الخميس 24 شتنبر 2020 – 02:00
يتحدث المرتضى إعمراشا، المعتقل السابق على خلفية “حراك الريف”، عن تجربته الشخصية مع وباء “كورونا” في المؤسسة السجنية “طنجة 2″، حيث أشاد بمخطط المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج لاحتواء المرض؛ وهو ما عبر عنه بالقول: “يمكن أن نعتبرها نموذجا فريدا داخل النسيج المؤسساتي المغربي في التحكم في الوباء، وحماية أطرها وموظفيها ونزلاء المؤسسات السجنية من انتشار العدوى بينهم”.
وأضاف إعمراشا، من خلال مقالة له خصّ بها هسبريس، تحت عنوان “كورونا وراء القضبان!”: “كما كنت دائما منتقدا للتجاوزات التي تطالنا كمعتقلين في السجون، أجد من واجبي الأخلاقي أن أتحدث عن هذا الجانب المشرق من عمل المندوبية العامة لإدارة السجون، حيث أرى بعد مغادرتي للسجن تخبط بعض المؤسسات العامة والخاصة في تعاملها مع الوباء، داعيا إلى استلهام تجربة المندوبية وتطويرها”.
وإليكم المقالة:
نزلت جائحة كورونا بثقلها على دول العالم لتمتحن قدرات الأنظمة والشعوب في مقاومتها لعواملها الآنية والمستقبلية؛ كما عرت هشاشة بعض النظم الداخلية التي لم تستطع احتواء آثار الوباء، بحيث تحاول بعض المؤسسات، اليوم، رفع تحدي المرحلة، بالانكباب على وضع إستراتيجيات لتنزيل الإجراءات اللازمة لحماية الصالح العام.
وإذ أثبتت هذه المرحلة ضعف الإمكانات والوسائل التي تتوفر عليها بعض جهات ومؤسسات الدولة المغربية، إلا أن هذا لم يكن ذريعة لدى مؤسسات أخرى اشتغلت في صمت دون لفت الانتباه إلى مجهوداتها في التصدي للجائحة داخل المرافق التابعة لها؛ وأخص بالذكر هنا المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج، التي يمكن أن نعتبرها نموذجا فريدا داخل النسيج المؤسساتي المغربي في التحكم في الوباء وحماية أطرها وموظفيها ونزلاء المؤسسات السجنية من انتشار العدوى بينهم، خاصة أن واجباتها المهنية تضع مسؤوليات ثقيلة عليها لإبعاد أي خطر عن السجين بكل ربوع الوطن.
وأود هنا استعراض بعض أهم ما قامت المندوبية به حتى الآن، سواء ما شاهدتُّه كمعتقل سابق، أو ما أتابعه من أوضاع المؤسسات السجنية بعد مغادرتي أسوار السجن؛ فقبل تسجيل أول حالة إصابة بكورونا يوم 2 مارس 2020، عمدت المندوبية إلى إعلان حالة اليقظة القصوى واستنفار طاقاتها، مُعبئة كوادرها لرصد وتتبع الوضع الوبائي بالمغرب، وسد كل المنافذ التي يمكن أن يتسرب منها الوباء إلى داخل السجون بالتنسيق مع وزارة الصحة، وذلك تنفيذا للتعليمات السامية لجلالة الملك، الذي لم يتأخر بدوره في إصدار عفوه السامي عن مجموعة من النزلاء الذين كانوا في وضعية خاصة، باعتبار المؤسسات السجنية فضاءات مغلقة، خاصة ما تعانيه فئات من السجناء بسبب الاكتظاظ. وكإجراء استباقي تم الإفراج عن آلاف المعتقلين بالتنسيق بين مندوبية السجون ووزارة العدل.
لقد تميزت خطة المندوبية العامة لإدارة السجون في مواجهة الوباء بالتدرج في تنزيل واعتماد تدابير وإجراءات احترازية، مكنت من وضع خارطة طريق واضحة بتوقع كل السيناريوهات الممكنة؛ وبناء على ذلك تم منع حرية التنقل من وإلى داخل السجن، حتى بالنسبة للموظفين الذين استجابوا لتعليمات السيد المندوب بالبقاء داخل المؤسسات طوال 15 يوما، وإخضاع الفوج الجديد لفحوصات طبية تحت إشراف وزارة الصحة. وكنت شاهدا على ما عايشه الموظفون الذين كانوا أقرب إلينا نفسيا في هذه المرحلة.
ولا أنسى أحد الموظفين الذي كان يتوق إلى عطلته السنوية للسفر لرؤية طفله الذي وُلد حديثا، لكن المنع الذي فرضته المندوبية حال بينه وبين ذلك. كما استمعت بطريقة غير متعمدة إلى أحد الموظفين وهو يعد ابنته بأنه سيفي بوعده بأخذها في رحلة قريبا، لكن فاجأه إجراء إضافي بتمديد فترة الإقامة الجبرية داخل السجن لمدة شهر.. وكان ذلك بداية رمضان، حين رصد حالات وافدة بالسجن المحلي طنجة 1، وقلت له متعاطفا: “كان يجب أن يكون الموظفون العزاب مكانك هنا، فأبناؤك بحاجة إليك”، لكن رغم أنه كَتم دمعة أب صادقة أعرفها جيدا، أبان عن تفهم وإحساس صادق بالواجب المهني تجاه مؤسسته.
لقد استفدنا في بداية مارس داخل السجن من وصلات تحسيسية حول التعامل مع الجائحة، وأصدرت المندوبية عدة مذكرات ودوريات بما يتلائم وطبيعة كل مرحلة، كما كان من أهم الإجراءات التي فرضتها الجائحة بالتنسيق مع السلطات القضائية والنيابات العامة التقليص من عدد التنقلات من وإلى المحاكم، وكذا تغيير التدابير المتخذة مع السجناء الأحداث، والمواكبة النفسية للسجناء، إذ استفدت شخصيا من عدة جلسات مع طبيب مختص بعدما عانيت نفسيا، بعدما تناهى إلى علمي وضع والدتي العالقة خارج ربوع الوطن بسبب غلق الحدود، وكذا إصابة أحد أشقائي المتواجدين معها بالوباء، ما جعلني أعيش وضعا نفسيا صعبا، استطعت تجاوزه بفعل المواكبة النفسية داخل السجن المحلي بطنجة 2.
لقد شكلت المندوبية فرق دعم جهوية للتدخل عند أي طارئ؛ وذلك بالتنسيق مع مصالح المراكز المعنية. وعمدت المؤسسات السجنية إلى توفير مخزون هام من المنظفات والمعقمات وتوزيع أدوات النظافة والكمامات على السجناء بشكل دائم.. كما يتم تعقيم كافة مرافق السجن بشكل دوري، مع حرص الموظفين على التباعد الجسدي بيننا، واحترام مسافة الأمان. كما لم يُسمح لنا بالحديث مع النزلاء الجدد إلا بعد إنهائهم فترة الحجر التي تمتد 15 يوما.
وكانت أصعب الإجراءات التي فرضتها الجائحة علينا هي منعنا من الزيارة العائلية ومقابلة هيئة الدفاع في أفق إيجاد حل أكثر أمانا للجميع. كما منعنا من الأنشطة الرياضية الجماعية، لكن تمت تعبئة السجناء للمساهمة في الجهود الوطنية المبذولة لمكافحة الوباء، عبر توفير آليات وأدوات صنع الكمامات، ما جعل بعض المؤسسات تحقق اكتفاءً ذاتيا منها.
لا شك أن بعض الإجراءات شهدت خللا واضحا بسبب ضعف الإمكانيات، مثل تجربة التقاضي عن بعد وغيرها. وكما كنت دائما منتقدا للتجاوزات التي تطالنا كمعتقلين في السجون، أجد من واجبي الأخلاقي أن أتحدث عن هذا الجانب المشرق من عمل المندوبية العامة لإدارة السجون، إذ أرى بعد مغادرتي السجن تخبط بعض المؤسسات العامة والخاصة في تعاملها مع الوباء، داعيا إلى استلهام تجربة المندوبية وتطويرها، لأنها أضحت نموذجا فريدا نتمنى له الصمود والنجاح لأجل حماية هذه الفئة من المواطنين المغاربة التي هي في أمس الحاجة إلى مزيد من الدعم والمساندة في هذه الفترة العصيبة التي انشغل فيها الجميع عنها.
وإنني متأكد من خروجنا منتصرين في هذه المعركة بمكاسب كبيرة بعد أن أصبح السجين والموظف أقرب إلى بعضهما أكثر من أي وقت مضى، ما ولد مشاعر إنسانية جميلة ستعزز وتسهل مهام المندوبية في إعادة إدماج السجناء. وأدعو في الختام إلى قراءة التقرير الذي أصدرته المندوبية حول خطتها العامة إلى متم غشت في مواجهتها لوباء كورونا، وهو التقرير الثري بالمعلومات والأرقام المهمة.. رفع الله عنا البلاء وعن جميع العالمين وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه.