يرى النقيب عبد الرحيم الجامعي أنه ليس من باب النضج السياسي والقانوني أن يتعامل مسؤول مع موضوع النظام الجنائي الذي يشترك فيه المجتمع مع الدولة، بمعيار المنفعة والربح، وبمنطق الفوز على الخصم بأي ثمن حتى وإن كان الثمن يرهن مصالح الوطن ومستقبل المجتمع.
وأعرب الجامعي، في مقال توصلت به هسبريس، عن استغرابه من خروج وزير حقوق الإنسان دون موعد ولا مقدمات، وقيامه بنشر مذكرة يوم 27 أبريل، سبق أن قدمها وهو وزير للعدل قبل خمس سنوات في سنة 2016، وحَيّنَها الوزير محمد أوجار، “وقال إنها تقديم لمشروع رقم 10.16 القاضي بتعديل بعض مواد القانون الجنائي، ويدعو ويحرض البرلمان من الموقع الإلكتروني لحزب العدالة والتنمية وموقع المندوبية الوزارية لحقوق الإنسان، على التصويت عليه في هذه الدورة وقبل نهايتها”.
ويتساءل الجامعي في المقال نفسه: ما الدافع السياسي والانتخابي والحزبي لوزير حقوق الإنسان في أن يُغامر مغامرة خاسرة ويتجاوز النقاشات الطويلة والمتعددة التي أبانت عن ضعف المسودة كلها آنذاك، ويمْحو الإسهامات التي كشفت ثغرات المشروع وسلبياته؟
كما يطرح الكاتب أسئلة أخرى وتفاصيل مختلفة حول الموضوع في مقاله الجديد.
وهذا نص المقال:
التشريع الجنائي في جانبه المسطري الإجرائي وجانبه القضائي الموضوعي، يُعد أحد المواضيع السياسية والفقهية والحقوقية الصعبة بالمغرب وبغيره من دول العالم، نظرا لطبيعة المادة كأداة قوة وردع بيد الدولة ووقع كبير على الأفراد والمجتمع، وهي بطبيعتها كمنظومة تفرض المراجعات والإصلاحات المتوالية بتوالي الأحداث والمستجدات وتشعب العلاقات، زادتها العَوْلمة والتقدم التكنولوجي والعلمي تعقيدا، واتسعت الحاجيات الإنسانية والمجتمعية إلى قراءات جديدة للتشريع الجنائي بحلول جائحة COVID-19 ، وظهور مستويات متطورة للجريمة في صور متعددة أبانت عن العجز الذي توقفت أمامه الهيئات الأممية الدبلوماسية والسياسية والأمنية، بتنسيقياتها وبمؤتمراتها وبتعاونها وباستخباراتها.
والدول وسلطاتها بالعالم وبالمغرب- وهو ما يهمنا- وهي وجها لوجه أمام مخاوف ومخاطر الجريمة واكتساحها مجالات جديدة، بدءا من الجريمة البسيطة التي تجمع فردا بآخر إلى الجريمة المنظمة والجريمة السيبرانية، التي وصفتها رئيسة المكتب التنفيذي للأنتربول سابقاMireille Ballestrazzi بأنها أخطر جرائم القرن 21، أو الجرائم المالية والتكنولوجية وغيرها، ثم ظهور أنواع الجريمة المنظمة عبر الوطنية من عصابات الاتجار بالبشر أو تبييض الأموال أو ما يسميه الخبراء بـ La criminalité en col blanc ، وأخيرا العجز عن استيعاب فلسفة العقوبة، طبيعتها، أبعادها، مستقبلها، نجاعتها، وتداعياتها… الخ، من هنا ليس من باب النضج السياسي والقانوني أن يتعامل مسؤول مع موضوع النظام الجنائي، الذي يشترك فيه المجتمع مع الدولة، بمعيار المنفعة والربح، وبمنطق الفوز على الخصم بأي ثمن حتى وإن كان الثمن يرهن مصالح الوطن ومستقبل المجتمع.
وفي خضم واقع يصعب معه السماح بالارتجال السياسي والتشريعي، واللعب بموضوع حساس وخطير مثل موضوع المنظومة الجنائية، وفي غياب الوعي بضرورة وأهمية خلق التعبئة الجماعية حول مشروع كبير شامل يرقى فوق السباق الحزبي والسياسوي، يخرج وزير حقوق الإنسان دون موعد ولا مقدمات، ويقوم بنشر مذكرة يوم 27 أبريل، سبق أن قدمها وهو وزير للعدل قبل خمس سنوات في سنة 2016، وحَيّنَها الوزير محمد أوجار، وقال إنها تقديم لمشروع رقم 10.16، القاضي بتعديل بعض مواد القانون الجنائي، ويدعو ويحرض البرلمان، من الموقع الإلكتروني لحزب العدالة والتنمية وموقع المندوبية الوزارية لحقوق الإنسان، على التصويت عليه في هذه الدورة وقبل نهايتها، ضدا على إرادة المهنيين القانونيين، وربما ضدا على إرادة وزير العدل الممارس، الذي صرح عبر التلفزيون بأنه مع مشروع متكامل للقانون الجنائي والمسطرة الجنائية ردا على الاختلافات التي طفت وسط لجنة العدل والتشريع في السنة الماضية منذ أن أحيل المشروع رقم 10.16 على لجنة التشريع (وللتذكير فالمشروع يتضمن تغيير وتتميم 17 مادة – تتميم 34 مادة – نسخ وتعويض 28 مادة – نسخ 3 فصول: 527، 532، 533، والمادة 52 من قانون دخول الأجانب وإقامتهم بالمغرب).
ولذلك يطرح السؤال: ما الدافع السياسي والانتخابي والحزبي لوزير حقوق الإنسان في أن يُغامر مغامرة خاسرة ويتجاوز النقاشات الطويلة والمتعددة التي أبانت عن ضعف المسودة كلها آنذاك، ويمْحو الإسهامات التي كشفت ثغرات المشروع وسلبياته، وقدمت بالمقابل مقترحات عميقة ربما لم يرتح لها الوزير أيديولوجيا وحقوقيا، والتي بلورتها مؤسسات وطنية مثل المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ومنظمات مهنية وهيئات للمحامين وللقضاة، ومنظمات المجتمع المدني، نسائية وحقوقية وشبابية وغيرها، والتي شارك فيها أيضا جامعيون متخصصون ورجال الفكر والثقافة وفرق برلمانية بندوات نظمت داخل قبة البرلمان، ويتجاهل الرؤية المجتمعية لهذه الكفاءات، التي أكدت أنها ترفض تقزيم وترقيع الإصلاح وتقترح مراجعة شاملة تجمع النص المسطري بالنص العقابي الموضوعي، الذي يتكون من أكثر من 700 مادة حاليا، من دون أن يستحضر الوزير السياق الذي سبق أن طرحت فيه المسودة بعد الدستور الجديد، وبعد عمل الهيئة العليا لإصلاح العدالة.
ماذا يريد الوزير حقيقة وهو ينطلق بالسرعة القصوى نحو البرلمان ويدعو بأي ثمن نوابه ونائباته- وهم اليوم منكبون ومنكبات على معالجة ما هو مرتبط بإطلاق مسلسل الانتخابات التي لها أولوية قصوى على غيرها من الأمور بالنسبة إليهم- إلى مناقشة والتصويت على المشروع 10.16، وهو يعلم بأن أهميته وأبعاده تلزمه وتلزم الحكومة بالتعامل بالهدوء والتريث، وتوسيع النقاش والاستماع إلى الآراء من داخل وخارج قبة البرلمان؟؟
وما الدافع إلى أن يأتي وزير حقوق الإنسان، خارج دهاليز الحكومة ومجلسها، ويتطرق كعضو في الحكومة إلى موضوع كبير ودقيق يرجع الاختصاص للحديث فيه إلى وزير العدل الممارس، وهو السيد بنعبد القادر، ويأتي بخرجة إعلامية مقصودة المرمى، وهي زرع الرجة السياسية في أجواء لا تتناسب سياسيا وبرلمانيا لعرض ومناقشة المشروع المقتضب، ونهاية ولاية البرلمان والحكومة آتية بعد أسابيع معدودة وقليلة، ويعلم أن مناقشة نص استراتيجي ومهيكل له أبعاد خطيرة على المجتمع مثل مشروع تعديل في مستوى النظام الجنائي لن ينال أي انتباه حقيقي ولا حظا وافرا من نقاشات رفيعة المستوى، ولن يصوت عليه أكثر من عشرين أو ثلاثين عضوا على شاكلة عدد المصوتين على قانون المالية.
لوزير حقوق الإنسان من دون شك، وفي هذه الظروف، حسابات وراء نشر التقديم على موقع حزبه وموقع المندوبية الوزارية لحقوق الإنسان، ووراء الدعوة إلى مناقشته بالبرلمان، يمكن أن تكون من بينها رغبته في كسب نقطة سياسية على حساب صورة ومهمة وزير العدل الحالي المعين في أكتوبر 2019 ليقول له إنه لم يستطع القيام بأي مسعى لإخراج المشروع، وأنه عجز عن تحمل محفظة الوزارة.
لكن من جهة أخرى يريد أن يُحسَب له ولحزبه هذه الخطوة في الأيام أو الأسابيع الأخيرة من استوزاره، ليمرر المشروع أمام أغلبية يتقدمها حزبه بالبرلمان حتى ينتزع تعديلات تخدم ميوله السياسية ولو أنها لا تعكس مصلحة المغرب ومستقبل المجتمع، وليبقى مشروعه كما أراده ودافع عنه حاملا العديد من السلبيات، التي لا تستجيب للتطور في مجال العدالة الجنائية، ولا ينسجم ويتلاءم مع ما أتى به الدستور من خلال رغبة الوزير في الاحتفاظ بعقوبة الإعدام، بل إضافة أربع مواد جديدة معاقب على جرائمها بالإعدام، والإبقاء على كل ما يضعف المكانة القانونية للنساء ولمراكزهن داخل المنظومة الجنائية، سواء تعلق الأمر بالعنف أو العنف الزوجي، أو بقضية الإجهاض، أو بالعلاقات الرضائية…، بل يريد الوزير تمرير المشروع بحمولته الإيديولوجية المحافظة الإسلاموية المتعارضة مع الرأي الغالب في المجتمع، الذي لا يريد منظومة متخلفة لا تنتسب ولا تعترف بفلسفة وقيم حقوق الإنسان، التي تدافع عنها الحركة المدنية والحقوقية والمهنية المغربية، ويدافع عنها علماء السياسة الجنائية في العالم مثل الخبيرة الأستاذة بكوليج دو فرانس، والعضو في أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية التي تأسست منذ القرن الثامن عشر، السيدة MIREILLE DELMAS-MARTY، التي تعتبر نظرياتها اليوم الأرضية الصلبة التي يمكن على أساسها بناء عدالة جنائية حديثة بالعالم وبمغرب القرن الواحد والعشرين.
إن وزير حقوق الإنسان يدرك غالبا أن نص مشروع تعديل القانون الجنائي رقم 10.16 أصبح اليوم متجاوزا ويحتاج بدوره إلى إعادة النظر حتى لو كانت له فائدة هامشية، أمام المتغيرات الوطنية والإقليمية والدولية بسبب ما فرضته جائحة COVID -19، والعجز في بنيات الدولة والسلطة الذي أثر وغيــر العلاقات داخل المجتمع، كما غير علاقات الدولة نفسها مع المواطن، إذ أظهرت الجائحة الوبائية جائحات أخرى اقتصادية وقضائية وسياسية وصحية وغيرها…، وطفت داخل المجتمع جرائم جديدة أتت بعد فرض حالة الطوارئ والحصار قبل أكثر من سنة، وما أدت إليه من هفوات وانحرافات في مجال التعاطي مع السياسة الجنائية، والتعاطي مع مضمون وفلسفة الدعوى العمومية إجراما وعقابا، ومع مفهوم الحرية ومفهوم الاعتقال ومفهوم المحاكمة العادلة.
ودعوة وزير حقوق الإنسان اليوم أمام هذه المعضلات تتغافل عن عِلم معطيات استراتيجية أخرى لا بد من تقديرها، وفي مقدمتها تقارير السلطة القضائية في مجال القضاء والعدالة، وتقارير رئاسة النيابة العامة، وتقارير الرئيس المنتدب للسلطة القضائية، والتوجهات التي أفصَحت عنها الجلسات الرسمية لافتتاح السنوات القضائية إلى اليوم، وتقارير المؤسسات الدولية المتخصصة في ظاهرة الجريمة وفي ترتيب الدول في مجال مؤشرات الأمن والوقاية من الجريمة، وأخيرا تناسي الوزير، وهو يرافع من أجل تمرير مشروعه، الدروس التي تعنيها قرارات العفو الملكي عن المحكومين بالإعدام، وعن النساء ضحايا المتابعات التعسفية مثل قضية الصحافية هاجر الريسوني ومن معها، والتي لا بد من استيعابها في مجال معالجة قضايا مهمة كالإجهاض والعلاقات الرضائية وغيرهما.
إن خطوة ودعوة وزير حقوق الإنسان التي دعا إليها خطوة وراءها تحقيق مطامح شخصية له ولحزبه، نابعة من مناورة انتخابية استباقية ومبكرة لا علاقة لها بنية استكمال الإصلاحات ورفع وتيرتها، لأنه يدرك أنه لم يستطع تقديم مشروع المسطرة الجنائية ومسودة القانون الجنائي، اللذين طرحهما وهو وزير للعدل سنة 2016، ويعرف أنه عجز عن إقناع مكونات البرلمان حتى بتعديلاته الجزئية، بما في ذلك الأغلبية التي ينتمي إليها، ولم يستطع إثبات نيته في الإقدام على إصلاحات جدية وجريئة للمنظومة الجنائية مؤسسة على فلسفة حقوق الإنسان بمفهومها الكوني، وظل المشروعان معا نائمين بين يديه، حيث أقبر مشروع المسطرة الجنائية، وتقلص مشروع القانون الجنائي إلى حدود 82 مادة، واستمر الوضع معلقا بعد مجيء الوزير السيد أوجار سنة 2017 والوزير الحالي سنة 2019، فمن هنا يتضح أن فكرته ودعوته اليوم عرض المشروع 10.16، وهو يشكل نسبة العشر تقريبا من عدد مواد القانون الجنائي، والتصويت عليه قبل انتهاء الدورة الحالية وقبل الانتخابات، ليس وراءها سوى إرادة تسعى إلى استخدام مشروع تعديلي هزيل في الدعاية الانتخابية الضيقة، ومحاولة استخدام المواد المختزلة والمحتشمة وكأنها انتصار حزبي على كل الأحزاب والتيارات الأخرى المشاركة أو غير المشاركة في البرلمان.
لئن كانت بين وزير حقوق الانسان وبين وزير العدل الممارس حساسيات وصراعات، أو له رغبة في تسجيل فوز سياسي صريح عليه أو على حزبه، فمن المفروض ألا يفجر مثل هاته المواقف السياسية في وجه الوطن والمجتمع وضد مصالحهما، وهي أسمى من مصالح حزب أو حكومة، وألا يدفع نحو إفلاس المنظومة الجنائية، وانهيار العدالة والأمن القانوني للمواطن.
أعتقد أن البرلمانيين والبرلمانيات سيعرفون كيف يردون على نداء ومقترح وزير حقوق الإنسان، بشكل موضوعي وأخلاقي، إن أعيدت مناقشة المشروع أمام لجنة العدل والتشريع. إنهم سيطالبون الحكومة بتقديم مشروع نص قانوني كامل ومندمج مع مشروع المسطرة الجنائية، وسيضعون مصلحة الوطن والمجتمع فوق مصلحة الوزير، وسيعالجون تسرع وزير حقوق الإنسان وطموحه بالمسؤولية التي تطوقهم خارج دائرة منطق الحكومة ووزير حقوق الإنسان لأن البرلمان مؤسسة مستقلة تتعاون مع الحكومة نعم، لكنها لا تخدم مصالح أي وزير، ولا تنحني دائما لرغبات الحكومة ووزرائها.
إنهم كمنتخبين سيستمعون إلى ضمير المجتمع وتطلعاته، وإلى حبه للحرية وللإنصاف وللعدل، وهي حقوق ثابتة له في الدستور، وفي القانون الدولي لحقوق الإنسان، تعلو على حسابات الحكومة الظرفية، وعلى اختياراتها السياسية، وعلى النص المقترح تمريره في ساعة الصفر التشريعية. إنهم سيطالبون بمناقشة قانون المسطرة الجنائية لأنها جديرة بالأولوية ضمن ما سيتقرر فيها من توجهات في السياسة العقابية، أو سيحدد فيها من رفع مستوى حقوق الدفاع تعزيزا لقرينة البراءة، أو ما سيتم رسمه من حدود دقيقة لوقف انهيار الحرية بسبب الاعتقال الاحتياطي، الذي أصبح خطرا يهدد قيم الدستور قبل أن يهدد كرامة الإنسان، أو ما سيعزز شروط المحاكمة العادلة، ومنها تساوي الأسلحة بين النيابة العامة والدفاع، ومراجعة الطعون، ومراجعة العقوبات، وإقرار العقوبات البديلة، ونزع العقاب عن بعض الجرائم البسيطة، وإعادة النظر في صلاحيات قضاء التحقيق وعلاقته بالنيابة العامة.
وأرجع في النهاية إلى ما أكد عليه المفكر والمختص في علم الاجتماع الدكتور إدريس بنسعيد، في استجواب له مع صحيفة “الأيام” بالعدد 942، بأن “رقعة العمل السياسي الذي يدفع بالعديد من الأحزاب إلى التركيز والعمل لبقائها على قيد الحياة السياسية والاحتفاظ بموطئ قدم داخل المؤسسات… وتحصين الزعامات وتدبير الولاءات، يصعب عليها أن تكون حاضرة للتجاوب مع تطلعات المجتمع”.
هذا في اعتقادي ما سقط فيه وزير حقوق الإنسان، وما كان وراء دفاعه عن المشروع رقم 10.16، المتعلق بتعديل بعض مواد القانون الجنائي، وهو نص يسير محتواه، في اعتقادي، في اتجاه تطلعاته أكثر مما يسير في اتجاه تطلعات المجتمع.