يرى المفكر المغربي نور الدين أفاية أن البشرية تشهد على مرحلة مفصلية في التاريخ، فترة نعاين فيها كيف تنفضح الشعارات والسياسات أمام كائن مجهري سري (فيروس كورونا المستجد)، وكيف تسقط القيم أمام الحق في الحياة، وكيف يعبر الاحتقار عن أبشع مظاهره أمام الموت، وكيف عبرت الدول الغنية عن «سقوط أخلاقي» مدوٍّ، حسب منظمة الصحة العالمية.
قد يكون ما عشناه ونعيشه، وفق مقال جديد لأفاية، “إيذانا بعالم مغاير قد يغوص في التوحش أكثر، كما قد تنهض صحوة جديدة للضمير؛ وهذا أمر مستبعد قياسا إلى ما يظهر أمامنا. وفي كل الأحوال للتاريخ مكره الخاص، وأن ضربات موجعة أصابت وستصيب الجميع، خصوصا على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية والأمنية”.
المزيد في مقال “التفكير فيما لا يمكن توقعه” للمفكر نور الدين أفاية:
يميز المؤرخون عادة بين ما هو حَدَثِي، عابر أو ممتد كثيرا أو قليلا في الزمن، وبين التاريخ البِنْيوي الذي تترتب عنه تغيرات كبرى في الوجود والسياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية والأمن. ويخلخل الحدث البنيوي، كُلا أو جزءا، وضعا قائما ويفرز عناصر لا أحد يتوقعها، قد تكون لها انعكاسات في صالح الإنسان كما قد تكون وَبَالاً عليه.
ثمة إجماع عالمي على أن فيروس كورونا يشكل حدثًا غير مسبوق بهَوْلِه ومخاطره وتداعياته، حيث قام بزعزعة كلية للاعتيادي واليومي، وبتغيير للعلاقات بالذات، وبالزمن، وبالمكان، وبالآخر، وبالأوطان.
لقد بيَّنت هذه الجائحة، بشكل فجائعي، أننا كنا نعيش في عالم بدون بوصلة. لذلك كان من الصعب اقتراح عناصر تفكير في معمعة حدث مُزلزل لم يشبهه أي حدث في عصرنا على كل مستويات وزوايا الإدراك والنظر. ربما كان الخطر واردًا ومُنتظرًا، لكن ما لم يكن متوقعًا هو شراسة هذا الوباء وطرق انتشاره وتداعياته على العالم، وما نجم عنه من ارتباكات في السياسة، ومن إغلاق الأجواء والموانئ، ومن عزل وَحجر، ومنع للتجوال والحد من الحريات، وتوقيف الاقتصاد وحركة الإنتاج، ومن هلع وخوف من الموت.
كما لم يكن منتظرا منه أن يُحيَّر الأقوياء، ويزعزع القناعات، ويشكك في اليقينيات، سواء الفكرية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية وغيرها. أدى ذلك إلى اشتعال «أنانيات وطنية» ضيقة، وسقطت أقنعة كثيرة أمام امتحان العثور على الأقنعة الواقية من تفشي الفيروس، أو توزيع معقول للقاح، وارتج ما كان يعتبره البعض أمة تجمعها العقيدة، أو اتحادا، أو عولمة سعيدة.
إننا نشهد على مرحلة مفصلية في التاريخ، ونعاين كيف تنفضح الشعارات والسياسات أمام هذا الكائن السري، وكيف تسقط القيم أمام الحق في الحياة، وكيف يعبر الاحتقار عن أبشع مظاهره أمام الموت (اختيار من سيموت من المرضى، وتنظيم مراسيم دفن جماعية سرية، وكيف أصبح الإنسان ينفق مثل الحيوان، ويدفن بدون توديع ولا صلاة…)، وكيف عبرت الدول الغنية عن «سقوط أخلاقي» مدوٍّ، حسب منظمة الصحة العالمية.
قد يكون ما عشناه ونعيشه إيذانا بعالم مغاير، قد يغوص في التوحش أكثر، كما قد تنهض صحوة جديدة للضمير؛ وهذا أمر مستبعد قياسا إلى ما يظهر أمامنا. وفي كل الأحوال للتاريخ مكره الخاص، وأن ضربات موجعة أصابت وستصيب الجميع، خصوصا على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية والأمنية.
يبدو أننا مقبلون على أيام في منتهى الصعوبة سيحتاج فيها أصحاب القرار إلى خيال سياسي مغاير، وإلى عزيمة سياسية غير مألوفة تماما عمَّا اعتادوا عليه طيلة العقود الأخيرة؛ هذا إذا كانت لهم إرادة إحداث هذا المنعطف السياسي ووفروا له شروطه العامة؛ كما يفترض من أهل الفكر الاشتغال على جبهات تفكير مختلفة لاقتراح آليات مُبتكرة في النظر والاجتهاد لفهم ما جرى لتقوية قيم التضامن، وتعبئة فضائل العطاء والتقاسم للخروج التدريجي من التدهور الكبير الذي ستتعرض له بنيات الاقتصاد والسياسة والتجارة والثقافة والخدمات والمهن.
ولعل نزوعات التضامن الجماعي، في المغرب، التي تحركت في لحظة ما من لحظات الجائحة كانت أمرًا لافتًا لِما يمكن لقيم التضامن أن تصنعه؛ بل وقد تمخض عن هذا المد التضامني قرارا سياسيا فائق الأهمية يتمثل في تعميم التغطية الاجتماعية لكافة المغاربة. والظاهر أن السياسة في حاجة إلى استثمار أكبر لهذه الدينامية بتوفير أطر مؤسسية مُستدامة تجعل من هذه الجاهزية التضامنية قاعدة للمساهمة في الحد من الفوارق، والتخفيف من وطأة الحاجة التي تزداد تفاقما مع تزايد الإغلاق ونزيف فقدان الشغل، ومع معاناة الشباب في الحاضر وصعوبات توقعهم للمستقبل.
والظاهر أن هذه الجائحة جعلت الناس تشعر وكأنها تعيش انتقالا أنثروبولوجيا لم يشهدوه من قبل، كما وجدوا أنفسهم مشدودين إلى مواقف متنوعة من القلق والحيرة. وقد فرض هذا الانتقال الكبير أسئلة حارقة على الفكر والوجود والعلاقات الاجتماعية وأدوار الدولة الجديدة والمتوقعة، وعلى الرابط الاجتماعي ورهانات التكنولوجيات الرقمية على جميع الأصعدة، ومنها الحرية. كما سمحت هذه الجائحة بإعادة طرح أسئلة العقل العلمي، والحاجة الحيوية إلى استعادة الوعي العام بالقيمة العظيمة للطب وللصحة والأمن الإنساني.
كثيرة هي المعطيات الجديدة التي أنتجتها ولا تزال كورونا تنتجها، بحكم أنها أدخلت البشرية في منعطف تاريخي جديد تماما، كما أملت على العالم عودة قوية للدولة الحامية والراعية، وأحيانا المتشددة في فرض قوانين الطوارئ؛ وظهرت الدولة، حتى في أكثر البلدان ليبرالية وديمقراطية، أنها استرجعت أدوارها أو أصبحت هي «العقل» الذي يؤطر حركة الناس وسكناتهم؛ بل وهي المنقذ من انهيار الاقتصاد وحماية الصحة العامة ودعم الفئات في وضعية الهشاشة.
وسمحت هذه الجائحة بانفجار لا مثيل له في استخدام التكنولوجيات الرقمية، في الشغل والدراسة والتواصل الإنساني، والحفاظ على الروابط الاجتماعية في زمن الحجر الصحي؛ غير أن الاستعمال الواسع لهذه التكنولوجيات بهذه الكثافة، أطلق مناقشات حامية حول الحرية وقدرات الدول على مراقبة أفكار وتحركات المواطنين، واختراق معطياتهم الخاصة وكشف اختياراتهم وأذواقهم وعلاقاتهم، والتحكم في إرادتهم.
وإزاء ما جرى طيلة سنة 2020 وما يجري منذ بداية هذه السنة من مظاهر قلق ولايقين همَّ الوجود والحياة والموت بسبب تحوُّر الفيروس الذي يبدو أنه لا يتوقف عن التحوُّر، فإن هذه الجائحة أثبتت، مرة أخرى، قدرات العقل العلمي على اجتراح طرق خلاص غير متوقعة؛ حيث حقق نتائج مبهرة لإيجاد لقاح في زمن قياسي.
لا شك أن التقاء الإرادة السياسية، وسخاء تمويلات الدول الغنية، ودهاء أصحاب الصناعة الصيدلية، وفَّر للإبداع العلمي فرصًا استثنائية لرفع تحدي إيجاد لقاح بهذه السرعة المذهلة. غير أن هذه الكشوفات عرَّت، بشكل فضائحي، شعارات التعاون والتضامن التي تتبجح بها الدول الكبرى، والدول غير القوية ولكن المالكة للأموال، ومنها الدول العربية التي لا تكف عن التبجح بالتزام قيم الأخوة والرحمة والرأفة.
ما يقع في زمن كورونا جعل الفكر حائرًا وما يزال يشوش على عمله، وما حصل من اكتشافات برهن، مرة أخرى، على أن المعرفة العلمية لا تكفي إن لم ترتبط بدرجة ما من الالتزام الأخلاقي العملي. ومن هنا القيمة العظيمة لمنظمات الأمم المتحدة، ومنها منظمة الصحة العالمية؛ وبالرغم من كل الانتقادات التي توجه إليها، والنقائص التي تعاني منها فقد عبرت مجددا، وبشكل لافت، عن النزعة الإنسانية العميقة التي تأسست عليها المنظومة الأممية لحقوق الإنسان، بإدانتها الواضحة للسقوط الأخلاقي لقادة الدول الغنية، وبدعوتها إلى تعميم عمليات التلقيح على شعوب العالم المستضعفة باعتباره حقا وأمرًا واجبًا.