حول واقع الاكتئاب بالمغرب، ومستوى العلاج النفسي، وانتشاره في البلاد، يقدم السيكولوجي الغالي أحرشاو تفاصيل متخصصة.
وقال الغالي أحرشاو، في حوار نشر بمجلة “نساء المغرب”، أعدته هاجر إسماعيل، إنه بقدر ما تطورت، نسبيا، نظرة المجتمع إلى علم النفس وعلمائه في المغرب، في اتجاه الانفتاح على خدمات هذا الحقل العلمي والاستفادة من تدخلات أخصائييه وممارسيه “بقدر ما يصح القول إن علم النفس عندنا لا يزال في كثير من أنشطته ومشاريعه منغلقا على نفسه وحبيس الفضاء الجامعي”.
ويضيف أحرشاو أنه باستثناء بعض قطاعات الصحة والأمن والعدل، وبعض المراكز والمؤسسات والعيادات العامة والخاصة المحدودة التي يمارس بعض أخصائييها جانبا من المعرفة السيكولوجية، عند التعامل مع جملة من الاضطرابات النفسية والعقلية، يبقى “الثابت أن علم النفس المعمول لا يزال في وضعه العام يقبع داخل أسوار الجامعة”.
إلا أن السيكولوجي يقدر أن “الدينامية التي أصبح المجتمع المغربي يعيشها على أكثر من صعيد توحي، في كثير من الأحيان، بأن هذا العلم سينتفض ليتخطى تلك الأسوار، ويرضي بالتالي مطامح الإنسان المغربي وتطلعاته المختلفة”.
وفي تعليق للغالي أحرشاو على اختياره من طرف مؤسسة العلوم النفسية العربية “شخصية العام 2020 العربية”، قال إنه “عادة ما يشعر بالفخر والاعتزاز وهو يستقبل خبر أي تتويج أو احتفاء، من قبيل اختياره الأخير من طرف أكبر مؤسسة لعلوم وطب النفس في العالم العربي”، ثم أضاف: “أي تكريم أو تشريف كهذا، وبهذا المستوى، لا يمكنه إلا أن يشكل طاقة إيجابية، للتحفيز والتشجيع والاعتراف بالجهود البحثية والمعرفية التي تَشَبَّعَ بها مشواري الأكاديمي والعلمي لحد الآن”.
وحول الاكتئاب، الذي تصنف حالاته عادة إلى خفيفة ومتوسطة وحادة، يذكر المتخصص أنه “من أكثر الأمراض النفسية شيوعا وانتشارا في المغرب وفي العالم عامة”، ثم يزيد مسائلا نسبة 26 في المائة المصابين بالاكتئاب، التي وردت في تقرير لوزارة الصحة، قدمه وزيرها في سنة 2018 أمام البرلمان، فيذكر أن العديد من الخبراء والباحثين قالوا إن النسبة تصل إلى 80 في المائة، قبل أن يستدرك قائلا: “لماذا نستبعد فرضية أن النسبة المحتملة قد تكون أقل من تلك التي قال بها كل من الوزير والخبراء والمنابر الإعلامية على حد سواء؟”.
ويزيد أحرشاو شارحا: “الفرق بين النسبة المقصودة (26%) وتلك التي تقول بها كل من منظمة الصحة العالمية، أي 18 في المائة، وجمعيات الطب النفسي في أمريكا وأوروبا، أي 15%، يبدو فرقا كبيرا يصل في حده الأقصى إلى 11 درجة. وهنا يطرح سؤال جوهري آخر، مفاده: هل مردّ ذلك الفرق الكبير والارتفاع القوي لكل تلك النسب والأرقام على المستوى المحلي، يعود إلى كونِ بيولوجيا وإيكولوجيا المغاربة، بمختلف مورثاتها الجينية وبشتى أوضاعها الاجتماعية وممارساتها التربوية، تتميزان بخصائص نوعية مغايرة لما هو سائد في أغلب بلدان المعمور؟”.
ثم يستمر السيكولوجي قائلا: “أعتقد أن المشكل لا يكمن فيما إن كان ذلك الرقم مبالغا فيه، ولا فيما إن كانت خلاصات ذلك التقرير تشوبها بعض النواقص، نتيجة الانخراط مثلا في دراسة اكتئاب المغاربة دون حصر حقله الدلالي وباعتماد عينة تمثيلية ومعايير تشخيصية صارمة، بعيدا عن تداخله كاعتلال مشترك مع اضطرابات نفسية أخرى كالضغط والقلق والهوس والوسواس والخوف والفصام؛ بل الإشكال يتجلى في عدم تضمين التقرير المقصود والآراء المقيِّمة له، بالحجج والقرائن العلمية الكفيلة بتقديم التبريرات المقنعة، لعوامل ومسببات الوصول إلى تلك النسبة التي تتجاوز بكثير أغلب النسب المعتمدة عالميا”.
ويفسر أحرشاو مساءلته للأرقام دون حسم، بكون مبررات وسندات تقرير وزارة الصحة غير متوفرة؛ وبالتالي “شخصيا، لا يمكنني أن أحكم على مصداقية أو عدم مصداقية مثل هذا التقرير، في غياب قراءتي التقييمية لمضامين النسخة الأصلية لدراسة وزارة الصحة، التي لم أتوفر عليها لحد الآن”.
وفي الحوار نفسه، يؤكد المتخصص أن أسباب إصابة المغاربة بالاكتئاب، ولو اختلفت في درجتها، فهي “على العموم تماثل، من حيث نوعيتها، أغلب الأسباب التي تقف وراء الإصابة بهذا المرض بالنسبة لكافة ساكنة العالم”.
ويعرج السيكولوجي على معدلات الانتحار بالمغرب قائلا إنه “تماشيا مع ما تعلنه بعض وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، فإن معدلات الانتحار بعدد من المدن المغربية قد تزايدت في الآونة الأخيرة”، ثم يستدرك مشددا على أنه لا يمكنه أن ينساق مع المقدَّم من معطيات “في غياب دراسات علمية جادة بهذا الخصوص”.
و”رغم الاعتقاد الشائع بأن الأمراض النفسية والعقلية مثل الاكتئاب والفصام تشكل الاضطرابات الأكثر تسببا في حالات الانتحار في المغرب وفي العالم عامة”، فإن الغالي أحرشاو يسجل ضرورة عدم اعتماد “خطاب التعميم”، ثم يسترسل شارحا: “في كثير من الحالات، يكون الانتحار نتيجة مشاكل اجتماعية أو اقتصادية أو عائلية؛ في مقدمتها الفقر والجهل، البطالة والعوز، السرقة والجريمة، الخيانة والفساد، التعصب والتطرف، السجن والقصاص، وغيرها من المشاكل والأعطاب التي تزخر بها حياة كثير من المجتمعات والأسر والأفراد عبر العالم، بما في ذلك المجتمع المغربي”.
كما يذكّر المتحدث، في حواره، بأن الاكتئاب “يبقى مثله مثل عديد من الأمراض العضوية والنفسية قابلا للشفاء، حيث يمكن للشخص المكتئب من خلال التشخيص والعلاج المناسبين أن يسترجع عافيته النفسية ويمارس حياته الطبيعية في أوقات معقولة تتراوح بين بضعة أسابيع وبضعة أشهر”. واستحضر في هذا السياق تقارير منظمات دولية تثبت أن ما بين 80 و90 في المائة من المرضى بالاكتئاب الذين يطرقون أبواب المراكز والمصحات والعيادات الطبية والاستشفائية للكشف المبكر والتشخيص الدقيق عادة ما يمتثلون للعلاج والشفاء.
وحول “طبيعة شعور ودور المسؤولين وأصحاب القرار في المغرب تجاه حالات الاكتئاب”، يؤكد السيكولوجي أن هذا المرض “لا يزال بعيدا عن اهتماماتهم وأولوياتهم، بحسب ميزانية وزارة الصحة المخصصة للتعامل مع الأمراض النفسية والعقلية عامة، وبحسب مراسيم القوانين ونوعية المشاريع المتعلقة بهذا القطاع”.
ويضيف أحرشاو: “على الرغم من وجود بعض المراكز الاستشفائية والعيادات الطبية العامة والخاصة التي يمارس فيها عدد من الأطباء والأخصائيين طرقا وأساليب معروفة وفعالة لعلاج الاكتئاب، فالراجح أن النسبة القليلة من عدد المصابين بهذا الاضطراب هم الذين يستفيدون منه”.
وترجع أسباب قلة النسبة، وفق الأخصائي نفسه، لاعتبارات في مقدمتها: “محدودية بنيات الاستشفاء والموارد المادية والبشرية، وغياب الخطط التقديرية والاستشرافية للتوعية والتدخل والتشخيص والعلاج، واستمرار الحضور القوي لوصمة العار الاجتماعي المصاحبة لكل إصابة بالمرض النفسي عامة، إضافة إلى التشخيص المتسرع وغير الصحيح أحيانا للحالات الفعلية للاكتئاب”.