في غمرة الخلاف المحتدم بين أرباب مؤسسات التعليم الخصوصية وآلاف أمهات وآباء التلاميذ، حول طريقة معالجة مسألة أداء واجبات التمدرس خلال فترة الحجر الصحي، التي عُلقت فيها الدروس الحضورية وعُوّضت بالتعليم عن بعد، بدأت تبرز دعوات لفصل التلاميذ من القطاع الخصوصي وإلحاقهم بالتعليم العمومي.

في مجموعات التواصل الفوري التي أحدثها آباء وأمهات التلاميذ المتمدرسين في مدارس التعليم الخصوصية، يسود نقاش وصفتْه إحدى الأمهات من مدينة الدار البيضاء بـ”الجدّي”، حول تحويل أبنائهم إلى التعليم العمومي، وقالت إنها وآباء وأمهاتٍ آخرين تواصلوا مع مديرة مدرسة عمومية، ورحّبت بالفكرة ودعمتْها.

ويرى عدد من آباء وأمهات التلاميذ المتمدرسين في القطاع الخاص أن بإمكانهم أن يساهموا في تجويد المدرسة العمومية، بتخصيص جزء بسيط من المبالغ التي كانوا يدفعونها إلى مدارس التعليم الخصوصية من أجل توفير بعض “الكماليات” التي تفتقر إليها المدارس العمومية في الوقت الراهن، مثل النقل المدرسي والأنشطة الترفيهية…

النقاش الدائر حول هذا الموضوع أعاد إلى الواجهة دور المدرسة العمومية، التي تراجع مستواها كثيرا، باعتراف مسؤولي الدولة أنفسهم، إذ ارتفعت الأصوات المطالبة بإعادة الاعتبار إليها، على غرار باقي القطاعات الاجتماعية الأساسية، مثل الصحة، بعدما تبين أن القطاع العمومي “هو المعوّل عليه في الأزمات”.

وتصبّ أغلب التفسيرات لإقبال نسبة مهمة من المغاربة على تدريس أبنائهم في القطاع الخاص في “جودته”، مقابل ضعف التعليم العمومي؛ غير أن هذا الرأي يراه ربيع الكرعي، أستاذ عضو الهيئة الديمقراطية المغربية لحقوق الإنسان، غير صحيح، ويؤكد أن هناك أسبابا أخرى يتم إغفالها.

ويرى الكرعي أن الأساتذة الذين يدرّسون في التعليم العمومي لهم كفاءات أعلى من كفاءات نظرائهم الذين يدرّسون في القطاع الخاص، لكونهم يخضعون لتكوينٍ متين قبل أن يتم توظيفهم كأساتذة، وبعد التوظيف يخضعون للمراقبة من طرف وزارة التربية الوطنية، ولدورات تكوينية.

“الأساتذة في التعليم الخصوصي لهم كفاءات لا نستهين بها، ولكن لا يمكن مقارنة كفاءتهم بكفاءة أساتذة التعليم العمومي، الذين يتم انتقاؤهم بناء على تميزهم في مشوارهم الدراسي، وأدناه مستوى الإجازة، ومنهم من هو حاصل على شهادات أعلى كالماستر والدكتوراه، ويجتازون مباراة كتابية ومقابلة شفوية، ثم يخضعون لتكوين في المسار البيداغوجي والديداكتيكي، ويستفيدون من دورات تكوينية”، يقول الكرعي.

ويعزو المتحدث ذاته، في تصريح لهسبريس، سبب تفضيل بعض الآباء والأمهات تسجيلَ أبنائهم في مدارس التعليم الخصوصية، إلى بحثهم عن فضاءات آمنة لهم، خاصة في الأحياء الشعبية، حيث تعاني المؤسسات التعليمية العمومية من قلة الأمن في محيطها، وحتى داخل أسوارها، ما يجعل الأسَر لا تطمئنّ على أبنائها.

وتابع المتحدث ذاته: “التعليم العمومي يستجيب لمتطلبات الأسر في ما يتعلق بالعرض التربوي الموجه إلى التلاميذ، لكن بعض الأسر تخاف على أبنائها جراء قلة الأمن في محيط المدارس العمومية، ولو توفر الأمن في هذه المؤسسات لما لجؤوا إلى المدارس الخاصة، ولكانت هناك هجرة جماعية نحو المدرسة العمومية”.

النقاش حول انتقال التلاميذ من الدراسة في القطاع الخاص إلى القطاع العمومي، الذي ازدادت حدة بروزه خلال الأيام الأخيرة، سبق أن طرحه وزير التربية الوطنية سعيد أمزازي، حين ذكر في معرض إجابته في عن أسئلة البرلمانيين في مجلس النواب شهر أكتوبر الماضي أن عشرات الآلاف من التلاميذ انتقلوا من التعليم الخصوصي إلى التعليم العمومي.

وحسب المعطيات التي قدمها الوزير أمزازي فإن الموسم الدراسي الحالي شهد انتقال 52 ألف تلميذة وتلميذ كانوا يدرسون في المدارس الخاصة إلى التعليم العمومي، مرجعا سبب هذا التحول إلى أن “المدرسة العمومية اليوم تتوفر على عناصر جاذبية، ساهم فيها القانون الإطار للتعليم، الذي خلق تعبئة قوية من أجل إعادة الثقة إليها”.

وقال عادل الكرعي إن الظرفية الراهنة “أكدت أنه آن الأوان لإعادة الاعتبار إلى التعليم العمومي، لأن “أصاحب الشكارة”، المستثمرين في التعليم الخاص، برهنوا عن أن هدفهم الأكبر هو الربح المادي، وليس أداء رسالة تربوية وتعليمية بغية تربية جيل قادر على تحدي الصعاب والسير بالبلاد إلى مسار البلدان المتقدمة وبناء جيل له ركائز تعليمية متينة”.

وفي وقت توجّه انتقادات إلى المستوى الذي آلت إليه المدرسة العمومية، قال الكرعي إنه “لا يمكن القول إن التعليم العمومي فشل، فالمدرسة العمومية هي التي أنجبت الأطباء والوزراء ورجال السلطة الذين نراهم اليوم على الساحة”، وزاد متسائلا: “فلماذا نتنكر لها اليوم ونقول إنها غير قادرة على إنجاب الطاقات”.

ويرى المتحدث ذاته أن الحلقة المفقودة في سلسلة علاقة الأسر المغربية مع المدرسة العمومية تتعلق بالثقة والأمان، قائلا: “لو وجد الآباء الثقة في هذه المدرسة، وكانت فضاءات آمنة للتلاميذ، وتشكلت جمعيات حقيقية للآباء والأمهات، تقوم بدور المراقب، فإن المدرسة العمومية ستفتح أبوابها للحوار والنقاش مع أولياء التلاميذ، وسيرتقي وضعها إلى الأفضل”.

رغبة بعض الآباء والأمهات في تحويل أبنائهم إلى التعليم العمومي يوازيها خوف من أن يلجأ أرباب المدارس الخصوصية إلى الحيلولة دون ذلك، باستعمال القانون. وقد تعزز هذا الخوف بعد تداوُل خبر منسوب إلى منبر إعلامي مفاده أن مديرا إقليميا لوزارة التربية الوطنية أكد أنه لن يأذن بتحويل أي تلميذ ما لم يحصل على شهادة موقعة من طرف إدارة المؤسسة الخاصة التي يدرس بها تسمح له بالانتقال بعد أداء ما بذمته من مستحقات مالية.

وفيما لم يتسنّ التأكد من صحة الخبر، قال فؤاد الزرهموتي، وهو محام عضو اتحاد آباء وأولياء تلاميذ مؤسسات التعليم الخاص بالمغرب، إن عملية انتقال التلاميذ من القطاع الخاص إلى القطاع العام لن تطرح أي إشكال من الناحية القانونية، معتبرا أن “أرباب المدارس الخاصة يلوحون بهذه الورقة للضغط على أسر التلاميذ”.

وأضاف المتحدث ذاته في تصريح لهسبريس: “الآن كل وثائق التلاميذ أصبحت مرقمنة، ويمكن سحبها بتقديم طلب إلى الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين التي تتبع لها المدرسة التي يدرس فيها التلميذ، بما في ذلك وثيقة الانتقال أو التسجيل”، مضيفا أنه “بالعكس من ذلك فإن القانون والدستور واتفاقيات حقوق الطفل التي صادق عليها المغرب تحمي حق التلميذ في التمدرس ومصلحته الفضلى”.

وأردف المتحدث ذاته بأن الأسَر التي توجد في خلاف مع أرباب المدارس الخاصة لا ترغب في الوصول إلى القضاء لحل الخلاف القائم، والمتعلق بأداء واجبات تمدرس الشهور التي توقفت فيها الدراسة حضوريا، وزاد موضحا: “إذا لجأ أرباب المدارس إلى القضاء سيخسرون، لذلك عليهم أن يعالجوا الأمر حبيا، لأن المسألة ذات بعد إنساني واجتماعي بالدرجة الأولى، قبل أن تكون مسألة قانونية”.

وفيما تنوي بعض الأسر نقل أبنائها إلى المدارس العمومية، فإن أغلب الآباء والأمهات يطالبون فقط إما بتخفيض واجبات تمدرس أبنائهم خلال الشهور الثلاثة الأخيرة بنسبة 50 في المائة، وإعفاء المعسرين منهم كلّيا. وذهب الزرهموتي إلى القول إن أرباب المدارس الخاصة سيسجلون موقفا إيجابيا جدا إذا استجابوا لهذا الطلب.

ويقول مسؤولو الهيئات الممثلة لأرباب التعليم الخصوصي إن الأسَر التي تطالب بإعفائها من أداء واجبات تمدرس أبنائها لم تتضرر كلها من جائحة كورونا، لكن الزرهموتي قال إن المتضررين من الجائحة ليسوا فقط من الأسر الضعيفة، بل حتى من الطبقة المتوسطة، مثل الأطباء والمحامين، الذين أغلقوا عياداتهم ومكاتبهم طيلة ثلاثة شهور.

وتابع المتحدث ذاته: “يجب أن يكون هناك حوار للوصول إلى حل استثنائي يراعي الظروف الحالية، فقد ظللنا صامتين لسنوات، رغم أن أرباب المدارس الخاصة كانوا يزيدون كل سنة في الرسوم المختلفة التي نؤديها، وكنّا نغض الطرف، ولكن لا يمكن أن نستمر في الصمت، لأن المتاجرة بالتعليم خطر”.

وختم المتحدث بالقول إن أرباب التعليم الخصوصي لا يمكنهم أن يدعوا أنهم لا يجنون أرباحا كثيرة من الاستثمار في هذا القطاع، “وإلا فكيف يمكن أن نفسر انتقال عدد المدارس الخاصة من 500 مدرسة فقط سنة 2000 إلى 5800 مدرسة حاليا، لو لم يكن الاستثمار في هذا القطاع مربحا”.

hespress.com