رحل المفكر والمؤرخ التونسي هشام جعيط، يوم الثلاثاء الماضي، عن ستة وثمانين عاماً، بعد صراع مع المرض، بحسب بيان لوزارة الثقافة التونسية، سلطت فيه الضوء على إرث الراحل الفكري والتاريخي، والذي تعددت آثاره في أكثر من اتجاه.
وينتمي جعيط، إلى أرومة المفكرين المغاربة الذين رفدوا الثقافة العربية المعاصرة بمجموعة واسعة من المؤلفات الفلسفية والفكرية والنقدية والتاريخية، فيما يمتاز فكره، بالبحث والتنقيب المبكرين، في التاريخ الإسلامي، على خلفية من اتصال أو انفصال، عن منهج الاستشراق، الأخير الذي صار موضوعا مستقلا، بحد ذاته، عند مؤلفين، إنما مع جعيط، كان أداة من جملة أدوات معرفية جدلية عديدة، تستعمل في قراءة التاريخ الإسلامي.
عليه ومعه في آن!
إلى ذلك، تحول الاستشراق، إلى مساحة للاختلاف مع المفكر الراحل، إلا أنه كان مساحة للتناقض معه، تظهر، باتهامه مرةً، بالتهجم على الاستشراق، ثم اتهامه بالنقيض، بأنه درس التاريخ الإسلامي متأثرا، بمفاتيح الاستشراق نفسه!
من جهته، سرد جعيط، بالتفصيل، مكانه داخل الاستشراق، في مقدمة كتابه “تاريخية الدعوة المحمدية في مكة” وهو الجزء الثاني من مصنفه المعروف باسم “السيرة النبوية” موضحاً نقده، لبعض مصنفات المستشرقين التي “جُرِحنا” منها، بتعبيره.
وتحدث جعيط، عن مستشرقين درسوا تاريخ الإسلام، بخلفيات متعددة، منها الماركسية، ومنها المسيحية، معلنا بالوقت نفسه، أن لا معنى من انتقاد الاستشراق، إذا لم يقم العرب والمسلمون “باستكشاف ماضيهم بأنفسهم، باتخاذ المناهج المعترف بها، عالمياً”.
وتبرز مقدمة “تاريخية الدعوة المحمدية” إلمام جعيط الشامل بحركة التأليف الاستشراقي، والذي قسمه إلى مراحل زمنية مختلفة، احتفى فيها، بما سماه “لحظة 1900” معتبراً أنه عام “الانفتاح على كل شيء، واستكشاف كل شيء في المعرفة والفن”.
الاستشراق بحدّين
ويوضح الفترة الزمنية ما بين عامي 1860 و1960، بأنها الفترة الزمنية التي درس فيها الغربُ تاريخ الإسلام، باعتباره من “كبرى الحضارات الإنسانية” مستعرضاً غالبية الأقلام الاستشراقية التي صنفت عن الشرق أو العرب أو تاريخ الإسلام، سواء من ناحية السيرة النبوية، أو شخص النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، أو تاريخ اللغة العربية، أو دور البعد “القبائلي” بفهم التطور الاجتماعي والسياسي في التاريخ العربي.
ويعلن جعيط، صراحة، انتقاده للاستشراق الجديد، ويقول: “ما نعيبه على الاستشراق الجديد، انفلاته من عقاله، وابتعاده عن الصرامة المنهجية التاريخية”.
الارتكاز على الاستشراق، حيناً، ونقده وتعريته، حيناً آخر، دفع مصنفين عرباً، لإلصاق تهمتين متناقضتين، في الوقت نفسه، به، فاجتمع عليه، خصوم الحداثة التي سعى لها والنتائج التي وصل إليها بمنهجه التاريخي، وخصوم منهج الاستشراق الذي نقده وقرأه وعرّفه ونهل منه.
واتهم جعيط، في كتاب “الاستشراق والمستشرقون في فكر هشام جعيط” بسبّ وقذف المستشرقين “جميعهم”، أو “أغلبهم”.
تهمتان على طرفي نقيض!
وعلى النقيض، اتهم جعيط بالتأثر بالمدرسة الاستشراقية، وأن هذا ما جعل فكره يتسم بالحيرة والتناقض، بحسب ما كتبه الدكتور زبير خلف الله، في البيان الإماراتية، عام 2018.
ويشار إلى أن الاستشراق، تسبب، في المقابل، بتهمتين متناقضتين أخريين، لجعيط، ففي حين يوصف بأنه “يسكن في داخله، مستشرقون يوحون إليه بما يريدون” بسبب منهجه التاريخي بالتعامل مع التاريخ الإسلامي، وأنه على ذلك وصل إلى “تخمينات” لا “حقائق” بحسب دراسة الدكتور زبير خلف الله، فإنه اتهم بالنقيض التام من ذلك، في كتاب “الاستشراق والمستشرقون” السابق ذكره، حيث وصف مؤلف الكتاب، مؤلفات جعيط بأنها “توفّر” للإسلاميين “كل ما يحتاجونه” لضرب المستشرقين، وبأن جعيط “ينظّر للخلافة الإسلامية!” في حين ينظر إلى فكر جعيط، بأنه كاشف لتحوّرات التطرف ومندّد بأي مظهر من مظاهر الاستئصال، ومن أي خلفية جاء.
تهمتان متناقضتان 100% بحق مفكر واحد: استشراقي معادٍ، ومنظّر للخلافة الإسلامية، في الوقت نفسه.
محورية الإسلام في الشخصية العربية
وبحسب مؤلفات المفكر، وبحسب آراء دارسين، فإن منشأ هذا التضارب، في قراءة جعيط، راجع إلى أساسين فكريين، عنده، أشهرهما وأكثرهما أهمية، هو تعامله المحوري مع الإسلام، بصفته مكوناً رئيسا للشخصية العربية، وعليه تكون دراسة التاريخ الإسلامي، ضرورة معرفية وتاريخية وثقافية، لإيضاح وتحديث الهُوية.
أما الأساس الثاني، فهو الاستشراق نفسه والمعتمد المنهج التاريخي أو النقدي، أداة، والذي قرأ تاريخ المنطقة، من أكثر من منظور، منها ما يسلب القدسية، ومنها، ما يتركها وحدها بدون تعديل، وما بين محورية الإسلام، في الشخصية العربية، وهي من أسماء كتبه، ومفاتيح الاستشراق، وصف جعيط، بصفات متناقضة، في آن واحد، فيما وصفه آخرون، وللأسباب ذاتها، بالحيرة والتردد.
الحداثة حتميّة ولا تقاوَم
ودأبت مؤلفات جعيط القارئة للتاريخ الإسلامي، سواء بثلاثية “السيرة النبوية” أو “الفتنة، جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر” أو “نشأة المدينة العربية الإسلامية” بأجزائها، و”أزمة الثقافة الإسلامية” على بحث إشكالية الهوية والتراث وقضايا الحداثة والتحديث، والكشف عن ملامح ولوج المسلمين للحضارة الحديثة، من خلال ما يسميه “الطموح” في مجالات المعرفة والثقافة والفنون والعلوم، ولهذا يعيد إعادة تركيب الجدلية التي كانت قائمة ما بين “إبقاء” على القديم، أو “انتقاء” ما أمكن أخذه من الآخر، لتصبح القضية عنده، مسألة بقاء في “الوجود التاريخي” كما يقول، وعلى اعتبارٍ حاسم، وهو أن الحداثة “تيار لا يُقاوَم، فهو المجرى الحتمي للتاريخ” على ما ورد في كتابه “أزمة الثقافة الإسلامية”.
ويلخّص المفكر الراحل، بنفسه، نظرته لتعب السنين الكثيرة التي قضاها في قراءة تاريخ الإسلام وتأليف المصنفات التي تركت أثرها شرقا وغرباً بأكثر من لغة، وخُلاصة قوله الذي يمكن أن يستقى منه، سبب تناقض الآراء حياله، عندما يطرح سؤال الهوية، مفصّلا عن نوع الهوية المطلوب الحفاظ عليه، فيجيب بنفسه: “الحفاظ يكون على اللغة، مع إثرائها، وعلى الانتماء الديني، كمعتقد أو ثقافة أو قيم. فنحن مجتمعات عربية إسلامية”. ليصل إلى فحوى كل هذا الجهد الذهني، بأن التراث من وجهة التراث التاريخي، وليس الإسلام الديني أو الروحي، يتعارض، كما يقول، مع قيم الحداثة.