هذا العام 2021، يؤكد قرنح بأن الأدب لا وطن حقيقي له، فهو حق لكل الشعوب ينسب للإنسانية فقط.
النوبلي الجديد وعلاقة الأدب بالجينات
في موازاة ذلك، يعتبر أدباء وكتاب وناشطون يمنيون، أن نوبل عربية إفريقية، من دون أن يفوتهم بالطبع التأكيد على يمنيته، إلا أن البعض رفض نسب الأدب إلى بلد معين، حتى وإن كان هو الحاضن لإبداع صاحبه، ووفق الكاتب اليمني صادق محمد، فإنه لا يميل إلى الحاق المبدع المهاجر بموطنه الذي هاجر منه، معتبراً ذلك بمثابة “تعسف بحق البلد الذي آوته” ومكنته من اكتشاف ذاته وإعادة تقديم نفسه بطريقة أكثر توهجاً وإبداعاً، ولا يمكن بحسبه اعتبار “النوبلي الجديد” عبدالرزاق جرنح” جرنة أو قرنح” يمنيا حضرميا باعتباره موطن أبويه وأجداده، أو تنزانيا باعتباره موطن ولادته وجنسيته، أو بريطانيا نسبة إلى البلد التي هاجر إليها منذ 1968، لكن المرجح عقلاً ووعياً أن هذا الإبداع إذا كان لابد من تجنيسه فإنه بريطاني أكثر منه عربي إفريقي، فليس له منا سوى الجينات.
بين الاندماج والتشظي 3 بحوث يتيمة بالعربية عن النوبلي الأخير
في حين يرى الكاتب والصحفي فتحي أبو النصر، أن هجرات اليمنيين وحكمهم لزنجبار هم والعمانيون منذ القرنين 18 و19 إلى منتصف القرن الـ 20 معروفة ومدونة، مشيراً أن عبد الرزاق ولد في خضم احتدام الهوية والهجرة واللغة الثانية والثالثة، وأضاف: “لا تحملوه ما لا يحتمل، ستترجم أعماله وسنرى همومه كما ينبغي، الاغترابات والاندماج والوحشة والتشظي بمقابل التماسك والتوازن والعبور، كل ذلك يترشح عن رواياته كما نقرأ 3 بحوث يتيمة بالعربية عن النوبلي الأخير دون أي مؤلف مترجم، شيء مؤسف جداً”.
فقط الغرب يصنع الفرق، فلا الأصل ولا الفصل لها علاقة بنوبل.. مقولات تندر بها البعض، لكن كثيرين اعتبروا فوزه بأنه بهجة كبيرة تخفف من وطأة الحرب، أو كما يصفه الشاعر اليمني محمد إسماعيل الإبارة، بأنه بمثابة مجد حقيقي بلغه الإنسان اليمني المبدع الضارب في هجراته وانتمائه.
أدباء يمنيون: بلدنا بحاجة لأمثال عبدالرزاق للنهوض بواقعنا المأساوي ويضيء مستقبلنا الحالك الذي دمرته الصراعات
وعلى الرغم من أن جماعة نوبل لم يعترفوا بجذوره العربية بل اكتفوا بتنزانيته الأفريقية أو بريطانيته الحالية، إلا أن أدباء اليمن الجاثمون على خطوط النار، الذين يعيشون كل يوم أصناف الوجع والفقر المرّ، ويتجرعون ويلات الجوع والمرض والأوبئة، يعتبرون بأن بلدهم بوجه خاص والوطن العربي عموماً بحاجة لأمثال الروائي عبدالرزاق. للنهوض بواقعها المأساوي ومستقبلها الحالك الذي شوهته الصراعات ودمرته الحروب، ويتفاءلون بفوزه بوصفه إشراقة رائعة تؤكد أن الحياة تظل في كل الأحوال تنتصر لوجهها المضيء والمبهج مهما اشتدت وتكاثرت أوجه الظلام والأحزان.
ناشطون: لا يبدع اليمني إلا عندما يخرج من الثقب الأسود
ورصدت “العربية.نت” تعليقات ناشطين يمنيين، فقال حمد السقطري، إن فوز الروائي العالمي هو منجز آخر يضاف إلى حضارم المهجر، وتستشهد الكاتبة والروائية اليمنية هدى العطاس، بعبارة للأديب الحضرمي علي أحمد باكثير “إذا ثقفت يوماً حضرمياً لجاءك آية في النابغينا” وأضافت: “تذكي في الحضرمي جذوة السر والنبوغ. في السياسة يحكمون شرق آسيا وكثير من دول إفريقيا، وفي الاقتصاد بنوا أمبراطوريات مالية وهاهم في الأدب والإبداع كذلك ولكنهم للأسف يفتقدون تلك الجذوة في أرضهم الأم.
بينما يرى ابن المكلا أحمد طالب، أن النجاحات الكبيرة هي ثمرة اجتهاد شخصي، فلا للعرق مكانة ولا للأصل قيمة ولا للدول قدرة ولا للطموح حدود، فأينما وجد الإنسان شغفه واتبعه بإصرار فإنه حتما سيبلغه”. وأضاف حمير الحارثي :”إذا كان هو معترف بأصوله اليمنية ويفخر بانتمائه لليمن وكتب عنها شيئا من أعماله فهو يمني ونفتخر به وإذا كان لم يفعل شيئا مما ذكر فهو بريطاني تنزاني”. لا يبدع اليمني إلا عندما يخرج من الثقب الأسود، وتضيف ريم صالح: “هذا حال بلادنا من خرج منها تكرم ورفع شأنه وعرفوا قدره ومن ظل فيها دُهست أحلامه أمام عينه”.
روائي عصامي متقاعد متفرغ للإبداع العابر قلوب كل الشعوب
يشار إلى أن كتابات عبدالرزّاق تسلط الضوء على الشتات وانعكاساته على إعادة تشكيل الهوية، كما تعالج رواياته قضايا الهجرة والتاريخ والعنصرية، ويوصف بأنه روائي عصامي يمتلك فن تشويق لا يباريه فيه أحد من كتاب أفريقيا، درس عبدالرزاق في جامعة كِنت بإنجلترا التي وصل إليها كلاجئ في نهاية الستينيات عند بلوغه العشرينيات من عمره، وكان أستاذاً للغة الإنجليزية والآداب إلى أن تقاعد مؤخراً متفرغاً للكتابة ومخلصاً للإبداع العابر قلوب كل الشعوب.