فرضت جائحة فيروس كورونا المستجد سلوكيات جديدة على عادات الناس، سواء في المغرب أو على الصعيد العالمي؛ وذلك حماية للنفس وللآخرين من انتقال العدوى.

ومنذ بداية انتشار الوباء، عملت السلطات العمومية على فرض ومراقبة هذه السلوكيات قصد إنجاح عملية الحجر الصحي من خلال البقاء في البيوت وعدم الخروج إلا للضرورة القصوى.

وفي نظر عبد القادر كعيوا، الخبير بمركز السياسات من أجل الجنوب الجديد، فإن جائحة فيروس كورونا المستجد أعادت للواجهة إشكالية السكن الكثيف في المغرب ومدى ملاءمته، وضرورة إحداث مراجعات بعد تقييم سياسات تخطيط المدن وتهيئة المجال.

وأشار كعيوا، في مقال نشره المركز على موقعه تحت عنوان “السكن الاجتماعي ومتطلبات الحجر الصحي من أجل صمود مجالي مستدام”، إلى أن هذه الأزمة تسائل نموذج عيش الساكنة من خلال أشكال السكن المتاح وقدرته على التأقلم مع المستجدات.

ويعتقد الخبير المغربي أن الأزمة الحالية تسائل قدرة مدن المغرب على الاستدامة والمواجهة والصمود أمام كل الطوارئ.

ويؤكد المقال أن السياسات العمومية ساهمت في تحسين واقع السكن بالنسبة لعدد كبير من الأسر، لكن الظروف التي يجتازها المغرب اليوم مثل باقي دول العالم بفعل هذه الأزمة الصحية تفرض قراءة متأنية للمجهودات المبذولة في هذا المجال، واستخلاص الدروس في ما يتعلق بالنواقص والمتطلبات لمواجهة الطوارئ والأخطار.

ويرى كعيوا أن النموذج الجديد للعيش والتعايش الذي فرضته الجائحة طرح أسئلة كثيرة لها ارتباط وثيق بالوضع الجديد، من ضمنها قدرة فئات واسعة من السكان في بلدنا على تحمل متطلبات الحجر الصحي في غياب المستلزمات المطلوبة للاستجابة لذلك؛ ويأتي على رأسها السكن المناسب.

وحسب معطيات المقال فإن نسبة الأسر المغربية التي تقطن في سكن يصنف في خانة السكن الاجتماعي أو الاقتصادي تتجاوز 60 في المائة، وهو سكن يستقطب فئات واسعة من السكان في المدن وضواحيها، وحتى في القرى المجاورة لها، ذات الدخل المتوسط والمحدود.

وتساءل الباحث المغربي عما إذا كانت نماذج السكن الاجتماعي المتاح لغالبية الأسر تسمح باحترام الالتزام بالبقاء في البيوت وبقواعد النظافة والتباعد الاجتماعي دون معاناة.

ويعتقد عكيعوا أنه الوقت حان لإخضاع هذه التجربة لتقييم علمي، من أجل إبراز كل الاختلالات بعيداً عن أي ضغط، وذلك لتحديد الشروط الضرورية والممكنة للانتقال من أحياء وتجزئات للسكن فقط، متراصة بهوامش المدن، غير مستوفية للحد الأدنى من البنيات الحضرية، نحو فضاءات حقيقية للعيش.

ويرى كعيوا أن المغرب يحتاج إلى انطلاقة جديدة هدفها الأسمى وضع أسس الإدماج الفعلي للإنسان المغربي، والسكن هو منطلق هذا الإدماج، مؤكداً أنه رغم الإمكانات المالية والبشرية والتقنية المخصصة لها، لم تفلح برامج السكن في إحداث هذا الإدماج لأنها ظلت حبيسة المحاسبة الكمية ورهينة ندرة العقار، وذلك رغم توظيف 15 ألف هكتار من العقار العمومي في السكن الاجتماعي منذ 2003.

أربع قضايا

وأورد الخبير أربع قضايا كبرى تفرض نفسها عند مناقشة الواقع السكني ومقاربته في المغرب، أولها “نموذج السكن”، إذ قال إنه أصبح مُلحاً فتح نقاش منتج حول طبيعة السكن الملائم لخصوصيات والحاجيات المتجددة للأسرة المغربية كمنطلق لبلورة كل سياسة تهدف إلى إنتاج السكن في المستقبل.

أما القضية الثانية فهي “المسألة العقارية”، وفي نظره فقد حان الوقت لاعتماد سياسة وطنية تعتبر العقار ثروة وطنية إستراتيجية نادرة يجب تدبيرها بشكل معقلن ضماناً للنمو المستدام؛ في حين تثير القضية الثالثة “التخطيط الحضري ومسألة الإدماج الاجتماعي”، إذ يوضح الباحث أن التخطيط الحضري الناجح هو الذي يوفر أسباب الاندماج الاجتماعي والوظيفي في تطور المجالات.

وتتعلق القضية الرابعة بـ”الحكامة وإشكالية تدبير السياسات السكنية”، أي إن بناء إدارة ناجعة لإشكاليات السكن والإدماج الاجتماعي تقتضي الانطلاق من التقييم الموضوعي والمسؤول للاختيارات الموضوعة، والدراسة المتأنية لآثارها المجالية ونتائجها الاجتماعية والاقتصادية، والعمل على بلورة حلول وآليات مساعدة على التنفيذ.

نواقص تستدعي الحكامة

وإغناء للنقاش، يطرح كعيوا أربع نواقص تستدعي تجويد الحكامة في التدبير:

– توضيح المسؤوليات في ما يخص هذا الموضوع، الذي لا يرتبط فقط بالسكن ولكن بمنظومة الإسكان، حيث يتدخل عدد كبير من الفاعلين مركزياً ومحلياً، لأن تدبير قضايا السكن الاجتماعي على المستوى المحلي يتطلب التنسيق المحكم بين المتدخلين والسرعة في الحسم واتخاذ القرار.

– معالجة إشكالية الأسر المستفيدة من خلال إحصاء وطني معتمد على معايير مضبوطة ملزمة لجميع المتدخلين، يسمح بوضع سجل دقيق للأسر، لأن غياب الضبط في هذا المجال كانت له آثار سلبية على تنفيذ البرامج (تفاوت المقاربات واختلافها من مجال لآخر ومن إدارة إلى أخرى، ارتفاع مستمر في عدد المستفيدين، إنعاش ظاهرة الريع والمضاربة…).

– تحسين آليات تتبع ومراقبة مشاريع السكن ومرافق القرب، واستعمالها في الآجال المحددة وحسب التصاميم المرخصة.

– وضع آليات لتقييم الاختيارات المتبعة وإنتاج اقتراحات لتغييرها أو تجويدها وتحسينها انسجاماً مع المستجدات.

وفي خلاصة مقاله التحليلي، يقول كعيوا إن هذا الحجر الصحي يشكل فرصة حقيقية غنية بالدروس وفرصة للاهتمام بما هو أساسي في الحياة، ودعوة إلى الانطلاق في عمل منتج للقيم وللعيش الكريم بصدق وتفاؤل في المستقبل.

hespress.com