تزايدت، في الآونة الأخيرة، الرسائل والأبحاث العلمية في كليات الطب والصيدلة بربوع المغرب التي نوقشت بلغات غير تلك المعهودة، على الرغم من أن اللغة الرسمية والمعتادة في هذه الكليات هي اللغة الفرنسية.

وفي هذا السياق، احتضنت كلية الطب والصيدلة بالرباط، وهي مؤسسة مغربية عمومية للتعليم العالي أُنشِئت سنة 1962، منذ أيام، واحدة من هذه المناقشات العليمة.

علي حسن أبو سعدة طالب فلسطيني بالكلية سالفة الذكر، ناقش رسالته لنيل دكتوراه الدولة في الطب العام باللغة العربية، إنجازا وتقديما، وهمت “إشكالية لغة تدريس العلوم الطبية”.

وتقول الأطروحة إنه يتضح، من خلال قراءة نتائج الاستبيان الذي تم تنفيذه، بجلاء كبير حالة الميوعة الثقافية واللغوية التي تعيشها طبقة الأطباء وطلاب العلوم الطبية والصيدلانية في المملكة المغربية. وقد نتج هذا التميع عن حالة تخبط تسود منظومة التعليم المدرسي، التي ما زالت تتخبط عشوائيا في تحديد لغة التدريس للعلوم الطبيعية وعلوم الأرض، وتحتار كذلك في تحديد طرائق التدريس المناسبة التي من خلالها تستطيع النفاذ لعقول التلاميذ وأفهامهم.

ومن النظرة الفاحصة لنتائج الدراسة، يرى الطالب الشاب أن هناك رغبة جامحة تتملك طلاب العلوم الطبية والصيدلانية في تدريسهم مقررات كلياتهم باللغة العربية، وهذا نتيجة طبيعية وفطرية سليمة، حيث إن الطالب المغربي ينتمي إلى أفق أوسع هو الأفق العربي، ولغته الأم هي اللغة العربية.

وكما هو معروف، يؤكد أبو سعدة، فإن اللغة ترتبط بمفهوم اجتماعي جمعي في ممارستها واكتسابها؛ ففي أحضان المجتمع نشأت اللغة وولدت يوم أحس أفراده بالحاجة إلى التفاهم فيما بينهم. ومن هذا المنطلق، فإن تدريس العلوم الطبية باللغة العربية ضرورة لا مفر منها وواجب أساسي لا يقتصر أثره فقط على طبقة الأطباء والصيادلة؛ بل يمتد إلى باقي المجتمع، ويسهم كذلك في صناعة شخصية مغربية مستقلة ذات ملامح متميزة عن الآخرين.

وتؤكد الأطروحة أن تدريس العلوم الطبية والصيدلانية وغيرها من علوم الطبيعة باللغة العربية سيكون له أثر واضح وجلي على مستويات الطلاب المعرفية، إذ سيتمكن الطالب من فهم الدروس والمعلومات بشكل أفضل من دراسته لها باللغة الفرنسية.

الطالب الفلسطيني أبو علي حسن أبو سعدة، كشف من خلال أطروحته، أن هناك نسبة لا بأس بها من الأساتذة في كليات الطب والصيدلة يرفضون التدريس باللغة العربية، ويصرون على التدريس بالفرنسية، هذا الأمر ليس بالمعضلة الكبيرة، وعملية التعريب ليست عملية سهلة لأنها تغيير لإرث مضى عليه زمن طويل، ترسخ في خلال هذا الزمن العديد من القواعد والأدبيات التي يصعب إزالتها في فترة وجيزة من النظام التعليمي والثقافي المغربي؛ وذلك لعوامل عديدة ساهمت في تشكيلها وترسيمها، فعملية التعريب لكليات الطب والصيدلة تحتاج إلى فترة غير قليلة من الوقت، وتحتاج جهدا ليس بالبسيط، لأنها عملية إحلال ثقافي قبل كل شيء وإزالة رواسب نظام ثقافي دخيل. لذا، لا تثريب على المعارضين، فطبيعة الإنسان تميل إلى رفض التغيير، والخوف من الجديد المجهول.

وللقيام بعملية تعريب ناجحة لعلوم الطب والصيدلة، يرى الطالب الفلسطيني أن على القائمين عليها قبل البدء بها تعريب النظام المدرسي، وتقوية مكانة اللغة العربية فيه، والاهتمام بشكل أكبر بها كي يتم خلق جيل يتقن لغته الأم، ويمتلك ثقة بشخصيته الثقافية على اعتبار أن اللغة وعاء الثقافة، وحتى الثقافات الأخرى تذوب داخل الثقافة القوية عندما تتداخل معها ويكون أصحابها لديهم إيمان قوي بثقافتهم.

ووفق الأطروحة ذاتها أثبتت عملية التعريب نجاحا باهر في كل من سوريا والعراق، فهاتان الدولتان تدرس جميع العلوم فيهما باللغة العربية، ويتخرج منهما نوابغ في علوم الطب والصيدلة، يتألقون عند تواجدهم بأوروبا، وخاصة في ألمانيا والدول التي لجؤوا لها بعد الحرب، وهذا أكبر دليل على أن المشكلة ليست في لغة التعليم كما يدعي البعض، وليست في اللغة العربية؛ بل إن المشكلة تقبع في أذهان أناس فاقدين للبوصلة الثقافية، ويعيشون حالة تخبط بين لغتين.

وتبقى الحقيقة الماثلة أمام الجميع، حسب الأطروحة ذاتها، أنه لا بد من التعريب عاجلا أم آجلا؛ وذلك لوجود وشائج تربط الإنسان المغربي بلغته العربية أكثر من الفرنسية، وأبرزها أنها لغته الروحية والدينية، ولغة القرآن الكريم ولغة العبادة، وهي اللغة الجمعية للثقافة والتاريخ.

hespress.com