ارتفعت نسبة الحنين لدى الروائي السعودي عبدالله بن بخيت ليكتب بلغة الحرقة والأسى عن الزمن الذي يريد أن يستعيده ناصر بطل رواية “الدحو”، والذي لم يبتعد كثيراً عن روايته الأولى “شارع العطايف” سواء في الفترة الزمنية أو في الشخصيات، حتى إن اسمي بطلي رواية “الدحو” ناصر ونوف يحملان اسمي بطلي رواية شارع العطايف.

وفسر بن بخيت ذلك في حوار مع صحيفة “الرياض” بقوله: “لا أجد تفسيراً سوى إحساسي بالحنين لتلك الفترة الزمنية، الحنين أفضل من الأحلام الجميلة، بل وأجمل من أحلام اليقظة كمادة روائية، عندما تستيقظ من أحلام اليقظة تشعر بأنك خرجت من كذبة حتى وإن كانت جميلة، بيد أن الحنين شيء جميل ومليء بمواد صادقة تستطيع أن تصنع منها مادة عظيمة”.

وأضاف: “الرواية من أساسها مادة متخيلة يغذيها الحنين لعالم انتهى على الأرض، ولكنه يبقى في الوجدان، إن أوصاف نوف في “شارع العطايف” وأوصاف نوف في “الدحو” واحدة، في الحقيقة هي امرأة واحدة، لعلي أقول اجتمعت نساء ذلك الزمن في هذه المرأة التي اسمها نوف، هذا شيء أسميه النموذج أو البارديم صورة مركبة من كل امرأة شاهدتها وأعجبتني وكل امرأة استهوتني وتراكمت في وجداني، امرأة تسمى شعبياً مجرومة أو plus size مثل هذه المرأة نادرة في ذلك الزمن، عندما تظهر تخلب الألباب، امرأة تتصف بالجمال الأخاذ وتتجلى هذه المرأة عندما يضع القدر جمالها إزاء الحرمان، حرمت نوف من الحب رغم أنها حصلت على أجود أنواعه، لأنه أتاها من خارج السياق، حب نوف في شارع العطايف محطم وحب نوف في الدحو محطم أيضاً”.

وتابع بن بخيت: أما عن استخدام اسم ناصر مرة أخرى، فناصر ليس سوى مجموع الشباب الذين عشت معهم، وهذه الحال مع نوف فلم أحتج إلا إلى الاسمين ناصر ونوف لينتقلا معي من كتاب إلى آخر ومن زمن إلى آخر، الحنين ليس لشيء عشته واستمتعت به فقط، ولكن لكل حب لم أوفق في الحصول عليه، كلاهما يغني العمل الروائي.

وأوضح بن بخيت أنه يمكن القول إن رواية “شارع العطايف” هي رواية ثلاثية كتبت لتمجيد الحب الذي يواجه الصعوبات.. “قبل النشر أعطيت كل جزء فيها اسماً، الأولى الحب المحطم والثاني الحب الضائع والأخير الحب المستحيل، أنا كاتب لا أبحث في المجتمع أو في الأيديولوجيا أو الحقوق وتحسين عيش الإنسان. لا أقحم الرواية في الصراعات الزائلة. الموسيقى أقرب جنس إبداعي للرواية، عندما أكتب رواية أكتب مادة الوجود نفسه، الحب عندما يواجه القسوة يصبح أرقى مادة تبحث من خلالها عن جوهر الإنسان”.

الموسيقى أقرب جنس إبداعي للرواية

وبسؤاله.. ناصر رجل عجوز يخرج من السجن وهو متهدم وبائس ولكن هذا العجوز كانت له ذاكرة طرية ورطبة تتذكر الأشياء كما لو أنها حدثت أمس، كيف لهذا الرجل الذي اقترب من الثمانين أن يكون ممتلئاً بالذكريات الطازجة في مخيلته، هل حياة السجن دربته على ذلك؟

أجاب بن بحيت أن “حياة السجن حياة مكررة فما بالك إذا تكررت خمسين عاماً، من الطبيعي أن يتذكر الإنسان أجمل أيامه ولحظاته، كل شيء تركه ناصر وراءه سيكون أجمل من كل حياة عاشها في السجن، الناس تصف الماضي بالزمن الجميل والحقيقة ليست كذلك فالحياة ليست جميلة ولكن ذاكرة الإنسان انتقائية، تترك المرارات والخيبات وتضخم اللحظات السعيدة.. ولكن حالة ناصر استثناء فكل ساعة عاشها في السجن هي مرارة، لم تتوقف المرارة عند حبس الحرية فقط ولكن لأنها تنطوي على ظلم والأشد قسوة من الظلم أن ناصراً لا يجد أحدا يلقي عليه باللائمة.. فكل أدلة الجريمة التي اتهم بها تشير إليه دون سواه، كان الشيطان بارعاً في حياكتها، مكن الشيطان ناصر من الاختيار بكل قسوة، خيره بين السجن أو ارتكاب خيانة حبيبته التي ضحت بكل شيء من أجله، خطيئة لا تغتفر ولكنها تنجيه، دفعه ملك الشر أن يرتكب عاراً مضاعفاً حين أعطاه فرصة نجاة، لكي ينجو عليه أن يزج بحبيبته في القضية من أجل إنقاذ نفسه لكن ناصر انتصر على الشيطان بأن ضحى بنفسه من أجل حبيبته، فوت ناصر على الشيطان فرصة النصر الكامل والحاسم.. هذه هي الحالة الوجودية التي عنيتها في جوابي السابق، الرواية هي مواجهة الإنسان لحقيقة وجوده، وجود الإنسان مادي وأخلاقي، انتصر ناصر للأخلاقي على المادي، حجم الخسارة التي تلقاها ناصر هي انتصار على الشيطان، أسميها نصراً لأنها أنقى من كلمة تضحية.

الحنين أفضل من أحلام اليقظة

وبسؤال: في رواية “شارع العطايف” حضرت عوالم القراندول، وفي “الدحو” حضرت عوالم عبدان، برغم أن الزمن في الروايتين متقارب، هذا التنويع في استحضار تلك الأماكن هل يعني تأريخا لحالة ما؟

يجيب بحسب “الرياض” أنه “لا يوجد تصميم مسبق في الرواية.. فكل صفحة تظهر للوجود تخلق الصفحة التي تليها، قد لا يرى القارئ أن الكاتب يعيش عتمة القادم مثله مثل القارئ، فالفضاء الذي تتحرك فيه الشخصيات وحياة الشخصية التي تعيش في هذا الفضاء تقرر الأمكنة والأحداث وغيرها، فما حدث في “شارع العطايف” ليس بالضرورة أن يحدث في “الدحو” فالشخصيات مختلفة، مقاربة الواقع تفرض تطورات الأحداث والرغبات وحتى الأمكنة، تعيش اليوم مع معاصريك في الرياض أو في الدمام ولكن ليس بالضرورة أن تمر بنفس التجارب التي يمر بها أقرانك في الرياض أو الدمام، فظهور عبدان في “الدحو” كان قرار الشخصيات لا الكاتب، لا يوجد في الرواية عملية تأريخية متعمدة، فكما قلت سابقاً الراوية هي تاريخ من لا تاريخ لهم وتاريخ الشخصيات العادية تقرره الظروف التي تمر بها هذه الشخصيات، وغالباً لا يد لهم فيما يحدث لهم، اسمع سأقول لك شيئا مهما، العمل الروائي لا يبدأ بمخطط ولا يبدأ بفكرة ولا يمكن لكاتب الرواية أن يقول لنفسه سأكتب قصة عن حقوق المرأة أو عن الرياض في السبعينات أو الثمانينات، ولا تبدأ العمل بقصة سمعتها من جدك أو أمك ولا يبدأ بزمن معين كأن تقول إن شاء الله سوف أبدأ بكتابة رواية الأسبوع القادم، اسأل المؤلف الموسيقي كيف يبدأ عندئذ تحصل على إجابة الرواية. أستطيع أن أكتب رواية تبدأ بالكتابة عن هذا الكرسي الذي أجلس عليه الآن، هذا الكرسي الذي أجلس عليه يمتلك حياة تبدأ من مكتبي وتمتد ما امتد هذا العالم، مئات من الأسر والعمال والسفن والأثرياء مر بهم هذا الكرسي. ستبدأ الصفحة الأولى بالحديث عن الكرسي ثم يأخذك الكرسي إلى متجر ثم ميناء ثم سفينة لتجد نفسك تدخل بيت عائلة صغيرة في قرية صينية ذهب ابنها الوحيد للعمل في أحد المصانع في بكين، ستمر على ناس لا تعرفهم ولكنك سوف تضطر أن تخلقهم حتى لكي تصل إلى مبتغاك الذي لم يتبين بعد”.

الكاتب لا يعلم ما الذي سيحدث في الصفحة التالية

ويتابع: “كتابة الرواية تنمو سطراً ثم سطر ثم صفحة ثم التي تليها، الكاتب لا يعلم ما الذي سيحدث في الصفحة التالية مثله مثل القارئ، إذا بدأت الشخصيات بالتشكل فسوف يقودك خيالك لتصنع أفضل خيارات هذه الشخصية، سعندي في شارع العطايف ذهب إلى قرندول وناصر ذهب إلى عبدان، هكذا سارت الأمور”.

وبسؤال “الرياض” له لاحظت أن هناك مساحة من السرد استغلت في سرد بورتريهات عن بعض الشخصيات سواء في الحارة أو السجن هذا السرد المعلوماتي عن تلك الشخصيات إلى أي حد أضاف للحكاية في النص؟

أجاب: “لكي تعرفني عليك أن تضعني بإزاء الآخرين، لا يعيش الإنسان وحده، كل شخصية في الرواية هي جزء أساسي من الرواية، لكي تحيي شخصية في رواية ثمة طرق متعددة عليها أن تتوفر عندئذ تكون الرواية رواية، على سبيل المثال، عندما تقرأ قصة عنتر أو الزير سالم لن ترى شخصيات ولن ترى أحداثاً حقيقيةً ولن ترى مكاناً تكاد تعرفه، حتى الزمان لن يظهر أمامك بوصفه زماناً يعيشه بشر، عمل متعالٍ على الواقع يحييه الحكواتي بصوته وطريقة أدائه أو تحييه إشادات النص المتواصلة للبطل لدغدغة حس القارئ الأسطوري، في الرواية الأمر مختلف، لن أتحدث عن عناصر الرواية التي ذكرتها تواً لأنها خارج سؤالك سأتحدث بشكل مختصر عن الشخصيات وهو الموضوع الذي أحضره سؤالك”.

وأردف: “فكل شخصية وردت في الرواية سواء في عالمه القديم المتوفر في الذكريات أو الشخصيات التي أحاطت به في السجن تمثل عمقاً لشخصية ناصر، جودة العمل الروائي تقوم على بناء الشخصية الأساسية بالشخصيات التي تحيط بها، يتذكر القارئ شخصية نادر العاشق القاتل والذي تم تنفيذ حكم الإعدام فيه.
لم يكن قاتلا متربصاً بل حدث ما حدث في واحدة من ثورات الشباب المعتادة وربما لمس القارئ نبل شخصية سعد بائع المخدرات عندما بصق في وجه مغتصب الأطفال. من خلال التعرف على هاتين الشخصيتين واقتراب ناصر منها ستتعرف على شخصية ناصر، وهذا أيضاً يمكن أن نراه في الشخصيات التي جاءت إلى النص من الذكريات خصوصاً الشخصيات الهامشية التي أضاءت الحياة الجوانية لناصر كشخصية أحمد سوداني ويا واد يا تأيل وشخصية بخشة إلخ. بدون تضافر هذه الشخصيات لن تعرف ناصر وربما ينقلب النص إلى ما يشبه قصة عنتر أو الزير سالم”.

وبسؤاله “لماذا وجدنا شخصية شنغافة في رواية شارع العطايف يُحكم عليه بالقصاص في جريمة لم يرتكبها، وكذلك ناصر في رواية الدحو قضى في السجن 50 عاماً في جريمة أيضاً لم يرتكبها؟”

أجاب بن بحيت: “المسألة لا تختلف بين ناصر وبين شنغافة، فشنغافة ذهب ضحية العنصرية وناصر ذهب ضحية القدر. وكما نعلم لا يوجد سبب أخلاقي أو إنساني أو حتى مصلحي يبرر العنصرية فترقى الجرائم الناشئة عنها إلى مستوى القدر. ناصر وشنغافة ذهبا ضحية للقدر”.

الذكريات

وبسؤاله: هل نقول إن بطل هذه الرواية هي الذكريات وليس الشخصيات، تلك الذكريات التي سالت من ذاكرة ناصر؟

قال: “الروائي هو الذي ذكر كلمة الذكريات، فناصر لم يكن يتذكر كان يعيش في ذاكرته، لا تضع ذكريات الإنسان العادي بإزاء ذكريات ناصر، الإنسان العادي عندما يتذكر تنساب ذكرياته نحو المستقبل إلى أن تلتحم مع اللحظة التي يتذكر فيها، يستعيد طفولته وأيامه القديمة ويحقق سعادة بيد أن ناصر يتذكر حياته، ثمة خمسون سنة بين ناصر وبين ذكرياته، المسافة بينه وبين ذكرياته أطول من زمن الذكريات التي يستعيدها، فالخمسون سنة التي قضاها في السجن تشكل حاجزاً بينه وبين أيامه القديمة بينما ذكريات الإنسان العادي تتم بتواصل، وعادة لا يوجد بينها فراغ فضلاً عن أن يكون الفراغ مؤلماً، ولا تنس الخمس سنوات التي عاشها ناصر في انتظار أن يُقتل في أي صباح يستيقظ فيه، شكلت تلك السنوات الخمس قطيعة بحد الموت، كان انتظار الموت تكنيكا احتجته لكي أجعل القطيعة حاسمة ونهائية، خمس سنوات في انتظار الموت كانت كافية لتفصل بين حياة ناصر وبين وجوده في السجن، وهذا ربما أدى إلى احتفاظ ناصر بذكرياته نقية لا يملك أي شيء يضيفه عليها. تخيل أن إنساناً مات في السبعينات ثم خرج من المقبرة يبحث عن الناس الذين تركهم”.

alarabiya.net