تفاعلا مع البلاغ الأخير الصادر عن الائتلاف المغربي لهيئات حقوق الإنسان، قال الناشط الحقوقي شكيب الخياري إن “البلاغ لم يختلف عن موجة البلاغات التي تصدر منذ مدة من طرف بعض الجمعيات والتنسيقيات الحقوقية المتصفة بكونها بلاغات حقوقية نسبة لمصدرها، أما بالاستناد إلى اللغة التي صيغت بها فلا يمكن الجزم بتاتا أن مصدرها حقوقي”.
وأضاف الخياري، في مقال له يضم مجموعة من الملاحظات بشأن وثيقة الائتلاف، أن البلاغات “الحقوقية” في الآونة الأخيرة، من بينها تلك التي تحظى برواج إعلامي مهم على المستوى الوطني والدولي، أضحت غارقة في اللبس حين تطرقها لبعض النصوص والمفاهيم القانونية والحقوقية، الذي يتم بشكل لا يخدم التعبير الحقوقي بالمغرب، حتى أضحت النيابة العامة و”مصادر أمنية” تتعقبها بالقلم الأحمر للتنبيه إليها.
واستعرض الناشط الحقوقي، ضمن المقال ذاته، بعض أهم ما تمت ملاحظته في بلاغ الائتلاف الحقوقي، “دون الالتفات إلى أخطاء الصياغة اللغوية الكثيرة التي تميز عادة المسودات، وذلك من وجهة نظر ممارس للنشاط الحقوقي ودارس للعلوم القانونية، دون أن يعني ذلك التبخيس من المجهودات التي يبذلها هذا الائتلاف والجمعيات المشكلة له في محاولة تغيير الواقع الحقوقي لبلدنا نحو الأفضل”.
وهذا نص المقال:
أصدر الائتلاف المغربي لهيئات حقوق الإنسان بلاغا تم تعميمه يوم الأحد 3 دجنبر الجاري بعنوان مكون من مجموعة من الشعارات هكذا: “كفى من الاعتقالات قبل التحقيقات والمحاكمات؛ هل سلطة النيابة العامة فوق سلطة الدستور وقضاء الحكم؛ أطلقوا سراح كل المعتقلين السياسيين ونشطاء حقوق الإنسان”، تمت من خلاله محاولة التطرق لوضعية حقوق الإنسان بالمغرب بمناسبة نهاية السنة، مع التركيز على بعض النقط التي يبدو أنها هي الهدف الرئيسي من وراء إصداره.
إن هذا البلاغ لم يختلف عن موجة البلاغات التي تصدر منذ مدة من طرف بعض الجمعيات والتنسيقيات الحقوقية المتصفة بكونها بلاغات حقوقية نسبة لمصدرها، أما بالاستناد إلى اللغة التي صيغت بها فلا يمكن الجزم بتاتا أن مصدرها حقوقي، خاصة حين تتم قراءتها في ضوء منهجية صياغة البلاغات والتقارير الحقوقية التي تختلف تماما عن صياغة بلاغات الأحزاب السياسية والحركات السياسية المعارضة التي لا تتقيد بلغة ومنهجية معينة بالنظر لاختلاف المرجعيات والأهداف المتوخاة من كل منها.
لقد أضحت البلاغات “الحقوقية” في الآونة الأخيرة، من بينها تلك التي تحظى برواج إعلامي مهم على المستوى الوطني والدولي، غارقة في اللبس حين تطرقها لبعض النصوص والمفاهيم القانونية والحقوقية، الذي يتم بشكل لا يخدم التعبير الحقوقي بالمغرب، حتى أضحت النيابة العامة و”مصادر أمنية” تتعقبها بالقلم الأحمر للتنبيه إليها، وما يؤسف له في هذا الصدد ما جاء في البلاغ الأخير الصادر عن وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بالرباط الذي ترفع عن تصحيحها تاركا الأمر حسب بلاغه “للرأي العام القانوني”.
في هذا المقال محاولة للتنبيه لبعض أهم ما تمت ملاحظته في هذا الصدد في بلاغ الائتلاف الحقوقي، دون الالتفات إلى أخطاء الصياغة اللغوية الكثيرة التي تميز عادة المسودات، وذلك من وجهة نظر ممارس للنشاط الحقوقي ودارس للعلوم القانونية، دون أن يعني ذلك التبخيس من المجهودات التي يبذلها هذا الائتلاف والجمعيات المشكلة له في محاولة تغيير الواقع الحقوقي لبلدنا نحو الأفضل.
1. كفى من الاعتقالات قبل التحقيقات والمحاكمات
جاء ضمن عنوان البلاغ عبارة “كفى من الاعتقالات قبل التحقيقات والمحاكمات”، وفي متن البلاغ تم توضيحها بتساؤل استنكاري ورد كما يلي:
“كيف يمكن الحديث عن سياسة جنائية تحترم حقوق المواطنات والمواطنين وتضمن الحرية إن كانت مساطر التحقيق تسمح بالاعتقال حتى في الجنح العادية، قبل أي تحقيق، وقبل أن يتأكد قاضي التحقيق من ارتكاب حقيقي لفعل جرمي، ومن وجود أسباب الاعتقال، ومن مبرراته”.
بداية، وجب التذكير بأن التحقيق هو الإجراء الذي يختص به قاضي التحقيق بناء على ملتمس من النيابة العامة الذي تليه مرحلة المحاكمة إن اقتضى الأمر، كما أن هناك حالة المحاكمة التي لا يسبقها تحقيق وتتم الإحالة عليها مباشرة من لدن النيابة العامة حين توفر شروطها.
فمن الواضح أن المقصود بعبارة البلاغ هو رفض منح اختصاص إصدار أوامر الاعتقال للنيابة العامة مطلقا إلى جانب قاضي التحقيق قبل أن يتأكد من ارتكاب المشتبه فيه للجرم أو من وجود أسباب الاعتقال ومبرراته، وكأن الأمر يمس بمقومات المحاكمة العادلة، وهو الاتجاه الذي لا أصل له، سواء في التشريعات المقارنة السائدة أو في معايير المحاكمات العادلة كما هي مسطرة في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
فخلال إجراءات البحث والتحقيق، سواء كما تضمنها التشريع المغربي أو وفق المعايير الدولية، يسمح بإعمال إجراء الحرمان من الحرية قبل أي تحقيق وحتى من طرف النيابة العامة، وذلك بالنسبة لجميع الجرائم دون أن يتعلق بنوعها أو بمدى خطورتها، وذلك في حال توفر شرطين، أولهما وجود شك معقول في ارتكاب المشتبه فيه للفعل المجرم، وثانيهما أن لا يتم ذلك بشكل تعسفي (لا ينص عليه القانون، مخالف للقانون، الاختطاف، التعذيب…).
وهما الشرطان المنصوص عليهما في كل من المادة 9 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والمادة 5 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، هذه الأخير تنص على أنه:
“(…) لا يجوز تجريد الفرد من حريته إلا في الحالات التالية، وطبقاً للإجراءات المقررة في القانون: (…) (ب) القبض على فرد أو احتجازه على نحو مشروع (…) لضمان امتثاله لأي التزام ينص عليه القانون. (ج) ضبط أو احتجاز فرد على نحو مشروع بغرض عرضه على السلطة القضائية المختصة، أو لوجود أسباب معقولة تدعو للاشتباه في ارتكابه جريمة ما (…)؛ أي شخص يلقى القبض عليه أو يحجز (…) يقدم فوراً إلى القاضي أو أي موظف آخر مخول قانوناً بممارسة سلطة قضائية، ويقدم للمحاكمة خلال فترة معقولة أو يفرج عنه مع الاستمرار في المحاكمة. ويجوز أن يكون الإفراج مشروطاً بضمانات لحضور المحاكمة”.
وفي هذا الصدد، رأت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أن وجود شكوك معقولة “يفترض وجود حقائق أو معلومات مقنعة لمراقب موضوعي بأن الشخص المعني ربما يكون قد ارتكب الجريمة. لكن ما يمكن اعتباره “معقولاً” يعتمد على كل الظروف”.
وترى اللجنة المعنية بحقوق الإنسان التابعة لهيئة الأمم المتحدة في التعليق العام رقم 35 المتعلق بالمادة 9 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، أنه “(…) يجب إخطار الأشخاص المعتقلين بغرض التحقيق معهم في جرائم يدعى أنهم ارتكبوها أو بغرض الاحتجاز السابق لمحاكمة جنائية، بالجرائم التي يشتبه في ارتكابهم لها دون إبطاء(…). وتقتضي الفقرة 2 أن يخطر الشخص المعتقل “دون إبطاء” بأي اتهامات، لكن ليس بالضرورة “في وقت القبض عليه” (…)”.
إن ربط الاعتقال بضرورة تأكد قاضي التحقيق من ارتكاب الشخص للفعل المجرم أمر غير مستساغ على مستوى اللغة القانونية، لأنه ليس من اختصاص قاضي التحقيق ولكن من اختصاص قضاة الأحكام، حيث “يختلف مفهوم الدليل الموجب للمتابعة بين قضاء التحقيق وقضاء الحكم.
فقاضي التحقيق يقرر المتابعة شأنه شأن النيابة العامة عند وجود ما يجعل الشبهة محتملة في تقديره. فهو لا يرجح بين حجج الإثبات وحجج النفي، ولا يرد أي دليل بحجة أنه لم يقتنع به، لأن ذلك يخرج عن سلطته. أما قضاء الحكم، فلا يأخذ بالأدلة إلا إذا كانت قاطعة أو وجد ما يجعلها مقنعة، فهو بذلك يقيم الحجج المعروضة عليه ويرجح بينها ويرد ما لم يقنعه منها. لذلك يقال إن “دور قضاء التحقيق هو جمع الأدلة، وإن دور قضاء الحكم هو تدقيقها وتقييمها” (وزارة العدل، شرح قانون المسطرة الجنائية، ج 1، ص 218، ط 3-2005).
2. أطلقوا سراح كل المعتقلين السياسيين ونشطاء حقوق الإنسان
دعا بلاغ الائتلاف إلى إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وهو مطلب غير دقيق في صياغته، وهو ما بدا جليا في النقاش الذي طفا سابقا بخصوصه بسبب اللبس الحاصل لدى البعض في تحديد مفهوم “المعتقل السياسي” وعلاقته بمفهوم “معتقل الرأي”، حيث إن التدقيق في المفهوم ذو أهمية بالغة لأنه هو وحده الذي يفضي إلى تحديد الموقف الحقوقي السليم المطلوب، الذي سيكون إما المطالبة بإطلاق السراح الفوري دون قيد أو شرط، وإما المطالبة بالمحاكمة العادلة.
وعلى سبيل المثال، تعتمد منظمة العفو الدولية على منهجية معينة في تحديد المفهوم وأثره، حيث جاء في دليل سبق أن نشرته في ماي 2002 ما يلي: “ويشمل مصطلح “السجين السياسي” سجناء الرأي وأولئك الذين لجؤوا إلى العنف الجنائي بدوافع سياسية على السواء. (أو اتهموا بارتكاب جرائم عادية أخرى من قبيل التعدي على الممتلكات أو تدميرها). إلا أن المنظمة لا تطالب بالإفراج الفوري وغير المشروط إلا عن سجناء الرأي (…)
إن قرار تصنيف شخص ما ضمن هذه الفئة غالبا ما يتطلب تحليلا متأنيا للحقائق. والموظفون في الأمانة الدولية هم المسؤولون عن اتخاذ هذا القرار، ويستندون في ذلك إلى معلومات تم جمعها من مصادر عديدة. وتقوم الأمانة الدولية بتقييم المعلومات في ضوء تعريف الحركة لسجين الرأي. وفي الحالات الصعبة، يمكن أن يحيل الباحثون هذه الحالات إلى مجموعة دولية مؤلفة من الأعضاء المتطوعين في المنظمة، وتدعى “اللجنة الدائمة للصلاحيات””.
وبالرجوع إلى بلاغ الائتلاف، فهل يتعلق الأمر بمن أسماهم “معتقلين سياسيين” بأشخاص لجؤوا إلى ارتكاب جرائم بدوافع سياسية ويلزم إطلاق سراحهم أم إن المقصود تحديدا سجناء الرأي؟ متن البلاغ لا يسعف في إيجاد جواب للموضوع، وهي مهمة ليست بالهينة حين يتعلق الأمر بمعتقلين من الفئتين ضمن نفس الملف، ولعل من اطلعوا على ملفات بعض الأحداث الأخيرة سيلمسون استحالة إدراج الجميع ضمن فئة واحدة.
3. بشأن الاعتقال الاحتياطي
سيكون من غير المستساغ أن تدعو هيئات حقوقية إلى وضع حد لفصل السلط، خاصة إذا تعلق الأمر بالتدخل في السلطة القضائية حيث تصبح ضمانات المحاكمة العادلة في غاية الهشاشة إن لم تضح منعدمة، لكن هذا ما توحي به صيغة بلاغ الائتلاف التي وكأنها “تتحسر” على عدم خضوع الاعتقال الاحتياطي لرقابة السلطة التشريعية، وذلك في الفقرة التالية: “(…) الاعتقال الاحتياطي ليس في مفهوم النيابة العامة تدبير استثنائي، بل هو تدبير مفروض تستعمله مباشرة، أو تأمر باستعماله عن طريق قاضي التحقيق، وذلك من دون أية مراقبة لإعماله، لا سياسيا من قبل البرلمان، ولا قضائيا من قبل المحكمة”.
لقد حسم الدستور المغربي في مبدأ استقلال القضاء بمقتضى الفصل 107 الذي نص على أن “السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية”، وهو مبدأ أقرته كذلك المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان التي جاء في قرار لها أنه يجب الإبقاء على استقلال المحكمة عن السلطة التنفيذية والهيئة التشريعية في كل مرحلة من المراحل الثلاث للإجراءات، أي التحقيق والمحاكمة والحكم.
وذكر البلاغ أيضا أن النيابة العامة تأمر باستعمال الاعتقال الاحتياطي عن طريق قاضي التحقيق، وهو أمر لا أساس قانونيا له، فقاضي التحقيق لا يخضع لأوامر النيابة العامة لاستقلالهما عن بعضهما، وفي هذا الصدد تنص المادة 89 من المسطرة الجنائية على أنه “يتعين على قاضي التحقيق إذا ارتأى ألا موجب للقيام بالإجراءات المطلوبة من طرف النيابة العامة، أن يصدر بذلك أمرا معللا خلال الخمسة أيام الموالية لتقديم ملتمس النيابة العامة (…)”.
كذلك يطال اللبس ما ذكره البلاغ من أن إعمال الاعتقال الاحتياطي لا يخضع لرقابة المحكمة، حيث لا يتضح من صيغة البلاغ إن كان المقصود هو الاعتقال الاحتياطي الذي تأمر به النيابة العامة أو الذي يأمر به قاضي التحقيق، هذا الأخير الذي يخضع لرقابة المحكمة بمقتضى المادة 223 من قانون المسطرة الجنائية التي تخول للمتهم الطعن في اعتقاله احتياطيا أمام الغرفة الجنحية بمحكمة الاستئناف.
على سبيل الختم
تستلزم صياغة المواقف الحقوقية الخضوع للمنهجية المتعارف عليها دوليا في هذا الشأن، والتي غايتها البساطة في اللغة والدقة في المصطلحات القانونية والحقوقية المستعملة وكذا الحياد، وتوجد في هذا الصدد العديد من الدلائل التي تشرح المنهجية الواجب اتباعها، من ضمنها دلائل أعدتها مؤسسات مغربية، وكذلك دولية، من ضمنها هيئة الأمم المتحدة، لكن ذلك يبقى أيضا رهينا بمدى رغبة نشطاء حقوق الإنسان في تبنيه كمسلك وحيد لمنح الخطاب الحقوقي مصداقية.