ما زال الساعاتي إدريس العمراني يواظب على ممارسة مهنته بحي الأطلس بقلب المدينة الجديدة لفاس كما كان يفعل قبل حوالي نصف قرن من الآن، غير مبال بالتكنولوجيات الجديدة التي أصبحت تحاصر استعمال الساعات اليدوية، وعلى رأسها الهاتف المحمول الذي يلازم كل الأفراد ويوفر خدمة معرفة التوقيت.
عند المرور بزنقة تطوان بحي الأطلس بفاس، لا يمكن للعابر أن يتجاهل ورشة إدريس العلمي لإصلاح الساعات؛ إذ تشده إليها واجهتها الزجاجية التي تؤثثها نماذج لساعات قديمة بمختلف الأشكال والماركات، يدوية وجيبية، فضلا عن ساعات حائطية قديمة تزينها الإطارات النحاسية والخشبية المنقوشة، تجعلها أقرب إلى التحف والقطع الأثرية.
داخل هذه الورشة، التي ضاقت أركانها بعشرات الساعات لماركات عالمية، أوتوماتيكية وكوارتزية، يعكف إدريس العلمي، الذي يوجد في عقده السابع، دون كلل، على إصلاح ساعات زبوناته وزبائنه من مختلف الأعمار، واستلام أخرى منهم برحابة صدر، مفصحا لهم عن العطل الذي أصابها، وضاربا لهم موعد العودة لاستلامها.
تعلم إدريس العلمي تصليح الساعات في سن مبكرة، قبل أن ينتقل إلى مدينة مكناس للعمل في ورشة لتركيب الساعات، غير أنه اختار في ريعان شبابه العودة إلى مدينة فاس ليشتغل في محله الخاص بالمكان الذي يوجد فيه حاليا بحي الأطلس، وكان ذلك قبل حوالي 45 سنة من الآن.
لا يتفق الساعاتي إدريس العلمي مع القائلين إن ساعات اليد لم تعد تلقى الإقبال الذي كانت عليه في الماضي، مبرزا، في حديثه لهسبريس، أن شباب اليوم أكثر تمسكا وإصرارا على ارتداء الساعات؛ لكون أناقة النساء والرجال على حد سواء، وفق رأيه، لا تكتمل إلا بوضع ساعة أنيقة في معصم اليد.
يقول هذا الساعاتي إن الهاتف المحمول لا يمكن أن يعوض ساعة اليد؛ لأن الساعة تمنح الشخص قيمة في محيطه وتضمن تكامل إطلالته الخارجية، خصوصا إذا كانت ذات جودة عالية ومتناسقة مع هندامه، مبرزا أن أسعار الساعات ذات الجودة العالية تبدأ من 500 درهم فما فوق، “وليس بالضرورة أن يشتري الشخص ساعة بالملايين حتى تكتمل أناقته”.
ويؤكد صاحب أقدم محل لإصلاح الساعات بالمدينة الجديدة لفاس أن الهاتف المحمول تمكن فعلا من القضاء على الساعات المنبهة، لكنه في المقابل لم يؤثر على رواج ساعات اليد التي قال إنها أصبحت تعرف تصميمات مبتكرة بفضل التطور التكنولوجي الذي ساهم في إعادة انتعاش سوقها عبر العالم، حيث ظهرت ساعات الكوارتز، الرقمية أو ذات العقارب.
الساعاتي إدريس كشف لهسبريس أن معظم زبائنه من النساء، اللواتي قال إنهن يقبلن أكثر على ارتداء الساعات اليدوية لكونها تعد بالنسبة إليهن من الاكسسوارات التي يتشبثن بالظهور بها خلال خروجهن أو في المناسبات وأماكن عملهن، موضحا أن الساعات النسائية عرفت تطورا من حيث الشكل والتصميم، حيث أصبح حجم مينائها أكبر مثل ساعات الرجال.
“عدد من زبائني مدمنون على اقتناء وارتداء الساعات، ويوجد من بينهم من يملك تشكيلة منها لماركات عالمية مصنوعة من معادن نفيسة”، يقول الساعاتي إدريس العلمي، مبرزا أن أحد زبائنه يملك حوالي 30 ساعة، مختلفة الألوان والأحجام والماركات، منها ذات الأساور المعدنية وأخرى مصنوعة من الجلد.
ويضيف الرجل، الذي قال أورد أن أغلى ساعة قام بإصلاحها يبلغ سعرها 30 مليون سنتيم، أن مدينة فاس كانت تعج بعشرات محلات إصلاح الساعات، لكن أصحابها ما أن تقاعدوا من عملهم أو توفوا حتى بيعت محلاتهم وتحولت لمزاولة أنشطة أخرى، مرجعا ذلك إلى “عدم اهتمام شباب اليوم بهذه الحرفة التي تحتاج إلى الصبر والخبرة”.
“مصلح الساعات يتعامل مع قطع معقدة وغاية في الدقة، ويجب عليه أن يتحلى بالكثير من التركيز عند صيانتها وإعادتها إلى مكانها”، يوضح المتحدث لهسبريس، مبرزا أن “شباب اليوم لا يريد تعلم هذه المهنة، ما حولها إلى حرفة عشوائية يزاولها بائعو النظارات ومواد التجميل”.
ونبه الساعاتي الفاسي إلى أن انتشار الساعات المقلدة وبخسة الثمن من الصنع الصيني، التي تروجها مثل هذه المحلات العشوائية، هو ما يساهم في محاصرة المهنة، ناصحا بتجنب ارتداء الساعات المقلدة؛ “لكونها تتعطل سريعا، وقد تسبب حساسية جلدية لأصحابها، نظرا لصناعة أجزائها من مواد مشكوك في أصلها”.
“ساعات الجيب لم تعد تلقى رواجا، وأصبحت تستعمل للديكور داخل المنازل”، يقول إدريس العلمي، مشيرا إلى أن “الناس عادوا في مقابل ذلك إلى الاهتمام بالساعات الحائطية لتوظيفها في الزينة داخل بيوتهم، وأصبحوا يعمدون لإصلاح القديمة منها نظرا لشكلها الأنيق والمتميز”، مطالبا بدعم المسؤولين لحرفة الساعاتي، وذلك بإدراجها ضمن قطاع الصناعة التقليدية للحفاظ عليها من الاندثار.