يرى الكاتب الغالي أحرشاو أنه إذا كان مفهوم المجتمع المدني يتحدد في التنظيمات النقابية والمهنية والثقافية والحقوقية والخيرية التي تدافع عن حقوق الناس وسلامة الطبيعة، وإذا كان مفهوم التنمية المستدامة يتلخص في تلبية حاجات الحاضر دون الإخلال بقدرة الأجيال القادمة على تحقيق رغباتها، “فإن تقييم واقع المجتمع المدني في المغرب يستدعي الإجابة عن مجموعة من الأسئلة”.
ويلخص الكاتب المغربي، في مقال له حول المجتمع المدني ورهان التنمية في المغرب، هذه الأسئلة في ما يلي: ما مقومات وإنجازات هذا المجتمع؟ ما هي معوقاته وتحدياته؟ وإلى أي حد يمكن تقديم بدائل لتجديد آفاقه؟ وللإجابة عنها، يشرّح الكاتب في مقاله ثلاثة أبعاد أساسية تتمثل في المقومات والإنجازات، والإكراهات والتحديات، وأخيرا البدائل والآفاق.
وهذا نص المقال:
الراجح أن بناء المواطن المدني المتحضر، المتشبث بالقيم الثقافية والثوابت الوطنية، المعتز بالهوية والانتماء، المدرك للحقوق والواجبات، أضحى يمثل أحد الرهانات التنموية المطروحة بقوة على معظم دول العالم بما فيها المغرب.
فبعد أن كان تحقيق هذا الرهان يتوقف بالأساس على مؤسسات الأسرة والمدرسة والحزب والإعلام والمسجد، أصبح منذ سبعينيات القرن الماضي يرتكز على هيئات وجمعيات المجتمع المدني البالغ عددها القانوني خلال 2020 حوالي 210 آلاف جمعية، والتي أضحى دورها المتمثل في تنمية السلوك المدني للأفراد والجماعات يشكل بالنسبة لنا في المغرب مطلبا استعجاليا وذلك لاعتبارات عديدة أهمها:
– تجذّر العمل الجماعي التطوعي القائم على التكافل والتضامن في ثقافتنا وهويتنا، وبالخصوص في الممارسة المنتظمة لبعض الأنشطة والتقاليد خلال مناسبات الحرث والحصاد، والأفراح والأعراس، ثم مواسم الحج والممارسات الروحية وغيرها.
– تأكيد المنتظم الدولي من خلال تقارير عديدة، على دور المجتمع المدني في خدمة التنمية، وبالتالي مطالبة كافة الدول الأعضاء منذ سبعينيات القرن 20 بإشراك الجمعيات المدنية في تنفيذ المشاريع والأنشطة ذات العلاقة بتجويد حياة الإنسان وحقوقه وبيئته.
– محدودية السياسة المغربية في مجال تكوين العنصر البشري، وتنمية قدراته ومهاراته على السلوك المدني، وبالتالي اتساع رقعة الأمية والفقر والبطالة وسط المغاربة بنسب تقدر على التوالي بحوالي 30% و 20% ثم 12.5%. هذا فضلا عن تواضع هامش العدالة الاجتماعية والحقوقية، ثم الديمقراطية الحقيقية والحكامة الرشيدة.
تبعا لهذه الاعتبارات نشير إلى أنه إذا كان مفهوم المجتمع المدني يتحدد في التنظيمات النقابية والمهنية والثقافية والحقوقية والخيرية التي تدافع عن حقوق الناس وسلامة الطبيعة، وإذا كان مفهوم التنمية المستدامة يتلخص في تلبية حاجات الحاضر دون الإخلال بقدرة الأجيال القادمة على تحقيق رغباتها، فإن تقييم واقع المجتمع المدني في المغرب يستدعي الإجابة عن أسئلة من قبيل: ما مقومات وإنجازات هذا المجتمع؟ ما هي معوقاته وتحدياته؟ وإلى أي حد يمكن تقديم بدائل لتجديد آفاقه؟ وذلك من خلال التفصيل في ثلاثة أبعاد أساسية:
أولها يهم المقومات والإنجازات؛ إذ إنه ورغم صعوبة التكهن بواقع المجتمع المدني في المغرب، وحجم مساهماته في سيرورة التنمية الشاملة، نتيجة محدودية المعطيات الإحصائية حول طبيعة أنشطته ونوعية نتائجه ورقم معاملاته، فمن الراجح أن فئة من جمعياته ومنظماته قد حققت بعض الإنجازات بفعل التحولات التي عرفتها منذ أواخر القرن 20 في أعدادها وأنشطتها ومشاريعها؛ فقد أصبح كثير منها يتخذ في الوقت الحاضر شكل مقاولات مواطنة، يحركها هاجس التنمية والمبادرة والاستثمار في كثير من ميادين العمل الإنساني والاجتماعي، وتحظى بالتالي برضا الدولة التي لم تعد تتردد في التعاقد معها كطرف فاعل يستوجب التشجيع بالدعم والمال والتأطير والخبرة من أجل المساهمة في تحقيق بعض مقومات التنمية التي تروم صون كرامة المغاربة وحقوقهم وحريتهم وبيئتهم بمحاربة جيوب الأمية والفقر والفساد والتهميش والعنف والتلوث.
لكن رغم ضخامة الجهود المبذولة بهذا الخصوص فإن عمل هذه الجمعيات والمنظمات مازال محدودا في أنشطته وبرامجه، متذبذبا في مساراته وتوجهاته، ومتواضعا في نتائجه ومردوديته. وهذه مسألة نستشهد عليها بالوقائع الثلاث التالية:
– المراوحة بين نظامين متباينين للعمل الجمعوي: واحد تقليدي يراهن على ثقافة التكافل والتضامن التي تتخذ طابع الإحسان والرأفة والصدقة، والآخر عصري يراهن على ثقافة المبادرة المواطنة التي تتخذ شكل خدمة التنمية الحقيقية بترسيخ مبادئ العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
– التذبذب بين الانتقائية والاختزالية في اختيار المشاريع وتنفيذها، بحيث تشكل بعض القضايا الحقوقية (الحريات، العنف، التحرش…) أغلب القضايا المستهدفة بالتدخل والمساعدة، في غياب واضح لخطة شاملة قوامها توسيع مدار هذا التدخل ليشمل أغلب الظواهر، وما أكثرها، كالفقر والجهل والأمية والفساد والتهميش والتلوث وغيرها.
– التّخبط في متاهات من المشاكل التي تحكم على برامجها بالتعثر وعلى توجهاتها بالانسداد، وذلك بفعل الخصاص الكبير في الدَّمَقْرَطَة والحكامة والمواطنة كمبادئ لتنظيم علاقاتها، وتدبير أنشطتها، وتنفيذ برامجها، وتقييم إنجازاتها. فأداؤها مازال هشّا، تحكمه من جهة عقلية الانتقائية التي تتبعها بعض قطاعات الدولة في دعمها، ومن جهة أخرى سمة التبعية للتمويل الأجنبي؛ فضلا عن النزعة الاستغلالية لبعض مسيريها، والمحدودية المهنية لكثير من أطرها.
البعد الثاني يتعلق بالإكراهات والتحديات البارزة؛ إذ إن محدودية سياسات الدولة في مجال التنمية بمختلف مكوناتها وتحدياتها كانت وراء ظهور كثير من الجمعيات المدنية التي ستحاول من داخل بعض أنشطتها ومشاريعها، المساهمة في تجويد مقومات العدالة الاجتماعية والحقوقية، وفي محاربة مظاهر الأمية والفقر والبطالة والفساد والعنف والتلوث، وذلك بالرغم من كونها مازالت رهينة جملة من المعوقات والقيود التي نجملها في المظاهر الأربعة التالية:
– هشاشتها وافتقارها إلى السياسات والخطط المحكمة في تحديد الأهداف والغايات، وفي تنفيذ المشاريع والبرامج، وبالتالي تواضع النتائج والإنجازات التي راكمتها سواء في مجال محاربة الفقر والأمية والبطالة والفساد، أو في مجال إدماج المرأة وحماية الطفولة والبيئة وحقوق الإنسان.
– افتقادها في كثير من أنشطتها إلى الإدارة الرشيدة، والتدبير الممنهج، والتسيير الديمقراطي، إذ قليلا ما تتصرف كمقاولات حديثة تحكمها قواعد تنظيمية واضحة، وتسيرها أطر كفأة وذات مصداقية، وفي معزل عن سياسة التخبط التي كثيرا ما توجّهها مصالح فئة حزبية معينة، أو منافع حركة حقوقية محددة، أو مزاجية أشخاص لا علاقة لهم بالعمل المدني كفعل تطوعي نبيل ونزيه.
– اعتمادها سياسة التمييز والمفاضلة بين الظواهر المستهدفة بالتدخل، إذ نجدها تركز في الغالب على قضايا المرأة والطفولة وحقوق الإنسان على حساب ظواهر أخرى لا تقل أهمية كالفقر والأمية والتهميش والبيئة.
– امتثالها في كثير من الحالات إما للسياسات والإملاءات الوطنية والدولية لضمان التمويلات والميزانيات المطلوبة، وإما للضغوط الاجتماعية والنعرات السياسية والحقوقية الضيقة المبتغى والأفق.
أما البعد الثالث والأخير فيرتبط بالتنبيه إلى أهم البدائل والآفاق المستقبلية للمجتمع المدني في المغرب من خلال التركيز على المداخل الثلاثة التالية:
– بلورة خطة طموحة ومتكاملة للعمل المدني في المغرب، من غاياتها الأساسية تأهيل الإنسان وتحديث المجتمع واستغلال الطبيعة وفق تصورات وممارسات جديدة، قوامها صون الكرامة الإنسانية، وخدمة التنمية البشرية، وتجويد العدالة الاجتماعية والحقوقية، ثم الحفاظ على سلامة البيئية والطبيعة، بعيدا عن اجترار وإعادة إنتاج ظواهر الفقر والأمية والتهميش والعنف والتلوث بتقديم بعض الدعم والمساعدات الظرفية.
– اعتماد رؤية مدنية هادفة تؤطرها خطة دقيقة المنطلقات والغايات، وتوجهها أهداف تنموية واضحة، وتحكمها معرفة عميقة بواقع الإنسان المغربي ومشاكله المتنوعة. بمعنى الرؤية القائمة من جهة على أسس ومعايير السلوك المدني بأخلاقياتة وقيمه ومقوماته النبيلة، والمتشبعة من جهة أخرى بروح المواطنة الحقة، والحكامة الجيدة، والديمقراطية الفعلية، والعدالة الاجتماعية والحقوقية، بعيدا عن منطق التطفل والاستغلال، وممارسات التهريج والاسترزاق.
– العمل بالفلسفة المدنية المبنية على دعم الدولة وإرادتها السياسية في تشجيع العمل الجمعوي وتعزيز مبادراته وأنشطته عبر عقد شراكات تصب كلها في اتجاه خدمة التنمية المستدامة. لكن دون أن يعني ذلك تفويض مصير حل جميع معضلات المجتمع ومشاكله للجمعيات المدنية التي لا يمكنها أن تقوم مقام الدولة مهما بلغت أنشطتها وإنجازاتها من القوة والضخامة والنجاعة.