يكثر الحديث عن قصة تخاطب شهيرة، في اللغة العربية، يردّ فيها المشكور، على خير فعله أو تسبب به، بكلمة “عفواً” وما إذا كان لهذا التعبير، أصلٌ في العربية: شكراً، عفواً.

و”شكراً” الجارية، يغلب عليها، في ما سبق، الشكر لله. فيقال: “شكراً، لله” ثم انسحب الأمر، على الناس، وصارت شكراً، على أي صنيع قدّم لك أو عون أو دعم أو مساعدة، من أي أحد. ثم سَرت في العربية، لتكون أدبيات تخاطب شهيرة.

العفوُ في أصله هو التَّرْك

والعفو، في الأصل، هو التَّرْك، ومنه العفو بالمعنى الديني أو القانوني، الذي يعني ترك العقوبة. إلا أن كلمة العفو، كغيرها من أصول العربية، تحمل العديد من الدلالات، بحسب مكان الاستعمال وتاريخه: “عفا المنزل، يعفو، فهو عافٍ، إذا درس. وعفا شَعرُه، إذا كثر. فكأنه عندهم من الأضداد” يقول ابن دريد في جمهرته.

ويأتي العفو، بمعنى الزيادة، وبمعنى الفضل، وبمعنى الصفح، وصور عديدة أخرى، إلا أن الأشهر والأكثر استقراراً وارتباطاً بالأصل، هو أن العفو، الترك، ومنه العفو الذي يعني ترك العقوبة.

وتأتي “عفواً” التي نقولها ردا على كلمة “شكراً” بمعنى الزيادة، أي أنني أعطيتك وبسهولة ويسر، مما يزيد عن حاجتي، فلم أتضرر بما منحتك إياه. وهو معنى غير بعيد عن سياق الاستعمال، خاصة بالعودة إلى سياق القرآن الكريم: “ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو” أي “الفضل” والزيادة، ما يفضل عن حاجة الشخص أو حاجة أهله، والعفو هنا، الفضل، والأخير الزيادة، ولا يزال هذا المعنى واردا في العاميات العربيات، فيقال في المصرية “إيه اللي فاضل” أي ما الذي تبقى؟ وفي السورية “فاضلّك كذا وكذا” أي بقي لك، كذا وكذا.

يأتيك خيره، عفواً، قبل السؤال

ويرد العفو بمعنى العطاء دون أن يقع المرء في ذلّ السؤال! وهو مما يكمن في “عفواً” التي تأتي رداً على شكراً:
هو الجَوادُ الذي يعطيك نائله
عفواً، ويظلم أحياناً فيظَّلمُ
يمدح زهير بن أبي سلمى في هذا البيت، رجلاً كريماً، يعطي “عفواً” بسهولة، قبل أو دون أن يضطر الشخص إلى السؤال. فيرد في شرح البيت: “عفواً، أي يعطيك بلا مطل أو تعب” ويقال: “أعطيته عفو المال، يعني بغير مسألة”. ويضيف “تاج العروس”: “يأتيك خيره، عفواً، قبل السؤال” ويؤكد “ألسني” العربية الشهير، ابن فارس، في مقاييسه: “أعطيته المالَ، عفواً، أي عن غير مسألة”.

العفو والكرَم تجتمعان معاً في العربية

والجُودُ، أو الكَرمُ، أو العطاءُ، عفواً، بات سمة حاسمة من سمات الكرام، ذلك أنها تعني المنح، دون طلب ودون سؤال بل دون التماس، أيضاً. ورد في “يتيمة الدهر”: “أهنأ النعم شرباً، وأمرعها شعباً، ما جاء عفواً، من غير التماس”.

في السياق، تجتمع كلمتا الجود والعفو، كثيرا في المنقولات العربية، ذلك أن العطاء بدون سؤال، أو قبل الطلب، معوّل عليها، أكثر من قصة العطاء مما يزيد عن الحاجة. فكيف سيكون كرماً، إذا كان ما أعطاه، هو مجرد ما زاد عن حاجته؟ والفضيلة هنا، للعطاء دون سؤال. ويورد ياقوت الحموي في معجمه: “ولم أر مثل الدهر مسدي نعمة/ يجود بها، عفواً، ويأخذها غصبا” وهي هنا، تزيد في معنى الرضى والقبول، أيضاً.

عفواً.. لا يظهر على من أنفقه!

ولفت الطبري في تفسيره المشهور، في سياق نقله لأكثر من تفسير للآية القرآنية الكريمة: “ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو” إلى معنى يقترب من أصل “عفواً” في عدم السؤال، فيوضح بعدما ينقل التفسير المشهور والمتفق عليه للكلمة: “معنى ذلك، ما كان عفواً، لا يبين على من أنفقه، أو تصدّق به!”.

وتكون “عفواً” رداً على “شكراً” حاملة معنيي عدم السؤال، وعدم المشقة والتكبدِ، في العطاء. فلمّا يقال: عفواً، فيكون القصد أن ما أعطيتك إياه، لم أتكلف به مشقة تذكر، وهو أمر لمحه صاحب “تكملة المعاجم العربية: “أتعبتك، عفواً، لما أحدثته لك من مشقة. وشكراً تقال لمن أجهد نفسه من أجلك”.

نعتذر بـ”عفواً” أي لم نتعمَّد الشيء

في حين تأتي “عفواً” المعاصرة، كاعتذار، عن فعل الشيء، ويكون محتوى الاعتذار، أنني لم أتقصد فعل ذلك، بل جاء، عفواً، من غير تعمّد، ومنه “يقول الشعر، عفواً، عن بديهة”.

وكذلك، فإن ما أخذته منّي، لم يكن بسؤال منك، بل منّي، عفواً، جاء، وعفواً مُنِح إليك، ولم تقف أمامي للسؤال. أي أن عفواً، هنا، تحفظ كرامة الممنوح، بأنه مُنِح دون طلب، دون مسألة. وهي من أدبيات التخاطب الرفيعة، ذلك أنه أُعطي، عفواً من المانح، لا قصداً بعد سؤال من الممنوح.

عفواً.. بلا مشقة ولا سؤال

ومعنيا، عفواً، بعدم تكبّد مشقة، وما أخذته كان دون طلب منك، تفرضهما طبيعة الموضوع المشكور. ذلك أن شكر الشخص على حمل أمتعة أو حفره حفرة، مثلاً، يختلف عن شكر الشخص الذي أعطى مالاً. فالأول، أصلا، فيه، مشقة. فتكون عفوا، هنا، لم أتكبّد مشقة، تواضعاً أو أدباً أو تخفيفاً.
وأين هو تكبّد المشقة، في منح المال؟ أو تقديم معونة؟ أو أي مساعدة؟ هنا، لا مشقة تذكر، بل “عفواً” أي ما فعلته، كان بدون سؤال، منك، دون طلب. وهو ما يخفف على الممنوح، ويجعل الأمر، بلا تدخل منه، إذ لم يطلب، لم يسأل، ففي العربية “ذل السؤال” وهو من المكروه الذي يُتَجنّب، بالمنح، عفواً.

يقول الشاعر: “وزير تمنّته الوزارة، أولا/ وثانية، عفواً، بغير طلاب” أي بدون أن يسعى إليها أو يطلبها.
وآخر: وما استجديت إلا جئت عفواً/ بفيض البحر أو صوب الغمامِ
وغيره: والرزق لو لم تأته/ لأتاك، عفواً، عن كثب.

بذل ما ملك عفواً

والمشهور: أمسى أميّةُ يعطي المال سائلَهُ/ عفواً، إذا ضنّ بالمال المباخيلُ. وهذا البيت الأكثر توضيحاً للمعنى، فعلى الرغم من أنه سُئلَ المال، فقد أعطاه، عفواً، بأيسر ما يمكن، وكما لو أنه لم يسأل.

وشاعر: “وأبذل عفواً ما ملكت تكرماً”. وواحد آخر: “طالب لم ينل بالحرص بغيته/ وناله غيره، عفواً، وما حرصا”.

هكذا، عفواً، لرد على الشكر، بمعنى لم أتكبد مشقة، إذا كان الموضوع المشكور عليه، فيه مشقة تذكر. أما عفواً التي تقال، ردا على شكر منح وعطاء وتقدمة وكرم، فهي تعني، أعطيتك، دون طلب. وهي تحفظ كرامة الممنوح، فقد أخَذ دون أن يسأل، لأن من أعطاه، فعل ذلك، عفواً.

فعفواً، لكل من قال شكراً. وشكراً، لكل من أَعطى، عفواً!

alarabiya.net